مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

الشهيد في مجتمع النجف الأشرف

الشهيد كما تقرأه أم جعفر: الشهيد في مجتمع النجف الأشرف

الشهيد في مجتمع النجف الأشرف:
لقد اُدخلت عروساً على السيد الشهيد وهو رجل كامل، قد بلغ شأوه، في ذلك المجتمع النوعي.. وكان عمره عند اقتراننا سبعاً وعشرين عاماً. وقد عُرف آنذاك واشتهر عنه اجتهاده، وتسنّمه أعلى المراتب العلمية. له طروحاته الفكرية المتميزة ونظرياته المبدعة، في كلّ الحقول العلمية. وله اسمه وأتباعه ومريدوه وأنشطته الجهادية في المجتمع. كان بيته بيت مرجعية تقريباً، وإن لم يطرح نفسه في ذلك التاريخ كمرجع للتقليد، احتراماً للفطاحل من كبار مراجع التقليد المعروفين ذلك اليوم. بل إنه دعم تلك المرجعيات بكل ما يستطيع، رغم أنّ له مؤاخذاته وملاحظاته الخاصة على وضعية المرجعية ككل. ودورها وطريقة تعاطيها مع الأوضاع والأحداث، سواء الداخلية منها أو العالمية.
لقد رأيته مذ تعرفت عليه وارتبطت به يحمل همّ «المرجعية الرشيدة». فكان ينادي بها،ويستخدم كل أدواته المتوفرة من خلال دروسه وتلامذته وكتاباته ومجالسه، لنشر مفهومها والدعوة إلى العمل من أجل إقامة ومَأْسسة هذا الصرح البنّاء، في بيوتات المرجعية الموجودة فعلاً.
لمْ يقصد من ذلك بناء مجد شخصي ولا كان يتأمل يوماً أن تنصرف الأنظار إليه، وهو الذي انسلخ عن ذاته، وذوّب كل أنانياته وصهر وجوده فناءً في ذات الله وجهاداً في رضاه، ورضاه لا غير.
بل قد عرفه الجميع بالتواضع والأدب الجم ونكران الذات. حتى أنّه لم يكن يقبل أي إطراء أو ثناء من أحد. ولم يكن يرضى بإضافة الألقاب إلى جانب اسمه المبارك على أيٍّ من مؤلفاته أو مقالاته. بل كان يدفع الآخرين من طلاّبه ومريديه لتبني هذا الخلق الكريم. وأنّ (من كان حقيقته جوزة، فلن تصنع منه الألقاب جوهرة، ومن كان جوهره حقيقةً، فلن تتبدّل حقيقته أو تنقلب إلى جوزة، إذا ما نودي باسمه عارياً عن تلك الألقاب).
من ضمن البرامج التي اعتاد السيد الشهيد الحرص على إجرائها دورياً مسألة إقامة مجالس العزاء، في بعض المناسبات وخاصة في ذكرى وفاة النبي الأعظم(ع) ووفاة الإمام السجاد، والإمام الكاظم(ع). وكان يستضيف عدداً من الخطباء المعتبرين في النجف، كالشيخ المرحوم عبد الحميد الهلالي، وابنه الشيخ جعفر، والشيخ شاكر القرشي، وغيرهم كثيرون، وفي مرة، استضاف الشهيد خطيباً بارعاً، كنا نحبّ نحن نسوة البيت الاستماع إليه، وهو الشيخ الإيرواني(رحمة الله)، ثم إنه استأذن السيد الشهيد، بعدما أنهى قراءة المجلس في أن يلقي قصيدة في ذكر الشهيد ومدحه. فرفض الشهيد، وألحّ الخطيب، ولكن الشهيد أصرّ على الرفض بشدة، حتى استسلم الآخر أمام مهابة السيد الشهيد.
إن تواضعه وانسلاخه عن حظوظ ذاته، هو الذي دفعه ليزجر خادم المجلس (البرّاني) المرحوم الحاج عباس، المؤمن والمحب المخلص عما كان يتفوّه به أحيانا. فقد كان يدفعه إعجابه بسيّده (الشهيد) لأن يكرر أمام الشهيد والملأ الحاضرين قوله: سيدنا؛ إنّك لست فقط ابن أمير المؤمنين بل أنك أنت بنفسك أمير للمؤمنين، فكان يبدو على محيّا الشهيد الانزعاج، فيزجر الحاج عن ذلك ويأمره بالكف وتقوى الله.
بالطبع: هذا الحاج الطيب كان قد فجع بعد إعلان إعدام الشهيد، وآلمه النبأ أشدّ الإيلام، حتى لقد أصيبت مقاتله بذلك النبأ، وسرعان ما خسرناه من بعد الشهيد، فقد توفاه الله إلى رحمته بكمده وحزنه وغمه.
وفي حادثة أخرى: أتذكر أن شائعة سرت في أوساط بعض المحبين والأتباع، من أنّ هناك رواية تنسب إلى النبي(ع)، تتضمن الحديث عن أحوال آخر الزمان وانحراف أهله وأخلاقهم وأنه يأتي في ذلك الزمان رجل من ولدي، يبقر العلم بقراً، وأنه وأصحابه سيتعرضون لألوان من الظلم والاضطهاد والتهوين حتى من قومهم. وأنهم سيكونون كالغيوم المتفرقة في فصل الخريف. وأن المقصود بذلك هو السيد الصدر وأتباعه.فوقف الشهيد أمام هذه الشائعة، ومنع من انتشارها. وكان يعاتب من يعرف أنه يقف وراءها.
إن الحديث عن أخلاقيات الشهيد حديث يطول ذكره. فمعاملته مع الناس من حوله. ومشاعره تجاه المؤمنين، وعواطفه الجياشة تجاه الأصدقاء والضعفاء والمحتاجين، بلغت مستوىً، جعل البعض يعيبه عليه. ما كان يسمع خبراً يسيئه عن بعض أصدقائه، أو حتى طلابه، أو أي إنسان آخر يتعرّض لألم أو مصاب، حتى تنهمر عيناه بغزير الدموع. كما حصل أيام تسفير طلابه‏(1) من قبل النظام البائد. فقد كان يودِّع الواحد منهم وهو في حالة من الأسى، وهو يقول: والله يعزّ عليّ فراقكم.
ومن القضايا التي تأثر لها فآلمته وأحزنته، حين نُقل له خبر وفاة تلميذه السيد عبد الغني الأردبيلي، فتفجع له ورثاه رثاءً بليغاً. وكذلك تأثر بنفس الدرجة لرحيل صديقه الوفي والحبيب إلى قلبه المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية(2).
لقد عهدته دائماً يسوّي بين أطفاله، وبين من يسمّيهم أولاده من تلامذته والمحيطين به من حيث الحب والرعاية والتحنن الذي كان يبرز منه تجاههم. كان يشعر بأبوة صادقة تجاههم وتواضعه وتنازله عن حقوقه الشخصية لأجل طلابه، وتفانيه في حبّهم، وإيثاره لهم بوقته وجهده، وكل ما يقع في يده من إمكانات، كان أمراً ملموساً.
لم يحلم يوماً أن يكون له دارٌ خاصة مملوكة له، ولم يسع أن يملك من حطام الدنيا، ما هو من الأمور المعتادة عند سائر الناس.
نعم، كان يأمل كثيراً في أن تتوفر قطعة أرض كافية، ليوقفها مدفناً له ولمن أحبّ من تلامذته وخواصه. وحتى هذا الأمر المشروع والنزيه، لم يتحقق له. بل قد غُدِر بليل، وقتل في الظلام، ثم اُخفي قبره عقدين ونصف من الزمان، إلى أن شاء الله أن يظهره كالشمس قد أشرقت، رغم ما حاول الطغاة أن يطفئوا نوره، وأبى الله.كان السيد الشهيد مستعداً، تمام الاستعداد، لو نكل الجميع عن تحمل الأدوار الصعبة، للتصدي بنفسه إن رأى الضرورة تقتضي ذلك. لقد كان يرى أن المرجعية يجب أن تبقى دائماً متقدمة في الصف الأول من صفوف المواجهة: مجاهدةً للطاغوت، ومحارَبةً للفساد، واُسوةً في مشاركة الفقراء والمحرومين آلامهم وهمومهم.
كان دائماً يكرر: (إن مرجع التقليد الذي تقاد إليه رقاب الأموال الشرعية، باعتباره خير أمين مستأمَن عليها، يجب أن يكون آخر من ينعم بمأكل ومشرب أو بملبس ومفرش، وأشباه ذلك. ألم يقل نبي الهدى(ع) (ليشرب ساقي القوم آخرهم)؟ فهكذا يجب أن يعيش المرجع كسائر طلبة الحوزة ولا يتميز عنهم بشي‏ء).
لذلك فإنّ السيد الشهيد لم يدّخر لنفسه إلاّ ثوباً(3) واحداً وقباءً واحداً. يديم ويكرر غسلهما ولبسهما، ليس غير. وتبريره في ذلك إذا سئل: ليس لي إلاّ جسد واحد. فعلام الإكثار منها؟!
وأتذكر هنا أنني سألته في الأيام الأولى من اقتراننا بعيد الزواج، قلت
له: أين ملابسك؟ فأجاب بتلقائية: (لقد ارتديتها)! ولم يجبني بأكثر من ذلك. أي لم يكن عنده غير ذلك.
غير أن أمّه كانت حاضرة، فعلقت على سؤالي وجوابه، موجِّهة حديثها إليه: (أرأيت؟ ألم أقل لك إن امرأتك يوماً مّا، ستسألك عمّا تلبس وترتدي؟). فلم يزد على أن تبسم من قولها وهو يهزّ رأسه.
لقد عرفت من أحاديث الحاجة المرحومة أمّه: أنه كان في زمن مضى، يتقاسم ثوبا واحداً، هو مع أخيه المرحوم السيد إسماعيل، الذي كان أطول قدّاً منه. وذلك عندما كانت حالتهم المادية في ضيق وضنك، ولم يكن الثوب في مقاسه، صالحاً تماماً لأيٍّ منهما. بل كان أقصر من قامة السيد إسماعيل، لأنه الكبير منهما، في الوقت الذي كان الشهيد إذا لبسه، سحبه سحبا على الأرض إلاّ أن يرفعه بيديه، وهو يمشي، فكان كل منهما يرتديه إذا أراد الخروج من المنزل، مما يضطر الآخر إلى البقاء في الدار.
كلمته يوماً عن هذا الموضوع، قلت: حسنا تلك حالة استثنائية، وقد مضت ببؤسها وحقرها وفقرها. فما الداعي الآن والأموال تنكب بين يديك أن تقتصر على اقتناء ثوب واحد وقباء واحد؟! فأجاب: إني اُريد أن أواسي أفقر إخواني وأبنائي الطلبة، وأعزيهم عما هم فيه، من ضيق الحال، «ليحبرني الله حُلة خضراء في يوم القيامة»(4).
كم وكم أُهدي إليه من أنواع التحف والهدايا الفاخرة، من أقمشة وعباءات، وعطور راقية وأموال سائلة من قبل محبِّيه ومريديه في سائر أنحاء العراق وخارجه. فكان يتقبّلها ممتناً شاكراً. إلاّ أنه لم يكن ليستأثر بشي‏ء منها لنفسه. بل كان يقدمها بدوره هدايا لمن يراه مستحقاً لها.
لقد أهدى إليه يوماً شخص من «آل عطية»، سيارة جديدة فاخرة، فتقبلها وشكر لمهديها صنيعه. وما شاهد من تلك السيارة إلا مفاتيحها، لأنه سرعان ما أمر ببيعها وصرف ثمنها في شؤون طلاب العلم المستحقين.
وفي مرة أخرى كان قد عرض للبيع بيتٌ في الجوار، قريباً من الدار التي كنا نسكنها. فسمع بذلك أحد المحبّين من المؤمنين، وعرض على السيد الشهيد أن يشتري له تلك الدار ويملّكه إياها، لأنه كان يعلم أن دارنا قديمة ومستأجرة. فلم يقبل ذلك السيد الشهيد. وقال: إني مكتفٍ ولست بحاجة إلى دار ولكن في الطلبة من هو أحوج إلى مثله. ثم إن الشهيد أخذ بيد ذلك الشخص المحب الطيب وطلب منه أن يرافقه إلى شارع قريب هو شارع الإمام زين العابدين(ع) المنتهي إلى الحرم العلوي الشريف، وأوقفه هناك على قطعة من الأرض جرداء، معروضة للبيع. وقال له: إن كان لديك من مال، ورغبة في الثواب والأجر، فاشترِ هذه الأرض وأوقفها، ولسوف نبنيها شققا سكنية، تخصص لطلاب العلم في الحوزة.
ولقد تم شراء الأرض من قبل ذلك المحسن جزاه الله خير الجزاء. إلا أن الزمن لم يمهل السيد الشهيد. فقد عاجله القدر، وأحب الله له أن يرتفق إليه قبل أن تتحقق فكرة البناء تلك.
كل ما ذكرته هنا من أمثلة على إيثاره، إنما هو مما كان يقدم إليه على سبيل الهدية الشخصية، وباسمه لأجل شؤونه الخاصة. وأما ما كان يقدم إليه بعنوان الحقوق الشرعية، فذلك كان له حسابه الخاص عنده. وكان يرسم حوله خطوطا حمراء وصفراء وسوداء. فلا تمتدّ إليه يد بغير إذنه.
وقد كان يشرف هو على تقسيمه وصرفه ووضعه في مواضعه.
ولقد كان على رأس كل شهر، يأمرني أن أجلس بجانبه بالقرب من خزانةٍ(5) مفاتحها بيده. كانت في الغرفة العلوية من البيت. فكان هو يحسب مقداراً معيناً لكل طالب علم، ويأمرني، فأضعها بدوري في ظرفه الخاص فأكتب اسماً معينا، بحسب السجل الذي كان عنده. ليقوم هو بأخذها إلى مسؤول توزيع الشهريات، على طلاب العلوم الدينية. وكنت أرى مئات الألوف من الدنانير تسيل بين يديه، وأنا أعينه على توزيعها وأداء الأمانة إلى أهلها. فلم يكن ليزيد لنفسه أو لأهله شيئاً منها ولو ديناراً واحد، أكثر مما كان يقسمه بين طلابه أو المحتاجين. وقد يتفق أحيانا أن يصله ريع بعض ما يقدم للطبع والنشر من نتاجه الفكري، ومتى ما وصله شي‏ء من ذلك، كان يمتنع عن أخد سهمه المعتاد الخاص به من الحقوق الشرعية تلك، وذلك حتى يوفره لغيره.


الهوامش:
1- تعرض مجموعات من طلابه ومريديه عدة مرات للترحيل والتسفير القسري عن العراق سواء إلى إيران أو اللبنانيون منهم إلى لبنان، وكان منهم سماحة المرحوم الشهيد السيد عباس الموسوي وسماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله.(حفظه الله).
كان للسيد الشهيد علاقة صداقة وأخوة حميمية مع المرحوم الشيخ مغنية. وكان المرحوم الشيخ يرى للسيد الشهيد موقعية وأثراً متميزاً عن غيره، وكم كرر الشيخ على مسامع السيد الشهيد: (لولاك لأصبحت شيوعياً كغيري مما أراه).
3- هو ما يسمّى بالدشداشة في العراق وبلدان الخليج العربية.
4- دعا لنفسه بما هو مضمون حديث عن رسول الله بهذا المعنى.
5- كنا نسمّيها القاسة.



المصدر: وجع الصدر.. ومن وراء الصدر أم جعفر: الأستاذة الأمل البقشي.

التعليقات (0)

اترك تعليق