مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

رحلة إلى الله

الشهيد كما تقرأه أم جعفر: رحلة إلى الله

بعدما مضى على اقتراني بالشهيد خمس سنوات، رزقنا فيها بطفلتين. وبعد أن بلغت الثانية منهما فطامها(1)، وصرت أطمئن إلى أنهايمكن أن تستغني عني، لو غبت عن البيت فترة، هناك جهرت للسيد الشهيد بحلم طال كتماني له في حنايا قلبي، ظل يراودني فترة طويلة ولكن لعلمي بعدم قدرة السيد الشهيد على جعله واقعاً، فقد كنت أكتمه، وذلك هو الانطلاق إلى رحاب البيت العتيق، الذي جعله الله للناس مثابة وأمنا وقياماً.
وأعاقني عن ذلك أيضاً أمر آخر، وهو إصابتي في مدة مضت، بمرض اليرقان الذي لازمني فترة. وكان قد عم الابتلاء بهذا المرض كثيراً في تلك الأيام. ثم إن الله منّ عليّ بالشفاء منه.
وبعدها وصلني شي‏ء من المال من الوطن الأم «قم» المقدسة، وذلك كان إرثي من والدي قدس الله نفسه، وكان قدر المبلغ سبعة آلاف تومان إيراني، فادّخرتها لمثل هذا اليوم، حيث يمكن أن يتحقق الحلم. ثم إني صارحت الشهيد برغبتي في أداء ذلك الفرض الإلهي العظيم. واعتذر الشهيد كما توقعت. ولكن قلت له: إنني أدعوك للحج معي بهذا المبلغ المدّخر عندي، فهو كاف لكلينا، خاصة وأن زوج أخيك المرحوم إسماعيل: العلوية أم السيد حسين الصدر، أيضاً هي راغبة في الحج. وهي تملك أيضاً قسطاً من المال،من إرث لها كذلك، ولسوف يكفي مجموع المبلغين بعد ضمهما إلى بعضهما لنا نحن الثلاثة. في رحلة مبرورة إلى حج بيت الله. فوافق الشهيد على شرط اشترطه على كلتينا: وهو أن يكون السفر للحج فقط، وتكون رحلتنا عبادية محضة، نؤدي فيها فرض ربنا لا غير. وألاّ نذكر في هذا السفر السوق ولا التسوّق. فقبلنا وهكذا كان.
فتحركنا لترتيب أمور السفر من إعداد الأوراق الرسمية، والاجراءات الضرورية، واتفق الشهيد مع أحد المؤمنين من أصحاب السيارات، وهو الحاج حسُّون الذي كان يكنى بـ «أبو علاء»، والذي جعل من رحتلنا شكر الله له ذلك ، رحلة ميسرة بدماثة خلقه، واستجابته لكل ما يطلب منه، من دون ملل و لا تضجر.
ومن جهتي أنا، أخذت اُعدّ العدة اللازمة، من مأكل وملبس. فخصصت حقيبة من حقائب السفر لحمل الحبوبات من أرز وغيره، ومقادير من النواشف والسكّر والشاي. ولم أنس اصطحاب موقد صغير، وُفِّقنا بسببه لاختصار جزءٍ كبير من النفقات وتكاليف السفر.
ثم قد أمَّنت الطفلتين عند جدتهما أمِّ السيد الشهيد حتى أذن الله لنا في يوم مبرور من أيام شهر ذي القعدة الحرام من تلك السنة(2)، وتحركت فيه السيارة.. وتحركت معها قلوبنا وأشواقنا، متلهفةً للقاء المحبوب. كان الشهيد اتخذ موقعه، في الكرسي بجانب السائق. ومن ورائه، تقاسمت المقعد الخلفي مع العلوية أم السيد حسين، زوج أخي الشهيد، وهي ابنة عمٍ لنا معاً (المرحوم آية الله السيد محمد مهدي الصدر)، وألسنتنا تلهج بذكر الله، والثناء عليه والصلاة على رسوله(ع)... وأرواحنا تكاد لا تقر في أجسادها. وأما القلوب فقد قفزت من مكانها، ولا جرم، فإنّ «محلّها إلى البيت العتيق».
حل المساء وقد أدركنا الليل ونحن في الكويت. وصرنا نبحث عن مكان للمبيت فيه. ونزلنا في أحد فنادق العاصمة. ورغم أن للشهيد هناك معارف وأصدقاء ومحبين، إلاّ أنه شاء أن تكون حجتنا خفية خالصة، بلا ضجيج، ولا حاشية ولا أتباع.
رحب بنا مسؤول الاستقبال في الفندق وأخذ يعرض علينا خدماته، ومميزات الإقامة في فندقه، ومن أهمّها حسبما قال: وجود أحد الأسواق الراقية قريباً من الفندق، وأستطيع أن أدلكم عليه.
فتبادلت النظر مع السيد الشهيد وأنا أبتسم له، وكأني أقول له:
خذ.. هذا في أول الطريق. لسنا نحن من ذكر السوق، بل هو مضيفك.
في صباح اليوم التالي توجهنا إلى الحدود السعودية، وبتنا ليلتنا الثانية في فندق في مدينة الدمام، في المنطقة الشرقية. ثم واصلنا الطريق حتى مدينة الرسول(ع).. وهناك نزلنا في دار، من الدور التابعة لشيعة(3) المدينة المنورة المعدة للإيجار ونزول الزائرين. ولكنّا وجدناهم آنئذ فئة من الناس محرومة تعيش الفقر والإهمال في تلك السنين، يعيشون في بيوت متهالكة تفتقر إلى أبسط الخدمات المدنية العادية. فحتى الماء، كانوا يجلبونه إلى بيوتهم على العربات اليدوية في براميل. ويخزنون الماء عندهم في خزانات من الصفيح.
ولم أتحمل هذا الوضع. إذ كنت قد ربيت ونشأت في بيئة أكثر تمدناً من هذه الجهة في إيران ثم في العراق. ووجدت مسألة التطهير والنظافة، مسألة شائكة وعويصة شاقة علي. مع أن مبلغ الإجارة كان مناسباً لنا إذ لم يكن ليكلفنا كثيراً. والأهالي كانوا على درجة عالية من الطيبة والطهارة والتديّن. إلا أن الوضع لم يكن محتملاً من جهتي لناحية توفر إسالة الماء.
فطلبت من الشهيد تغيير مكان إقامتنا، والانتقال إلى مكان أنظف وأكثر وفرة للماء وأسهل في استخدامه. فقال: إن ذلك يقتضي أن يكون مبلغ الإجارة مضاعفا وهذا يتطلب بالتالي الاقتصاد في مصروف المأكل والمشرب. ووافقنا على ذلك. فانتقلنا إلى فندق في شارع رئيس مطلٍ على الحرم الشريف، والبقيع معا، وهناك استقرَّ بنا المقام، وطاب لنا حينها حتى القيام بالطبخ. إذ مضت علينا عدة أيام منذ خرجنا من العراق، ولم نطعم أكلا من طبخ أيدينا. إذ كان اعتمادنا طوال أيام متوالية، على الخبز والنواشف.
ولكن مع طيب الاقامة في الفندق ذاك، تسنى لنا أن نستمتع بتناول ما تطبخه أيدينا، فحتى الفسنجون‏(4)، تمكنا من إعداده هناك مرة وحيدة لم تتكرر في تلك السفرة.
بالطبع كنا قد بادرنا متلهفين بكل شوق، في أول ساعات وصولنا إلى يثرب الطيبة لزيارة النبي المصطفى(ع). فمبجرد وضع متاعنا، وبعد الاغتسال والتهيؤ للزيارة، خرجنا مهرولين تدفعنا أمواج من الحب والشوق هاجت وجاشت في الصدور، للقاء الحبيب، والسلام على نبي السلام، ساكن طيبة المباركة.
إني لا أستطيع الآن أن أعبِّر عن تلك المشاعر التي اختلجتني لأول مرة رمقَت فيها عيناي تلك ا لقبة الخضراء الشامخة. ولعل أصدق الكلمات التي يمكن أن تعكس تلك الأحاسيس الصادقة التي كانت تجتاحني، هو قول محبة مثلي وجهت نداءها وشدوها إلى رسول الصدق والحب:
باسمك المبارك.. باسم محمد الميمون.. أنت النبي..
بشارة الرحمة لعالم الإمكان.. أنت النذير لعالم يتهدده الإفك والطغيان.
أنت الرسول.. رسول السلام في كل آن.. بك نملك أن نفتح أبواب السماوات.. دعاءً وعروجاً ووصلاً بالحبيب،
أيها الحبيب:
أستوهبك ما أوقر ظهري، وأقض مضجعي. أستوهب منك ذنوبي.. وأمدّ إليك اليد مستجدية.. مستعطية.. غفرانا ورضوانا.
في محضر قدسك الأقدس.. في حلو إسمك.. عطر السنديان والريحان.. في روض حمدك.. أي محمد..
أتَنسَّم أريج الجنان..
عجبا لحروف الهجاء كيف الْتَقَت لترسم اسمك!.. لكن.. فلينقضِ عجبي.. ألم ترسم هذه الأحرف قرآنا تنزّل من مقام أحمديتك.. تنزل به الأمين على قلبك.
يا أحمد السماوات، ويا محمد الأرضين.. ذكرك صَلاتي.. يا فرحة نفسي وصِلاتي..
ما كلفت البحث عن قوافي تمجدك.. فالقوافي تبعثرت.. تناثرت.. تكسرت. ليس هو بالشعر، ولا بالنثر. إن هو إلا سبحات روح جابت بعض معانيك.
إن هو إلاّ نفحات فيض.. جدتَ بها عليّ متكرما.
أضرع إليك توسلا..
أنر قلبي.. يا سراج الوجود
فأنت الحبيب.. يا مشكاة الحب والقداسة.. يا رنين الخلود والأبدية، يا صدى الأزل.. أيها السرُّ الإلهي المعلَن.. رحمة للعالمين‏(5).


الهوامش:
1- قبيل إتمامها سنتها الثانية، بدأنا نسقيها حليب البقر الطازج، ابتعاداً عن حليب الأطفال المجفف. وتطلّب هذا الأمر وجود الحليب طازجاً وسليماً بشكل دائم في البيت. ولكن واجهتنا مشكلة أن ليس عندنا في البيت ثلاّجة مبردة. فاضطررنا أن نرهن قطعة من السجّاد العجمي صغيرة أُهديت إلي أبان زواجي، فرهناها في المصرف (البنك) وأخذنا في مقابل رهنها قرضاً استطعنا به شراء ثلاّجة لأول مرة.
2- كان ذلك سنة 1387 هـ.
3- وهم الذين يطلق عليهم هناك «النخاولة»، كما يسمّون باللهجة الحجازية في الحجاز. وأصلها «النخالوة» أي الفلاحين الذين يعملون في مزارع النخيل، وهم في الأصل كما في بعض المصادر من نسل وذراري عبيد كانوا للإمام الحسن السبط، الذين كانوا يشتغلون له في الزراعة. ثم أعتقهم ووهبهم الحرية والصنعة والكرامة، بعد أن علّمهم معالم الدين الحق.

ولذلك كانوا على مدى التاريخ المتعاقب من شيعته الثابتين في المدينة المنورة.
4- هي من الأكلات الخاصة والمعتنى بها في إيران والعراق، ولها شهرة هناك.
5- من يراع قلم الكاتبة.


المصدر: وجع الصدر.. ومن وراء الصدر أم جعفر، الأستاذة الأمل البقشي.

التعليقات (0)

اترك تعليق