من ملاكك الصغيرة.. إليك " أبي الشهيد"
كان يوماً شاقاً على أمي، كبقية الأيام وهي دونك، كنتُ أراقبها وهي تبتعد عني، كي تستقبل الضيوف الذي يباركون لها بمناسبة شهادتك يا "أبي".
إنه يوم الشهيد، هذا اليوم الذي لا أعرف معناه، ولا أعرف عمقه، إلا أنني وجدتُ نفسي أولد قبله بأيام وأحتفل به رغماً عني.
بدأ العد العكسي لحضور الزوّار، عدد كبير من الأخوات دخلن المنزل، متشحات بالسواد، وعلى ملامح وجوههن آهات حزن وأسى.
قرأنَ القرآن، وذكرنَ الإمام الحسين(ع) في هذه الذكرى الأليمة التي ألمّت بي قبل ولادتي، فأنا الآن ابنة شهيد، ابنة أب لم تراه عيناي قط، ولم أعرف معنى أن أنادي هذه الكلمة "أبي" سوى أمام لوحة كبيرة عُلّقت على حائط غرفة الاستقبال.
لا أعرف ماذا حلّ بي حينما دخلتْ علينا هذه الفتاة، ولا أعرف ما الذي تغيّر، فتاة تنظر بعين حزينة إلى جدران هذا المنزل، وتحدّق بعيناك مطوّلاً "أبي"،وحتى أمي كانت تتفحّص جمالها بعيون حزينة ومشوّقة في الوقت عينه.
كانت أمي تعرف بأن هذه الفتاة تحمل عطر "أبي" الجنوبي، وكلما سنحت لها الفرصة أن تنظر إليها داعبتها بكلمات رقيقة وبسمة خفيفة تعبّر لها عن شكرها لأنها أتت إلى زيارتها في منزلها المتواضع، ولم تكن تعرف تلك الزوجة بأن هذه الفتاة كانت تشعر بخجل عميق يشدّها نحو الباب للخروج والعودة إلى أدراجها، من هي أمام هذا الجبل الشامخ والصامد؟؟
حلّت ساعة العودة، خرجتْ معظم الزائرات، وبقيتْ هذه الفتاة تحدّق إلى صورتك يا "أبي".. دمعتْ عيناها وقرأت على جبينك جملة كتبها دم أمي على باقة ورد غرستها على قبرك في الجنوب الصامد...
عندها أتيتَ إلى زيارتي فبدأتُ بالبكاء والصراخ،لا أعلم لم، لكن شيئاً ما دعاني للبكاء، بدوتَ لي روحاً تحاوطني وتداعبني، تحضنني وتدلّلني، شعرت بالخوف منك، همّت أمي إليّ وأتتْ بي إليها، نظرتُ إلى عيناها.... "أبي" لا أعرف ما الذي اختلج في صدري أمام هذه الروح التي رأيت!!
قبّلتْ رأس جدّتي وشرعت بالخروج، لكن نظرات أمي أعادتها إلينا، ابتسمت أمي بسمة وداع لهذا الوجه الذي يذكّرها "بك".
هذا ما عرفته أمي....
لكن إليك يا "أبي" أقول... ليتني أستطيع إخبار أمي بما رأته هذه الفتاة من رؤيا جميلة تسعد قلب زوجة شهيد!!!
علّها تكسر جدار الصمت، وتزورنا، كي تتحدّث عن رؤيتها التي تثلج قلب زوجتك وحور عينك...
"أبي" الشهيد... إليك أكتب وأنا لا زلت أبدأ بتعلّم نبضات القلب، هذه الفتاة لازالت تشغل بالي، وأصبحتُ كأمي أودّ لو أراها مرة أخرى... عُد بها يا "أبي" إلينا ودعها تحدّث أمي عن ما رأته روحها في ذاك اليوم....
ما هي إلا أياماً قليلة... عدتُ إلى هذا المنزل، كي أزور هذه الزوجة الصابرة، استقبلتني بحرارة، جلستُ أتحدّث معها، وأسألها عن أحوالها، فأجابت بحمد وشكر الله أكبر.
رأيتُ أنه من الواجب أن أروي لزوجة الشهيد ما شاهدته يومها في رؤيتي، وكانت تسمع بكل شغف حينما أخبرتها بأن هناك رسالة معي من زوجك الشهيد، تفاجأت كثيراً، واجتمع من كان في المنزل حولي، يستمع إلى ما أرويه..
أما بعد...
فقد زرتُ زوجك الشهيد في بيته في الجنة، دخلتُ المنزل، كان منزلاً كبيراً جداً وغرفه واسعة المساحة، يجلس الشهيد على أريكة، وهو مبتسم، لكن كانت إحدى رجليْه مربوطة بقماش أبيض اللون- وكأنه لقي رصاصة في مكانها- تقدّمتُ نحوه مع أحد الأشخاص المقرّبين إلي، جلسنا، أمامه، وكنتِ أنتِ معه، وأتممتِ واجبكِ معنا من حيث الضيافة...
لكن ما سمعته من زوجك هو أن ما نعيشه نحن على هذه الأرض لا يساوي شيئاً مما هو موجود في الجنة... فكل ما لذّ وطاب، في الجنة ألذّ وأطيب منه بكثير...
استيقظت وكلماته يتردّد صداها في أذناي...
إفرحي وقرّي عيناً أيتها الحور العين فإن شاء الله زوجك وأنتِ في الجنة.
أخبرتها، ولم أخبرها، وددتُ لو أفرحها فعلاً، وجدتْ أُنساً في كلامي وأملاً بلقياه في الجنة... كما كتبت على باقة الورد المغروسة على قبره...
"إلى زوجي وحور عيني"
تحية إليك أيها الشهيد....
المصدر: موقع المقاومة الإسلامية.
اترك تعليق