مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

في رحاب البيت العتيق

الشهيد كما تقرأه أم جعفر: في رحاب البيت العتيق

في رحاب البيت العتيق:

بعد تصرّم عشرة أيام تامة في ظلال محمد الأمين، والأئمة الطاهرين صلّى الله عليهم أجمعين، توجهنا إلى مكة المكرمة استعداداً للحج. فمن مسجد الشجرة حيث أحرمنا، انطلقنا صوب المشاعر المقدسة، تلبي أرواحنا وقلوبنا ذلك النداء الموغل قِدَماً في التاريخ: أذان أبينا الخليل إبراهيم(ع) واتجهنا بوجودنا كله إلى ربِّ البيت والمقام.. وإله الحلِّ والحرام.. نلبي ونكرر:
(لبيك اللهم لبيك.. لبيك ذا المعارج لبيك.. لبيك تستغني ويُفتَقر إليك.... لبيك..).
دخلنا مكة المكرمة، واتجهنا إلى البيت الحرام، التفتُّ إلى الشهيد ونحن على أعتاب الحرم الشريف فرأيته كأنه قد ذهل وجوده ومَن حوله حينذاك. أتممنا أعمال عمرة التمتع في يسر. إذ لم يكن هناك أعداد كبيرة من الحجاج آنذاك في مثل تلك الأيام.
بقينا في مكة، قبل التحرك نحو عرفات عدة أيام، نكرر الزيارة والطواف في البيت العتيق. ولا أنسى هنا أنني أتيت يوماً مع السيد الشهيد إلى المسجد الحرام وبعد الطواف حول البيت، رمى الشهيد بنفسه على شاذروان الكعبة متعلقاً بأستارها، وكان ذلك في داخل حِجر إسماعيل تحت الميزاب، وقد تحاذفت عيناه بالدموع، وسالت مسيل الجداول تخضل محاسن وجهه، ولكن في صمت وأناة، قد اضطرب كيانه. لقد كنت أراه يرتعد كسعفة في مهب ريح. جلست جانبا، أقرأ بعض الأوراد والأذكار حينا.. وأرقبه حينا آخر.. حتى إذا سكت أنينه الخافت، وانفتل مما كان فيه، توجه إلى خلف مقام «إبراهيم». وقد كنت قريبة منه هناك. فشاهدته قد بقي واقفاً خلف المقام مشدوهاً، قد انشدّ وجوده إلى الكعبة الشريفة.. ولكني لاحظت أن عينيه بدتا كالزائغتين، وقد انخطف لونه وخيِّل لي أنه يترنَّح، فخفت عليه من السّقوط.
فأسرعت إلى بئر زمزم، ورجعت ومعي شي‏ء من مائها المبارك، ورششت منه على وجهه، وقدمت إليه إناء الماء وقلت: هاك ابن عمِّ فاشرب من هذا الماء. وهنا التفتَ إلى ناحيتي موجها إليّ نظرة عتاب، قائلاً في نبرة كلها أسف: ماذا فعلتِ يا ابنة العم، هلاّ تركتِني وما كنت فيه. فرددت: خفت عليك أن تسقط، لقد أشفقت عليك من الهلاك.
وأقبل يوم الله.. يوم الحج الأكبر، وصعدنا مع الصاعدين إلى عرصات المعرفة، المباركة: "عرفة".. تلك الأرض الموغلة في ضمير الوجود، حيث وقف هناك يوماً أنبياء الله المرسلون وأولياؤه الطاهرون.. وفي تصعيدنا كان الشهيد يحدثنا عن هذه المشاعر والشعائر المقدسة وتاريخها وعظمتها والمعاني العامرة في أجوائها، وأريج النبوات المتعاقبة المنبعث منها.
في يوم التاسع.. يوم الحسين(ع) ويوم الأولياء والصدّيقين.. رأيت الشهيد قد أخذ موقفه على ذلك الصعيد الطاهر مشتغلاً بأذكار ذلك اليوم وأوراده وهو في أحوالٍ وأهوال لم أشهده في مثلها من قبل.. ولكني في هذه المرة عندما عرفت أنه بدأ يفقد إحساسه بوجوده، تركته يسترسل في عروجه حتى لا أقطع عليه نشوة الروح في أبهج عرس ملكوتي، منفوجٍ بطيب الوصال.. وصار يقرأ دعاء الإمام الحسين(ع) المعروف والمختص بذلك اليوم العظيم. وفي دعائه ذاك أحسست أنه لم يكن يشعر بما يجري من حوله.. لقد كان يهيم عارجاً في سماوات عوالم أخرى غير هذا العالم، تارة يناجي وتارة يسكت متأملاً، وعيناه تتفجر دموعا قد التهبت لها الأجفان، وتارة يسبّح، وقد ينخرط فجأة في نوبة من البكاء المرير.. تلك حالة ما رأيت لها مثيلاً في حياته، إن تلك الحالة كانت انعكاسات وجدانية لذروة تعلقه بالمعبود. صحيح أني كنت لطالما استيقظت في بهيم الليل، فأراه صافاً قدميه بين يدي الجليل. فكنت أبقى مستيقظة مرافقة له، أسبح معه في عالمه، ثم أتأمل ما قد تنتابه من حالات روحية مختلفة. لقد كان يخيَّل إليّ عندها، أحيانا،ً لطول سجوده أنه قد قُبِض. أو أنه يقوم بعد ذلك واقفاً ليطيل القراءة.. فإذا نشر كفّيه للدعاء، تهدّج صوته وخنقته عبرته.. فأسمعه يناجي طويلا، ثم قد يختفي صوته.. فيبقى ساكناً واجماً في وقوفه حتى يركع.. ذلك كان ديدنه، ولكن ليس كمثل يوم عرفة ما يشبهه.
وأرى هنا فرصة للاستطراد في الحديث قليلا عن علاقته الروحية بالله تلك، التي امتدّت وانعكست أيضاً في علاقته بأنبياء الله وأوليائه.. بالرسول الأكرم(ع) وبالأئمة الطاهرين(ع)، التي كانت علاقة شفّافة حية وطرية.
فإذا تكلم عن أحدهم(ع) فكأنه يراه ويجالسه.. وإذا ذكرهم أو تطرّق لبعض ما جرى عليهم في إحدى محاضراته فلربما استعبر، وقد يعجز عن إتمام كلامه إلاّ بعد توقفٍ لهنيئة من الزمن.
كان له برنامج عبادي لقراءة بعض الزيارات المخصوصة لعامة أئمة أهل البيت(ع) أو لخصوص الإمام الحسين(ع)، من قبيل الزيارة الجامعة ودعاء الندبة وزيارة عاشوراء، وكان يعتبر أنّ هذه المأثورات وغيرها إنما هي علائق ووشائج بين السماء والأرض ينبغي أن يُتعبَّد بها حرفياً، لأنها باب عريضة إلى الملإ الأعلى.. ووسيلة لامحيص عنها لاستنزال الفيض والرحمة.
لقد كان شديد الحرص على الذهاب إلى كربلاء كل ليلة جمعة لزيارة الإمام الحسين(ع) ولم يفته ذلك إلا ّنادرا، وهو ما يؤكده أيضا مدير مكتبه سماحة السيد محمود الخطيب حفظه الله، الذي كان يرافقه بشكل دائم في تلك الزيارات. ويذكر السيد الخطيب أن المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية كان في رفقتهما في إحدى المرات، وعندما واجه الشهيد الضريح المقدّس بدأ يقرأ مضامين زيارة عاشوراء، فكان صوته مسموعاً.. وقد ظهر من تهدُّجه بالغ التأثر والتفاعل مع تلك المضامين، وكان الدمع منه إذ ذاك هتولاً.. بل طفق يبكي بحرقة وتفجع فجذب حزين صوته وبكائه مَن كان يسمعه من الزوّار، حتى تحلَّق حوله جماعة ممن تفاعلوا معه بتفاعله. كان مشهداً مؤثراً ومميزاً بحسب نقل البعض ممن كان حاضراً.
وفي أثناء ما كان الشهيد مشتغلا بتلك الزيارة والقراءة والمناجاة والبكاء، تساءل السيد الخطيب أمام المرحوم الشيخ مغنية عن سبب شدة البكاء الذي يلازم السيد الشهيد في مثل هذه الحالات، وعن خصوصيّة الوضع الذي كان يعيشه إذا اشتغل بالزيارة فأجاب الشيخ(رحمة الله): (إنه يعرف من يخاطب ويدرك تماما حقائق ومعاني المضامين التي يقرأها في الزيارة).
من أعظم المنن والألطاف التي حظي بها السيد الشهيد في مكة تلك السنة، أن وفِّق للدخول إلى داخل الكعبة المشرفة، من خلال مشاركته في إجراء مراسم غسل البيت العتيق شرّفه الله، وذلك أنه وِجِّهت إليه دعوة رسمية من قِبل المسؤولين في إدارة سدانة البيت الحرام، لأجل هذه المشاركة.، فرغم أنّا حاولنا أن تكون سفرتنا هذه خفيفة خفيّة بلا ضجيج ولا شواغل ولا أتباع،إلا أن الكثيرين علموا بوجوده. وأعتقد أن سماحة الإمام الحكيم، الذي اتّفق أن حجّته المشهورة كانت متوافقة مع حجتنا في ذاك العام، هو الذي أعلن عن وجود سماحة السيد الشهيد بين الحجاج في ذلك الموسم. وهذا ما دفع البعض للاعتناء والاهتمام بحضوره في مراسم غسل الكعبة الشريفة. وهكذا وجِّهت إليه الدعوة المذكورة.
اذكر هنا أن السيد الشهيد دخل عليَّ منزلنا حيث كنّا نقيم ، بعد انتهاء تلك المراسم المباركة، وشحوبٌ كشحوب الموتى يصبغ محيّا وجهه. ولما أراد أن يتخفف من ثيابه طلباً لشي‏ء من الراحة. قلت له: صبرا ابن عمي، قبل أن ترفع شيئاً من ثيابك، انفض عليَّ عباءتك، لعلِّي أنال من بركات ما علق بها من غبار الكعبة. وبالفعل أخذها ونفضها عليَّ مرتين. ثم رمى بنفسه ليستريح.
أدّينا مناسك الحج، وشهدنا منافعه. وقضى حجاج بيت الله تفثهم. سقى الله تلك الأيام.. إن تلك الرشفات من مياه زمزم، لا تزال ينبوعاً في داخلي، تتجدّد، كلما أظمأتني بوائق الدهر. وإن تلك العرصات والحرمات والمشاعر المقدسات لا يزال غبارها وهواؤها أريجاً تتنسمه الروح حياة وقوة، كلما ضاقت فسحة الحياة.
واقترب الوداع، وأخذنا نستعد للرحيل، ونأخذ للسفر أهبته. وقبيل اليوم الأخير، دعي السيد الشهيد من قبل الإمام السيد الحكيم(قدس سره) لحضور مأدبة غداء، كان قد رتَّبها على أثر مؤتمر كبير أقامه الإمام، حضره جمع من أعلام المسلمين من مختلف الطوائف الذين أتوا حجاجاً في تلك السنة. وعندما حضر السيد الشهيد، وجدها مأدبة عظيمة، عامرة بألوان الطيبات. وذلك مراعاة لوزن الضيوف الذين أتوا من كل فج عميق. لكن السيد الشهيد مع ذلك، تشاغل ببعض ما وجد أمامه من الخضرة أو الماء، عن تناول أي شي‏ء مما تطيب له النفس، وتلذ له العين. دون أن يلحظ ذلك منه أحد!
وفي النهاية رجع إلى منزلنا ذاك، وبادر قائلاً: ابنة عمي، هاتِ ما عندك، إن وُجد عندك ما يؤكل. فاستغربت كلامه: ألم ترجع للتوِّ من مأدبة الأكابر تلك؟؟.
أجاب: نعم ولكني ما كنت لأنعم بشي‏ء من لذاتها، وأنتِ قد رضيتِ لنفسكِ بقطعة من الخبز، وشي‏ء من الإدام الخفيف!. وكنا حقا قد حزمنا أمتعتنا، بعد أن اتفقنا على أن نكتفي في يومنا الأخير من إقامتنا بقوت المسافرين العجلين، ولم يكن بين يديَّ حينها بالفعل، إلاّ شي‏ء من الخبز والقليل من الجبن والخيار مع الشاي. فتناولنا غداءنا شاكرين.
ودّعنا البيت الحرام للمرة الأخيرة، بعد أن أدّينا فرض ربنا. وكانت الحجة الوحيدة في حياتنا. فالشهيد لم يتمكّن من الحج من بعد تلك السنة. وإن كان وفِّق لعمرة قبل استشهاده بقليل، تحت حراب الطاغوت‏(1). وحتى أنا لم أوفق لحجة أخرى. غير أني وفقت لمصاحبة السيد الشهيد في العمرة التي أشرت إليها.
بعد ظهيرة يومنا الأخير في مكة المكرمة، حملنا متاعنا وركبنا العربة (السيارة)، ميممين وجهنا صوب الوطن، حامدين شاكرين ربنا، على ما وفقنا وهدانا ورزقنا من بهيمة الأنعام.
من الخواطر الظريفة، التي يطيب لي تذكرها عندما تمر على ذهني الآن: أننا في مرحلة من مراحل طريق العودة، توّه سائقنا (أبو علاء) طريقه عند مفترق طرق. ولقد كان السيد الشهيد مشغولاً طوال الطريق إمّا بالمطالعة، أو الاستغراق في الكتابة. فلما رأيت السائق متحيّراً، أشرت إليه من الخلف حيث كنت أقعد إلى جهة اليمين، وقلت: إن من هناك طريقنا الصحيح. فلم يقتنع السائق. واتّجه إلى وجهة أخرى وتوغّل فيها مسافة،إلى أن أدرك أن الطريق غير الطريق. وسرعان ما سأل أحدهم، فأرشده إلى الجهة السابلة التي كنت أصرّ على صحتها. وهكذا عاد أدراجه إلى نفس الجهة، فشعرت بزهو وثقة، وصار السائق بعدها إذا تحير، يسألني عن اتجاهه: هل هو صحيح أم لا.

الهوامش:
(1) سيأتي ذكر ذلك في فصل قادم.




المصدر: وجع الصدر.. ومن وراء الصدر أم جعفر، الأستاذة الأمل البقشي.

التعليقات (0)

اترك تعليق