مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

أم الشهيد.. تلك الثكول

أم الشهيد.. تلك الثكول

في لبنان التقيت لأول مرّة أم الشهيد، قبيل زواجي منه بقليل، فرأيتها امرأة جليلة، عظيمة القدر، ذات مهابة وجهامة. كبيرة في السن. إذ كانت في السابعة والستين من عمرها. وقد لاحظت عليها أنها دائمة الاتشاح بالسواد. وبقيت مجللة به إلى أن توفاها الله، لم ترفعه عنها يوما منذ عرفتها.
كانت حليفة المصحف الشريف وسجادة الصلاة. لم تستغن عنهما يوماً. ولم تنقطع عن الذكر ما أمكنها. دفعني ما لاحظته منها لأن أتساءل وأتفحص عن دواخل هذه المرأة الجليلة: فما سبب هذا المظهر الحزين الدائم؟
لقد عرفت فيما بعد أنها امرأة ابتليت بلاءً مراً، في جميع أدوار حياتها. فقد قدِّر لها أن تنجب سبعة من البنين، وسبعاً من البنات، دفنتهم جميعاً كلهم في حياتها. أحد عشر منهم توفوا صغاراً، لكن حتى الثلاثة الذين بقوا وعاشوا منهم وهم المرحوم السيد إسماعيل الصدر، وسيدنا الشهيد وأختهما الشهيدة بنت الهدى، هؤلاء أيضاً سبقوها إلى الدار الآخرة، وشاء الله أن تفجع بهم، فلم يبق لها من أولئك الأربعة عشر من فلذات كبدها من يقف منهم على قبرها، بعدما دُفنت غريبة مظلومة، عن عمر ناهز السادسة والثمانين(رحمة الله).
كان المرحوم السيد إسماعيل، هو الابن الحادي عشر في سلسلة ولائدها، ثم ولدت من بعده طفلاً اختاره الله في صغره كمن سبقه، وكان شهيدنا الصدر هو صاحب الرقم 13 في تلك السلسلة التليدة.
وآخر حلقات تلك السلسلة هي الشهيدة بنت الهدى. فخْرُ جيلها وعميدة نساء عصرها.
الأب المرحوم السيد حيدر الصدر، ودّع عائلته وارتحل عنها، وكان عمر الشهيدة ابنته شهوراً معدودة. وهكذا خيّم شراع الحزن على وجود هذه المرأة الصابرة، المستسلمة لقدرها ولربها. فإن خسائرها لم تقتصر على فقْد ولدها، بل ابتليت كذلك في جميع قراباتها وذويها من الإخوان والأخوات. وهكذا عاشت في غربة لَفَّتها وصبغت وجودها، واختتمت أحزانها بداهية فقدها للشهيدين الأخيرين من ولدها.
تلك هي الحاجة الفاضلة سليلة بيت العلم والشرف "بتول" ابنة المرجع الكبير الشيخ عبد الحسين آل ياسين. وإخوانها ثلة من مراجع الدين المعروفين في النجف الأشرف: الشيخ محمد رضا آل ياسين أشهرهم وأفضلهم علماً، والشيخ راضي، ثم الشيخ مرتضى آل ياسين، أما أخواتها فهنّ خالات السيد الشهيد وأزواج أعمامه كما سلف.
كانت أم الشهيد تخيط ملابسها السوداء بيدها، وبوسائلها اليدوية البسيطة: الخيط والإبرة لا غير. وكان الشهيد كثيراً ما يلاطفها، ويحاول أن يخفف عنها أحزانها الدائمة. كان يقول لها: تعزي بنا فنحن اليوم بجوارك. ونحن الذين بقينا لك. لقد اجتهد كثيراً للتغيير من وضعها النفسي. وإدخال السرور على قلبها وخاصة بعد افتقادها ابنها السيد إسماعيل. وأودع التراب وهي حية ترزق، على أنها لم تجزع ولم تعترض على قدر الله. لكن هذا شاق على قلب الأم. وفي الأخير تعلقت أكثر، وصبت كل آمالها على السيد الشهيد وأخته بنت الهدى. الذَين ما فتئا يحاولان التعويض عليها، إلى أن أجرى الله مقاديره بحسب ما شاء وله الحمد.
من جهتي، منذ دخلت بيت الشهيد، فقد أحببتها وأحبتني، فغدت لي أُمّاً، وصرت لها كبنت الهدى، وحاولت أن أوحي لها بأن تعتبرني كإحدى بناتها اللاتي افتقدتهن، وأنا عوض من الله لها.
وكانت على قدر استطاعتها قد اختصّت ابنتي الكبرى بمزيد من الرعاية والحب، حتى أنّي كنت أشتغل تماماً بشؤون البيت دون أن أقلق ذرة على ابنتي الرضيعة ما دامت تحت نظر وعناية جدتها، إلى أن كبرت.
كنت أجلس بجانب الحاجة أم الشهيد فترات طويلة، نتسامر ونتجاذب أطراف الحديث، وفرط سعادتها وانجذابها عند ما كان يتجه الحديث إلى ماضي الذكريات. كانت تحدثني عن ماضي الأجداد والآباء وأحداث العراق، والأهل والناس.
من تلك الذكريات التي حدثتني بها أن السيد الشهيد عاش يتيما، قد رحل عنه والده (السيد حيدر) وللشهيد ثلاث سنوات. وكان رجلاً حنوناً، وزوجاً محباً، وأباً رؤوفاً، كان من العلماء الأفذاذ ومن المجتهدين البارعين. قالت عنه: إنه كان لي خير معين على محنتي التي لازمتني بفقد الولد والأحباب، صابراً ومشجعاً، ذاكراً ومذكراً. ثم تتأوّه بتفجع لتقول: آه.. كم افتقده وأشعر بالغربة من بعده.. أني لأنعُم واُسعَد بشذى تلك الذكريات.
إن السيد حيدر زوجي عالم معروف في أوساط العلماء والفقهاء. وقد كان من مراجع التقليد وأئمة الفتيا، وله ذكر جميل في بعض الكتب والمجلاّت‏(1).
ويستمر هدير الذكريات على لسان أم الشهيد عن زوجها المرحوم فتقول: إن ليلة وفاته أحدث شرخاً في قلبي وزلزالاً في وجودي، لم أجد بعده قراراً، فقد اجتمعت عليّ بعده عساكر الهم وتكاثرت. لقد كنت في السابعة والثلاثين من عمري، وترك لي طفلة رضيعة هي بنت الهدى مع فتىً في الثالثة، مع أخٍ لهما في بدايات شبابه هو السيد إسماعيل ولكن قبل ذلك، ترك فلذات لكبدي وكبده توزعت رموسهم بين قبور الموتى.
توفي في مدينة الكاظمية، في ليلة مدلهمة من ليالي البؤس والفقر الذي كنا نصالِيه في تستر مطبق.. مع أنه كان مرجعاً للتقليد من كبار المراجع. غير أن العفة والنزاهة لم تسمحا له بالاستفادة من موقعه لأخذ أكثر مما كان يراه فوق حقه، حتى لقد بتنا في الليلة التي أعقبت وفاته بدون طعام عشاء للأطفال، إذ أنه كان يتصرف في أي مبلغ حق شرعي يصله في نفس يومه، بعد أن يأخذ منه لنفسه ما يتبلّغ به وعائلته.. ويبقى اليوم الآخر رهناً بما قد يصله. وهكذا قضينا ليلتنا تلك، يقض الحزن مضجعنا، وينهش الجوع مطاوينا! لخلوِّ الدار مما قد نقتات به. وبقي الحال على هذا العسر والضيق شهراً كاملاً بعد وفاته، إلى أن تطوّع المرحوم الشيخ عبد الحسن البلداوي، الذي كان من أعوان وأيادي المرحوم السيد حيدر، فبذل وقته وجهده لرعاية العائلة. فاحتوى فتاها الكبير السيد إسماعيل، وتعهد الطفلين (الشهيدين لاحقاً): محمد باقر وأخته الرضيعة آمنة. ولذلك تعلقا به وكانا يعتبرانه عمّاً للأسرة، ولم يعرفا ظلاً لرجلٍ حانٍ‏ٍ بعد أبيهما غيره.
هذا بالطبع مع متابعة الأخوال والأهل والأخوان. إلاّ أن الشيخ عبدالحسن كرّس نفسه لتلك المهمّة الخيِّرة.
مما روته الحاجّة الفاضلة عن تلك الأيام الصعبة، حادثة لطيفة لافِتة، بل عجيبة! قالت: أن الفتى الصغير سيد محمد باقر الذي كان قد تخطّى بالكاد سنيّاته الثلاث جاءني يوماً يشكو الجوع، وهو يلح في طلب أكلة يحبها وهي شهيرة في العراق، وهي خبر اللحم. كان ذلك بعد صلاة الظهر، فصار يزيد إلحاحاً ويصرخ طالباً ما يشتهيه، تحت ضغط الجوع الذي كان يعصر أمعاءه. قلت: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله، من أين آتي لك الآن يا بني بخبز اللحم، وما من لحم في البيت‏(2). هاك اكتفِ بكسرات الخبز هذه. فلم يقتنع الطفل وصار يبكي، محتجا على اعتذاري وعجزي عن توفير هذه الطلِبة له. وتحايلت عليه بقطعة من الكعك. ثم غسلت له وجهه، وأقنعته بقولي: (بأننا سنخرج إلى بيت والدي، وقد تجد بغيتك هناك إن شاء الله).
وكان من عادتي يومياً تقريباً أن أذهب إلى بيت والدي، أقضي فترة العصر هناك، وأعود عند الغروب. وبعد عودتي ذلك ا ليوم إلى البيت قبيل الغروب، نزلت إلى قبو البيت (السرداب)، واتجهت إلى صوب البئر، لكي استعدّ لتحضير طعام العشاء. وكنّا في السابق إذا أردنا أن نحتفظ ببعض ما يتبقى من الأطعمة المطبوخة أو البيض أو الجبن بعيداً عن التلف، نعمد إلى جعله في إناء خاص من سعف النخيل، ونعلقه في داخل فوهة البئر في أسفل الدار. لأنه أبرد مكان في البيت على الإطلاق ونجعله بطريقة يحفظ معها الطعام عن الحشرات والتلف معاً.
عندما دخلت القبو واقتربت قليلاً من موقع البئر، أثار استغرابي شي‏ء لم أعهده من قبل، لقد شممت رائحة تشبه الشواء أو اللحم المحمّر (المكبّب). تلفت من حولي يمنة ويسرةً. فلم أجد على أرض القبو غير ما كنت أعهده هناك. ولكني لاحظت أني كلما اقتربت من البئر كلما تأكّدت الرائحة وتكثفت. وما أطللت برأسي داخل فتحة البئر، حتى فوجئت بمقدار من خبز اللحم الطازج والساخن كأنه للتو أخرج من تنوره ووضع في هذا المكان. فاستغربت وثارت دهشتي، لأن أحداً غيري لا يصل إلى هنا في العادة. ولما أن سألت ابني السيد إسماعيل والشيخ البلداوي الذي كان قد حضر بعد عودنا لبعض شؤونه، أبديا دهشتهما، ونفيا أي علاقة أو علم بالموضوع!.. قلت لنفسي: على كل حال، من يرفض رزقاً من السماء؟... أخذته متلهفة ووضعته أمام الأطفال، وأقبلنا عليه نأكل منه، كما لم نأكل مثله قطُّ: لذة وهناءً و(رِيّاً) أيضاً، حيث لم نشعر بأيِّ عطش أو رغبة في شراب بعده.. ولله المنة).
سمعت هذه الرواية من المرحومة الحاجة، فزادتني شهية وطمعاً في الاستزادة من أحاديثها عن ماضي السيد الشهيد (زوجي)، لعلي استشرف ملامح «المستقبل» الذي ينتظر هذا الرجل الفريد.
ذكرت لي أنها كانت يوماً، معه خارج المنزل، وهو في عمر الخامسة، قالت: (وعند عودنا، وقبيل دخولنا إلى الدار، رأيته قد انكبّ إلى الأرض يبحث عن شي‏ءٍ مّا. فقلت: سيِّد محمد باقر، هيّا لندخل، إن الجو بارد، وليس الوقت يسمح بالتأخر واللعب، فأجاب: لا يا أمّاه، لست ألعب، وإنما أنا أبحث عن قلمي الذي سقط مني هنا. فقلت: لا تهتم يا حبيبي، تعال وسأشتري لك غيره. ولكنّه أصر على البحث، فسبقته ودخلت. وإذا به يدخل بعد هنيهة، وبيده قلم رصاص صغير بحجم إصبعه. أي كان القلم تقريباً يلفظ أنفاس آخر أيامه، لكثرة بريه واستخدامه.! فتعجبت من تعلقه بهذا القلم وحرصه عليه وشدة اعتزازه به، رغم بذلي الجديد له عوضا عنه.
وحكت لي(رحمة الله) أيضاً: أنها نادته يوماً وهو في عمر السادسة، تقول: (وكررت النداء: سيد محمد باقر. سيد محمد باقر. فلم أسمع له جواباً. وفزعت، لأنني كنت شفوقة بدرجة مفرطة على هذين الطفلين.. كونهما بقيّة الله لي من نثار أحشائي. خاصة مع يتمهما والحرمان الذي يلفهما. ثم ناديت على أخيه سيد إسماعيل ليبحث عنه. وهو بدوره بعد اليأس من العثور على الفتى، استدعى الشيخ البلداوي ليشترك معنا في البحث. وبعد مزيد من البحث والتعب، وقع عليه الشيخ عبد الحسن، في مكان لم يدُر في خُلْد أحد، أن قد يوجد فيه ذلك الطفل اليتيم. لقد وجده منشغلاً مستغرقاً في عالمٍ وحده. وذلك في زاوية من زوايا الدار المهملة، كان قد استغرق في تهيئة مكان يسع جسده الصغير في داخل فجوة قديمة، قد أحدثها الزمن في جدار(3) متهرئ من تلك الناحية المهملة من الدار. ومثل هذه الفجوة أو الشرخ، كان العراقيون يسمونها (كتّة) ولقد وُجد «محمد باقر» في داخل الكتّة، يعدّ مكانا يحوي جسمه الصغير آنذاك كصومعة للعزلة! صار الفتى يلجأ إليها كثيراً ليديم الخلوة والتأمّل.
وقد كنّا نسمع منه في تلك الأحايين عبارات كبيرة لا تصدر في العادة عمّن هو في سنِّه، وكانت تصدر منه مواقف ومشاعر عجيبة هي في مغزاها وخلفياتها أكبر من تجربة ست سنين.
وعندما كبر الصبي ضاقت عليه تلك (الكتة)، فتوجّه إلى مخزن صغير كان يعلو سقف إحدى حجر البيت، ذي مساحة صغيرة، وكان ذلك المخزن قليل الإنارة، ضعيف التهوية [كنا نسمِّيه «الكنجينة»(4)] وقد صار يلجأ إليه محمد باقر ويجلس فيه ساعات متوالية يتأمل ويفكر ويكتب.
كان الناظر إلى ذلك الصبي يكتشف فيه بسهولة رجولة قبل أوانها، ونضجا مبكرا. لكنّه في مقابل ذلك كان إلى جانب التّوقد في ذهنه والنضج في مشاعره، كان كثير العلة في جسده، لا تبارحه الأسقام إلا قليلاً..إلاّ أن ذلك لم يكن يهدّ من إرادته، ولا ليغير من عزائمه وخصائصه شيئاً.
وتسترسل أم الشهيد لتقول: وكبر الطفل وصار مهيأ ً من حيث العمر للالتحاق بصفوف مدارس البنين، رغم أنه كان قد تعدى المراحل الأولى لتعلم القراءة والكتابة بل لما بعدها. وسُجِّل طالباً في مدارس منتدى النشر الابتدائية بالكاظمية. وسرعان ما نال إعجاب الجميع من حوله، تلاميذ ومدرسين وإدارة. واشتهر نبوغه وأدبه وتميّزه. وصار مضرب مثلٍ لكل من يريد أن يَنْصب قدوة لابنه: (هذا زميلك محمد باقر الصدر في عمرك، فلتكن مثله).
لقد صار الفتى أعجوبة لمن حوله،فتحول إلى قطب رحى في مدرسته، يكثر الزملاء من التحلق حوله، ليسمعوا. ويحب الأساتذة أن يحادثوه، ليلتقطوا من درر حديثه.
عندما كانت تخرج مواكب العزاء، أو وفود الأفراح في المناسبات الدينية المختلفة، كان السيد (محمد باقر الفتى) في مقدم تلك المواكب والوفود، المتجهة إلى حرم الكاظمين(ع) وهناك كان يرتقي المنصة.
ولربما وضعوا تحت قدميه كرسياً يرتقي عليه، ليبرز شخصه للجميع، فيلقي الأحاديث، بل وكان يرتجل الخطب في التأبين والرثاء والمواعظ والإرشاد(5). ففي إحدى المناسبات تلك، وكانت ذكرى ميلاد الإمام الحسين(ع) وضعت المنصة، للحفل البهيج في الصحن الكاظمي الشريف، وهناك ارتجل كلمة بليغة بالمناسبة على صغر سنِّه، حتى أن خاله آية الله الشيخ "راضي آل ياسين" الذي كان حاضرا، لم يتمالك نفسه لشدة إعجابه بما خاطب به السيد للجمهور. فقام وقال بصوت مرتفع مسموع: أحسنت، أحسنت يارافعيَّ العراق‏(6).
هنا تذكر الحاجة الفاضلة أم الشهيد: أنها لما رأت هذا النبوغ وهذه لعبقرية المبكرة لفتاها. تفتق الأمل في نفسها عن طموح مشرق لمستقبله. فهو مادام قد حباه الله بهذا التفوّق، فلسوف يكون نعم من يحيي سيرة أجداده، ورأت فيه خير امتداد لسلسلة من الأسماء اللامعة المباركة، التي حلقت في سماء الفقاهة والمجد، تاريخاً ممتداً. وصارت تشجعه على الاستعداد للتوجه إلى النجف الأشرف للالتحاق بركب العلماء من أجداده وأسلافه..
ولكن في هذه الفترة أيضاً، والفتى كان بين ربيعه العاشر والحادي عشر، وُجد في أوساط الأهل اتجاه آخر، يغذّيه قريبهم الوجيه السيد محمد الصدر، رئيس وزراء العراق الأسبق، الذي صار يأمل في السيد الشهيد أيضاً أن يكون له شأن كبير ومؤثر في مستقبل العراق، بعد ما عرف منه ذلك التميز. وسمع ورأى بنفسه كثيراً من مظاهر النبوغ والعبقرية من الصبي. فكان يغتنم الفرصة للحديث معه كلما جمعه به مجلس. بل صار يدعوه للذهاب معه إلى مزرعته خارج بغداد، ويصطحبه معه على صهوة جواده، فيحادثه ويمنّيه لتشجيعه ودفعه لمواصلة الدراسات الأكاديمية المتخصصة، ووعده بالدّعم والتأييد. وتهيئة الفرص له ليتسنمّ أعلى المراتب العلمية والاعتبارية في العراق. ولكنّ الشهيد تقول أمه أنه كان على حداثة سنه، راسخ الفكرة واضح الاتجاه، فكان يجيب على ذلك الرجل الكبير والمحسن الكريم: أن الاتجاه إلى الحوزة العلمية هو خياره واختياره، على الرغم من أنه كان يعي تماماً الضائقة المادية التي كنا نعيشها، ويدرك أنه لو اتجه إلى الخيار الآخر، فإنه سيتمكن من رقبة الدنيا، وسيأخذها عريضة بكلتا يديه.
وتوضح الحاجة المرحومة أم الشهيد: أنّ لكلا هاذين الاتجاهين في محاولة رسم مستقبل الفتى النابغ كان هناك أنصار ومؤيدون لكل واحد من الخيارين المذكورين في أوساط أفراد الأسرة والأقارب والمحبين.
ولكن الشهيد قد حسم خياره مبكراً. وبدأنا نرى منه بعض التصرفات، أو نسمع منه تركيزاً على بعض الكلمات التي يشير من خلالها إلى ذلك الحسم والعزم والإصرار على ما اختار.
ولن أنسى تلك الأيام التي رأيناه فيها، قد غيّر من سلوكه الغذائي، فقد مرّ عليه يوم لم يتناول فيه شيئاً من الطعام، عدا قطعة جافة من الخبز، مع شي‏ء من الماء طوال يومه. فسكتُ أنا أمُّه على مضض ولم أكلمه. لأني أعرف ولدي أنّه إذا صمم على شي‏ء، فإني أولا أثق في حكمته على صغر سنه. ثم إني كنت أيأس من محاولة صدّه عما يعزم عليه. ولكني ازددت قلقاً عندما كرر نفس السلوك في اليوم الثاني. وهكذا انصرم اليوم الثالث على نفس المنوال، ولعلّ الرابع كذلك أيضاً. حتى أثار انتباه المحيطين ودهشتهم. وسرى النبأ عند الجميع الذين كانوا يتلهفون لسماع أخباره ويراقبونه، ويأملون فيه الكثير. ولكن مثل هذا التصرف لم يكن ليرضي أحداً خوفاً على سلامته. مع أنه كما قدمت لم يكن يخلو عادة من الأسقام والعلل.
ولما تكرر عليه السؤال القلق: عن هذا العزوف عن الطعام، وهذا التصرف الذي اعتبره البعض إيذاءً لنفسه؟ برّر الفتى ذلك التصرف حين واجهناه محتجين على مسلكه المؤذي في نظرنا، أجاب قائلاً: (إن من يقدر على أن يعيش أّيّاماً على القليل من الخبز والماء القراح. فلن يضره فقر متوقع، ولن يزيده البؤس جوعاً، ولن يخاف من الله الذي «هو يتولى الصالحين» حيفاً ولا جوراً).
وهكذا أفحم وألجم كل من كان يثبطه عن الإلتحاق بركب أسلافه على طرق العلم. وشكل بذلك إعلاناً منه للجميع وإعلاما بما اختاره. وحجة دامغة على صوابية اختياره.
تلك الساعة كانت بداية حاسمة لاشتغاله بعلوم الحوزة الشرعية، حيث بدأ يتلقى مقدمات الدراسات الحوزية بشكل فردي، وبمساعدة وتوجيه أولي من أخيه السيد إسماعيل، وطوى المراحل الأولى، وما يسمى بعلوم السطح دون أستاذ. وسرعان ما تأهّل لأبحاث الخارج في النجف، التي أنهاها بسرعة أيضاً.
وهكذا تم انتقال العائلة إلى النجف مع الفتى الموفق السيد محمد باقر الصدر ومن أجله، منذ ذلك اليوم.
بانتقالنا إلى النجف الأشرف، ودخول السيد محمد باقر إلى مجالس العلماء وبحوث الخارج، بدأ يتردد اسمه في الأوساط كظاهرة ملفتة، وغدا رقماً صعباً في المعادلة الصعبة التي تحكم الحوزة العلمية بأعرافها وقوانينها وتراتبيّتها. فهذا الفتى اليافع الذي لم يقلَّد في الفروع الشرعية فقيها غير نفسه مذ بلغ سن التكليف الشرعي كما كان يؤكد هو بنفسه. وكان معروفاً آنذاك أنه بلغ مرتبة الاجتهاد قبل أن يجاوز العشرين من عمره. ثم لم تمض سنيّات معدودة من بعد مجيئه إلى النجف، حتى استقلّ هو بمنبر للتدريس. وصار يلقي أبحاث الخارج العليا على تلاميذه وعمره يناهز السادسة والعشرين. وكان الشيب قد كسا وجوه بعض حضاره وتلاميذه.
يذكر هنا أن سماحة المرحوم آية الله العظمى الشيخ محمد رضا آل ياسين(قدس سره)(7) كان له مجلس درس في أبحاث الفقه والأصول العليا وقت مجي‏ء السيد الشهيد ابن الثانية عشرة إلى النجف.
فصار الفتى يحضر مجلس الدرس أمام ناظري خاله المرجع. والخال كان يظن، أنّ الصبيّ إنما يأتي تبرُّكا واستئناساً ليس إلاّ.
وفي يوم طرح الأستاذ الخال مسألة علمية عويصة، وطلب من حضّاره أن يغدوا عليه في اليوم اللاحق يحمل كل واحد منهم في جعبته نقداً أو إشكالاً علمياً أو تعليقاً على رأيه في تلك المسألة. ففوجئ الأستاذ الخال بذلك الفتى يحضر في اليوم الآخر أول القوم، ويبادره قبل تجمعهم‏(8) بطرح النقود والإشكالات على الرأي الذي طرحه خاله الأستاذ، الذي بقي يستمع فاغراً فاه من الدهشة والتعجب لهذه العبقرية الفريدة. وهذه أول شرارة انقدحت في سماء النجف، لتكشف عن واقع هذا الفتى المعجزة. الذي صارت المجالس العلمية تتكلم عنه وتعدِّد مآثره العلمية، حتى أنه بعد مضي سنوات قليلة على ذلك، عندما أشرف المرجع الديني الشيخ مرتضى آل ياسين، الخال الآخر للشهيد، عندما أشرف على الوفاة وكان على فراش الموت، سألته إحدى بناته: إلى من نرجع في التقليد من بعدك يا أبي؟ قال لها: عليكم بحجة الله السيد محمد باقر الصدر، فهو حجة الله عليكم.

الهوامش:
1- لعلها تشير بذلك إلى ما أثبته الشيخ محمد رضا النعماني في كتابه (سنوات المحنة) نقلا عن مجلة (النجف) العدد 3 ففي موضوع لها نقلت مقالة جميلة عن الإمام عبد الحسين شرف الدين في حق المرحوم السيد حيدر الصدر، فقد كتب عنه: (لقد عرفته طفلاً، فكان من ذوي العقول الوافرة، والأحلام الراجحة، والأذهان الصافية، كان وهو مراهق أو في أوائل بلوغه، لا يسبَر غوره، ولا تفتح العين على مثله في سنِّه. تدور على لسانه مطالب الشيخ الأنصاري ومن تأخر عنه من أئمة الفقه والأصول، وله دلو بين دلائهم، وقد ملأه إلى عَقد الكَرب، يقبل على العلم بعقله ولبِّه وفراسته. فينمو في اليوم،مالا ينمو غيره في الأسبوع.مارأت عيني مثله في هذه الخصيصة، وقد رأيته قبل وفاته بفترة يسيرة وقد استقر من جولته، في غاية الفضل، لا تدركها همم العلماء. ولا تبلغها عزائم المجتهدين).
2- المعلوم أن القصابين في ذلك الزمان لم يكونوا ليبقوا في حوانيتهم إلى ساعة الظهر. فلم تكن المبردات يومذاك قد وصلت حتى يحتفظ باللحم سالماً طوال ساعات النهار أو أكثر.
3- كانت طريقة البناء القديمة تقتضي بأن تكون الجدران سميكة، بحيث يبلغ سمك الجدار أكثر من نصف متر.
4- هي كلمة فارسية مستعملة في العراق تعني (الخزانة).
5- من المعروف أن للسيد الشهيد نتاجات فكرية قديمة مند بدايات عمره. ولذلك لا يستغرب منه إبداع عظيم مثل كتاب (فدك في التاريخ) الذي كتبه في السابعة عشرة من عمره.
6- تشبيها له بالكاتب الفذ والمفكر والأديب الكبير المعروف: مصطفى صادق الرّافعي.
7- وهو خال السيد الشهيد(رحمة الله).
8- يبدو أن ذلك كان تأدباً وحصافة من السيد الشهيد، حتى لا يحرج الآخرين من العلماء وحضّار البحث، الذين لم يوفقوا لما اهتدى هو إليه.


المصدر: وجع الصدر.. ومن وراء الصدر أم جعفر، الأستاذة الأمل البقشي.

التعليقات (0)

اترك تعليق