مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

كبرتُ يا أمي..

كبرتُ يا أمي..

حملتْ أذيالها وخرجت مهرولة في شوارع القرية وتكاد تعثر بقلبها الملتهب.. لقد مرت ساعات النهار بطيئة وهي على الشرفة واقفة بانتظار عودته، فعيل صبرها والشمسُ قد شارفت على المغيب.. لم تعرف كيف عبرت التعرجات والمنعطفات حتى وصلت إلى "المركز".. وقبل أن تطرق الباب لمحت أيمن قادم من بعيد.. فأكملت ناحيته وقد سبقتها دموع عينيها وخنقتها حشرجة أفقدتها القدرة على الكلام لبُرهة قصيرة، ثم قالت له وهي تمسح ما فاض من دموعها بأصابعها المرتجفة:
- أين ربيع؟
كان أيمن يُدرك أنها لن تستمع لما سيقوله، فهو أخبر الناس بها.. وأخبرُ الناس بربيع!
رقَّ قلبه لأجلها، وهي تذرف ما تذرف من الدموع.. نظرت إليه وعينيه الذابلتين قد ألقى الظلُ عليهما سواداً خفيفاً، وقالت له:
- لقد وصلتُ صباحاً من بيروت.. حينما دخلتُ البيت وجدت زوجي وابني نائمين.. ولكني لم أجد ربيع.. قال لي زوجي أنه كان نائماً.. فرحتُ أصرخ له عسى أن يكون في حقلٍ قريب.. وانقضى النهار ولمّا يأتي بعد.. ولكني اعلمُ أنه يتحين الفرص للبقاء هنا بالقرب منك، أليس كذلك؟
أطرق أيمن برأسه وابتسامة صفراء لونت كلامه: يا حاجة أم زهير..أنتِ تعرفين جيداً أن ربيع لا يأتي إلى هنا لأجلي.. وإن كنتُ صديقه.. إنه يأتي إلى حيثُ يحبُّ ويريد أن يكون..
لم تجدْ ناحية تهربُ إليها بنظراتها.. فالحقيقةُ هي ما نطق بها أيمن.. أوليس ربيع هو من يحملُ ما في البيت من طعام ويجلبه إلى "المركز"، محتجاً أنه ورفاقه سينزلون إلى النهر؟! أوليس ربيع من يأتي إلى هنا ما إن يرفعُ الليل هدبه للشمس ويتحير كيف يخدم المجاهدين، فتارة يحضر الشاي، وتارة يساعدهم في التنظيف، ويمكثُ معهم النهارات الطويلة، وإن طلبوا إليه الرحيل إلى البيت، يخرج من الباب ليقفز من الشباك! وعندما يرجع منهكاً إلى البيت عند المغيب، تسأله: "أين كنت يا ربيع " فيجيبها: هنا.. كنت هنا، قريباً من البيت.."
ولكن الحقيقة أن ربيع صار سيّدُ الاختفاء! وكأنها تلعبُ معه لعبة القط والفأر.. فعندما كانت العائلة في بيروت، اختفى لثلاثة أيام، كانت كفيلة بأن تدّمر أعصابها، وأخيراً جاء أبوه وأخوه إلى قريتهم جباع حيث التقوا بأيمن، فأخبرهم أن ربيع في دورة ثقافية وقد ظنّ أنه أخبرهم بذلك! وسرعان ما أطل ربيع برأسه من خلف جدار المسجد وجاء إلى أبيه..
لم يعد ربيع ذلك الطفل الذي يمشي مطأطأ الرأس.. أو الولد الشقي الذي يخشى من عقاب والديه.. لقد أصبح شاباً في السادسة عشرة من عمره.. شاباً يريدُ أن يترك القلم ليس بغضاً به، بل عشقاً للذهاب إلى ساحة الجهاد.. فكيف له أن يتابع حياته وشباب آخرون يفنون حياتهم في سبيل الله والأرض.. كيف ستغفو عينه وهناك من يسهر في عمق المحاور المتقدمة، وتحت عيون العدو الإسرائيلي في ظروف مناخية وجغرافية قاسية وصعبة؟! لقد صار ربيع يتنفسُ الحياة من رائحة المجاهدين العائدين من العمليات العسكرية.. فأي منزل بعد ذلك سيحتوي أحلامه؟!
ولكن! ماذا تفعلُ أم بقطعة منها تريدُ الانفصال عنها.. قطعة لا تريدُ شيئاً من هذه الحياة ؟!
همس أيمن لها بصوتٍ لطيف يبوح بالحنان: عودي إلى المنزل وانتظريه.. فهو في دورة ثقافية، ولن يتأخر بالعودة.. لقد أصبح ربيع شاباً..
وبصوتٍ خانقٍ خافت قالت: إنه صغيرُ السن! لا يزال طفلاً.. آآآه.. لم تتركه وشأنه يا أيمن! لم تتركه وشأنه! لقد رافقت ربيع حتى صار مثلك تماماً! والآن تقول لي بكل بساطة أنه في دورة ثقافية !
أطلق أيمن زفرة متحسّرة، وقال: مثلي!!
وصمت برهة صغيرة: في الحياة، يا حاجة أم زهير، يتأثرُ المرء بكل شيء.. إلا أن يصير مثلي؛ فمن يختارُ طريقُ الشهادة يمشيها لوحده، لا أحد يجبره على ذلك..
استدارت لتمشي إلى بيتها وأيمنُ واقف ينظر إليها بحسرة.. فلم تعرف إن كانت تمشي أم الأرض تدور بها!  كانت تعاتب روحها في قرارة نفسها، فمن تلك التي لا تتمنى أن لا يكون ابنها كأيمن بعلبكي؟! هذا الشابُ الذي لم يبلغ بعد السابعة عشر من عمره وكأنه رجل يقارب الثلاثين رزانة وفهماً وتديناً.. كانت نسوة جباع يغبطن أمه عليه، فكانت إن خرجت إلى السوق في بيروت عادت لتجد أيمن قد رتب البيت ومسح البلاط، وإن اضطرت للخروج اهتم بإخوته، وإن تعبت أو مرضت خدمها بأهداب عينيه؛ هذا أيمنُ الابن البارُ، الشاب الجميل الطلعة، صاحب التقاسيم الطفولية البريئة.. ولكنّه أيضاً الشاب المجاهد الذي يخرج كفنه بين حين وآخر أمام أمه ويقول لها: تذكري أن مصيري هذا.. تعودي على ذلك.. فأنا مشروع شهيد!
توقفت قليلاً وتنهدت.. ثم استدارت وإذ بأيمن لا يزالُ ينظر إليها، فمضت في طريقها باكية، وقد زاد الندمُ من اوار نارها، وإذا ما سمع ربيع بما تفوّهت به لجنّ جنونه!
جلستْ عند عتبة بيتها وزوجها يحاول تهدئتها.. ولكن عبثاً! عادت إلى بيروت والتفت العائلة حولها في محاولة للتخفيف عنها، وكل يحاول إقناعها بما سمعته عشرات المرات:
- "إنها دورة فحسب وسيعود"، "لو سمحت له لما ذهب من دون أن يخبرك" ،"لقد كبر ربيع فاتركيه على راحته"، "ربيع اختار طريقه ولن يستطيع أحد أن يقف بوجهه.."
ولكن ضجيج قلبها كان أقوى من كل الأصداء التي تناهت إلى سمعها، فحملت أطرافها قائلة لزوجها: سأبحثُ عنه لوحدي.. أحدٌ منكم لا يعرف ما في قلبي! ربيع طفلي الصغير سيعود إلى البيت، وسيفعل ما أطلبه منه! إنه لا يرفض لي طلباً..
ربّت زوجها كتفيها محاولاً تهدئتها: ربيع لن يفعل إلا ما يريد.. انظري ماذا فعلنا كي نردعه عن قراره! ماذا كانت النتيجة؟! ألم تطلبي مني أن يعمل عند صديقي في مكيانيك السيارات؟! أسبوع واحد وبعدها كان في جباع يشارك بدورة ثقافية! أنا أقدّر قلقك وخوفك.. ولكن ربيع اختار طريقه الذي لن يثنيه أحد عنه.. لا أنا ولا أنت.. ولا أحد..
شدّت على ناجذيها واستأذنت زوجها وتوجهت إلى أحد الأخوة المجاهدين الذي تعرفه، فهو سيقول لها الحقيقة، ولن يفعل كأيمن الذي يتحير كيف يخفي عنها كي لا تصبّ جام غضبها على ربيع..
وصلت إليه، وقد وشى اصفرار وجهها أنها مفارقة للطعام منذ أيام. حاول تهدئتها والتخفيف عنها، ثم أخبرها أن أيمن لم يستطع القول أن ربيع في دورة عسكرية خوفاً عليها..
ودارت الأرض بها.. دورة عسكرية!! وصفقت كفاً بكف، وكأنّ مصيبة حلّت بها.. تحيّر الشاب ، فما قاله أن ربيع في دورة عسكرية وليس في عملية عسكرية!
"ولدي الصغير يحمل سلاحاً؟! ولماذا!! إنه في السابعة عشر من عمره فحسب! يا ويلي! وأين هذه الدورة العسكرية؟! هه، قل لي أين؟"
لم يعرف الشاب بماذا يجيبها، فخفف عنها: انتظريه.. يومين وسيعود إليك إنه في مكان آمن..
خرجت من عنده لا تلوي على شيء، وهي لا تبصر أمامها سوى وجه ربيع، بوجهه الأسمر وبريق عينيه الساحر ولحيته المبعثرة على خديه وابتسامته الخجولة..
وقفت في شارع السيد عباس الموسوي في حارة حريك حيث سكنها، وهي لا تعرف ماذا عساها تفعل! كان أمامها حل وحيد "لتستعيد" ابنها...
الطريق طويلة ومتعبة.. لم يسبق لها أن سلكتها لوحدها.. لم تبصر شيئاً من كل تلك القرى المترامية الأطراف التي قلبتها بناظريها، ولم تستمع إلى الأحاديث التي دارت رحاها في السيارة، فظلت صامتة فيما صخبٌ في عقلها شلّ قدرتها على التركيز..
لقد طلبت إلى سائق السيارة أن يوصلها إلى قرية النبي شيت، فهي تؤمن بالمثل القائل: من يسأل لا يضيع..
لم يرهقها بقاءها بلا طعام لعدة أيام بقدر ما أتعبها ما أسمته "طنيناً" فوق رأسها من محاولات حثيثة لثنيها عن ما ترغب القيام به..
- لقد وصلنا إلى النبي شيت
قال السائق لها..
فطلبت إليه أن يوصلها إلى منزل والد السيد عباس الموسوي..
طرقت الباب الذي ما إن فتح على وجهها حتى انهارت باكية.. جلس والد السيد وزوجته معها يشربون القهوة وهو يحاول أن يخفف عنها وهي تعيد على مسامعه: أعرف أنك تستطيع مساعدتي.. أرجوك أن تفعل ذلك.. أنا لا أريد شيئاً سوى ولدي.. إنه صغير السنّ.. أريد أن أراه..
اتصل والد السيد عباس بأحد المعنيين واستعلم عن ربيع، ثم حاول أن يهدئ من روع الأم التي كادت أن تفقد روحها: إنه بخير.. يومان وسيكون في المنزل..
وقفت: لا.. لن أذهب من دونه..
لم يستطع والد السيد فعل أي شيء أمام إصرارها، ودموعها التي لم تجف..
وأخيراً وبعد طول جدال.. ركبت السيارة التي توقفت أمام المنزل، ولوحّت لوالد السيد وزوجته اللذين وقفا متحسرين لأجلها وهي تشكرهما على كرمهما معها، وهدأت النار التي أحرقت قلبها..
كانت الطريق متعرجة جداً وصعبة.. وشمس البقاع اللاسعة تركت حبيبات العرق على وجهها الذي أوحله الغبار..
وصلت السيارة وركنها السائق تحت شجرة.. ترجلت منها وهي تنظر إلى الخيم المنصوبة بدقة، وعشرات الشباب يمشون مشية عسكرية وهم يهتفون بصرخاتٍ تثير الحماسة في النفس.. جاءها صوت من خلفها : السلام عليكم
نظرت ناحيته فإذا هو شاب في مقتبل العمر.. ردت عليه السلام، فأردف: لحظات ويكون سراج هنا..
ابتسمت وهي تمسح على وجهها: لا.. أنا لا أريد سراج.. أريد ابني ربيع.. ربيع محمد وهبي..
ضحك الشاب ضحكة خفيفة: سراج هو اسمه الجهادي..
رفعت حاجبيها مستغربة وتفتحت على ثغرها ابتسامة خفيفة: آآه..
استأذن الشاب وجلست على صخرة صغيرة تفرك بأصابعها حيناً وتنظر ناحية المعسكر حيناً آخر، وتمتت: فليحفظكم الله.. ما شاء الله! شباب كالأسود..
- أمي..
جاء الصوت ضعيفاً فارتجف قلبها.. وردت روحها إليها، وما إن استدارت ورأته حتى القت بنفسها عليه وضمته ضمةً قبل أن يُغشى عليها..
حينما فتحت عينيها كانت ممدة على التراب وظل الشجرة يغطيها، ورأسها على ركبة ربيع الذي يمسح بلطف وجهها بمياه باردة..
كانت وجهه الأسمر موحلاً قليلاً.. وشعره كثيف.. وعيناه...!
- أتبكي يا حبيب قلبي؟!
قالت وقد رفعت كفها لتلامس خده ومسحت بإبهامها دمعة ساخنة عن طرف عينه..
- لا تبكي يا نور عيني.. لا تقلق لن أدعك هنا.. عد معي يا ربيع.. ألهذا الحدّ أنت متعب؟
قبّل باطن كفها قائلا: أجل.. أنا متعب جداً.. متعب لأجلك.. وما بكائي إلا عليك.. أبكي لعذابك.. أبكي لأنك جئت إلى هنا بحثاً عني.. أنت تحرقين قلبي يا أمي..
سوّت جلستها ونظرت إليه: أنت ولدي..
أمسك بكِلتا يديها وقبّلهما: وأنتِ أمي..
سكت برهة صغيرة: وأنا أحبك.. أحبك جداً.. ولكن حبي لله وأهل البيت أكبر.. حبي لله هو الذي أوصلني إلى هنا.. أنظري إلى نفسك.. أنا أقطعُ أنك لم تأكلي منذ أيام.. ولم تعرف عيناك النوم.. ولقد تورمتا من شدة البكاء.. وجئت إلى هنا في طريق صعبة، وطرقت الأبواب.. لماذا ؟! لأنك تحبيني.. أليس كذلك يا حبيبة قلبي؟! أنا ابنك.. فكيف لا تريدين أن أسلك ما سلكت وأعبر ما عبرتْ لأجل الله الذي هو خالقي؟!
كانت تبكي بصمت.. رفعت ناظريها إليه وهو بثيابه العسكرية وقد رأته رجلاً قوياً.. وقفا.. قالت له: أنت روحي التي بين جنبي..
أجابها: عندما أعطاني الله إياك لم يسألك.. وإذا أراد أن يأخذني إليه لن يسأل كلينا..
ضمها إليه: لقد كبرتُ يا أمي.. لم أعد ذلك الطفل الصغير.. كبرتُ وأنا الآن مجاهد في المقاومة.. هذا ما أريده أنا.. انظري إلى كل هؤلاء الشباب.. جميعهم.. كل له أم وأب..
قاطعته: ولكن..
فأكمل قائلاً: ولكنك أم كأغلب الأمهات.. الأمهات اللواتي يدفعن أولادهن إلى ساحات الجهاد..
برودة غريبة صُبت في قلبها فهدأ روعها وهي تسمع منه ما أيقظها من غفلتها.. قلبت كفيه لتبصر ما بهما من جروح.. قبّلت جروحه قائلة: كبرتَ يا ربيع..
ضحك قائلاً: أجل .. كبرتُ.. وأذكرك بأني أكبر من أيمن بسنة، وأنت تلحقين به في شوارع القرية قائلة اترك ولدي الصغير!!
ابتسمت: يا لأيمن!
حضن خديها بكفيها ونظر إليها نظرة ثاقبة: ماذا قلتِ له .. اعترفي!
ضحكت: وماذا سأقول له!
- " أم زهير... ماذا قلت لأيمن عن غيابي؟"
- قلت له هل ارتحتَ الآن.. لقد رافقك حتى صار مثلك! أليست هذه الحقيقة؟!
- بلى ! وهل هناك مثل أيمن؟!
- في الحقيقة.. بعدك أنتَ.. لا!
ضحكا.. وتعانقا طويلاً قبل أن تركب السيارة، أمسك بطرف الشبّاك: لن تلحقي بي ثانية أليس كذلك؟!
حضنت يديه بكفيها: سألحق بك إلى القبر..
ابتسم وهو يلوح لها ويدها ما فتئت تلوح له حتى اختفت عن ناظريه..
نسرين ادريس قازان – إرث الشهادة 07.03.2014 /12:47 p.m.


إهداء إلى المرحومة الحاجة سميرة منصور صالحة، ارتفعت إلى جوار ربها في العام 2008 وهي والدة الشهيد المجاهد ربيع محمد وهبي (سراج): مواليد جباع الحلاوي 07.03.1976، استشهد خلال مواجهة بطولية في عقماتا قضاء جزين بتاريخ 19.09.1996.
الشهيد المجاهد أيمن حمزة بعلبكي (علاء)، مواليد جباع الحلاوي11.03.1977، استشهد خلال عملية عسكرية على موقع الريحان بتاريخ 03.06.1994.
والد الشهيد سماحة السيد عباس علي الموسوي الأمين العام لحزب الله، ارتفع إلى جوار ربه في العام 2012.


المصدر: إرث الشهادة.

التعليقات (0)

اترك تعليق