مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

خذ حتى ترضى

خذ حتى ترضى

تنحني أم حسن بعباءتها الزينبية تمسح شاهد أحد أضرحة أولادها الثلاثة، فتجتاحها الذكريات ويتوهج فؤادها بالشوق، وتخر ساجدة تبكي ألمها على فقدانها فلذات كبدها. تعتدل بعدها بقامتها المربوعة لتنظر حولها وتقول بفخر: "إن الله خصني بميزة عظيمة أن استشهد أولادي على درب الإمام الحسين(ع)، وكل ذلك فداء له ولحفيده السيد حسن نصر الله".
ربت تلك المرأة الجنوبية أولادها، في بيت متواضع في أحد شوارع حي السلم الفقيرة، على حب أهل البيت والتقوى والورع عما حرمه الله. وكان إلى جانبها دومًا زوجها الحاج سامي، المجاهد الذي نذر نفسه وأولاده في سبيل طريق الجهاد والمقاومة. لم يثن تلك العائلة فقر ولا جوع عن تربية أولادهم على حب الحسين ومنهجه، فابتعدوا عن ملذات الحياة وجعلوا درب المقاومة سبيلهم الوحيد.
كان الوالد قد كرس نفسه لخدمة الجامع الملاصق لمنزلهم؛ فنشأ الصبية الخمسة على الصلاة والعبادات في الجامع، ومساعدة والدهم في تنظيفه والاهتمام بمتطلبات المسجد.

الوعد الصادق:
حسن الابن البكر لأم حسن، اسمه الجهادي "علاء". كان ذا شخصية رصينة وهادئة، وعلى درجة عالية من الأخلاق. كان متعلقا بوالديه وكذلك بأخوته. عمل مع والده في مهنته النجارة في الإجازات الصيفية، فتعلم المهنة في سن السابعة وأصبح سندا له.
في عمله الجهادي كان منذ حداثته يقوم بخدمة المجاهدين على المحاور. يجلب لهم السحور الذي تعده لهم والدته. يحاول التقرب إليهم ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، إلى أن انضم إلى صفوف التعبئة سنة 2000 إبان التحرير. كان قبلها قد درس الإلكترونيات في مدرسة فنية. تخرج ثم تزوج، ورزق بصبي أطلق عليه اسم "علي السجاد". وهو اليوم في رعاية جده الذي تكفل به بعد استشهاد والده، متعهدًا نشأته على نفس النهج الذي رباه عليه.
أما علي، واسمه الجهادي "أبو حسن"، فكان صاحب شخصية محببة جدًا لدى الأهل والأقارب والجيران، لروحه المرحة ومزاحه اللطيف. يبعث الحب بمجرد النظر إلى شعاع عينيه الربيعيتين، عدا عن كونه حنونا جدا على والدته، ومتفانيا في خدمة العائلة. لم يكمل علي دراسته، بل عمل مع والده واحترف المهنة ليسانده في تحمل مسؤولية العائلة.
كان محبا لكرة القدم ويمارسها مع أخوته وأخواله وبعض شبان المنطقة في ملاعب المريجة الرملية، قرب بيت جده لأمه. كان شديد التعلق بأخيه حسن؛ فكان له بمثابة الصديق والرفيق، يسهران ويتسامران حتى الصباح، وخاصة في أوقات شهر رمضان. حاولت أم حسن إقناعه بالزواج مرات عدة ، لكنه كان دائمًا يجيبها بأنه سيتزوج من حور العين في الجنة، فصدق وعد الله ولم يتزوج بل اختار الشهادة سبيله.
كانت البداية في حرب تموز 2006 في الأول من آب، في قرية الجبين الجنوبية، حيث أشجار الزيتون التي كانت تتمايل للقاء الأحبة. إلى هناك صعد الحاج سامي مسلماني مع ولديه حسن وعباس ليلحق بهم علي في اليوم التالي بسيارته الرابيد التي دهستها دبابة معادية، وتحولت إلى مجسم كشاهد لذكرى الحرب الهمجية الغادرة.
في الحقول المجاورة للقرية كان اللقاء، فاشتبك المقاومون، بمن فيهم حسن وعلي والحاج سامي مع جنود العدو ليتلقى حسن إصابة في جسده الفتي، ويستشهد بين يدي والده الذي أودعه الأرض شهيدا، ليكمل هو عمله الجهادي وبعد ساعات من الكر والفر مع العدو، الذي استعان بطائراته الحربية التي أحرقت حقول الزيتون وخلطت رائحة السنابل برائحة الدخان والدم والشهادة، ارتفع علي ورفيقان له كانا على الجبهة. تلقى الحاج سامي الخبر برباطة جأشه المعتادة، جعل من الصبر حليته، ليزف لأم حسن خبر استشهاد ولديها، فلم تنطق سوى بكلمة واحدة "يا زهراء يا زهراء".
شيع الشهيدان إلى مثواهما الأخير "روضة الشهيدين"، في مسيرة ضخمة. كانا عريسين حقيقيين، بزغاريد النسوة والورود الحمراء والبيضاء التي تناثرت على الجثامين، ليؤلفا قصة نضال ارتسمت على جبين الوطن، الداحر للعدوان بوعد صادق من سيد المقاومة، السيد حسن نصر الله.

لبّيكِ يا زينب:
إبراهيم هو الابن الأصغر المدلل للوالدة، كان زاهدا تقيا وخلوقا وكان خدوما جدا يفني نفسه وصحته من اجل خدمة الناس ويسهر على راحتهم. نشأ إبراهيم في منطقة بيادر عرمون حيث انتقلت العائلة، في جو إيماني كبير في المنطقة بكاملها، فاستلم مع والده خدمة المصلى، وكان يسهر على خدمة الناس وراحتهم.
أحبّ إبراهيم والدته حبا كبيرا، فلم ينفك يساعدها في الأعمال المنزلية، ودائما ما كان يلبي حاجيات البيت. درس إبراهيم في التعليم المهني الكهرباء المنزلية، ليبرع بها مع مهن أخرى أحبها. تدرج في كشافة الإمام المهدي(عج)، ثم التعبئة ومن بعدها العمل العسكري مع المقاومة.
لم يتزوج وكانت الشهادة دائما حديثه؛ فتحققت أمنيته بعد إصابته في سوريا ونقله جريحاً إلى المستشفى، ليستشهد بعد يوم واحد في الثامن من تموز 2013. "عابس" وهو اسمه الجهادي، استشهد دفاعا عن المقامات المقدسة، وكان صائماً. فارق الحياة والبسمة على ثغره ونداؤه "يا زينب" حتى خروج روحه إلى بارئها.
وبعد أن تأقلمت العائلة مع استشهاد ولديها، تلقى أبو حسن خبر استشهاد ولده الأصغر بكل هدوء وحلم...
رباطة جأش المجاهد الحاج سامي لم تأت إلا من قوة العقيدة التي يتحلى بها، فهو لا يبالي بالموت، وكان كثيرا ما يتمنى الشهادة مقابل ولديه، ولو أراد الله أن يختاره للشهادة لاستشهد العام 1982 حين أصيب أثناء مواجهته العدو الإسرائيلي، لكن الله اختار أولاده بدلا منه، ولله الحكم في ذلك. فالتجاعيد المرسومة على جبهته العريضة تخبرك بقصص النضال الطويل، والألم الموجود في عينيه المغرغرة بالدموع، التي تأبى أن تنسكب، تجعلك ترى أن الصبر سلاحه والكرامة حديثة، وشعار الإمام الحسين(ع): "هيهات منّا الذلة"، شعاره الدائم.
تنظر أم حسن نظرة وداع أخيرة إلى أضرحة أولادها وتمشي إلى جانب زوجها برأس مرفوع. تقول إنّ أولادها كلهم فداء للحسين ولحفيده السيد حسن نصر الله، وإنّها مستعدة لتقديم باقي أولادها من أجل المقاومة ومنهجها الجهادي.
أمام مثل هذه المرأة المناضلة الزينبية الصابرة لا يسعك سوى أن تنحني إجلالا لمجاهدة اقتدت طوال مسيرة حياتها بسيدتنا زينب(ع) ومصائبها.
________________________________________

الشهيد حسن سامي مسلماني
الإسم الجهادي: علاء
تاريخ الميلاد: 28 شباط 1982
تاريخ الإستشهاد: 9 آب 2006
مكان الإستشهاد: الجبّين- جنوب لبنان
الشهيد علي سامي مسلماني
الإسم الجهادي: أبو حسن
تاريخ الميلاد: 13 كانون الثاني 1984
تاريخ الإستشهاد: 9 آب 2006
مكان الإستشهاد: الجبّين- جنوب لبنان
الشهيد ابراهيم سامي مسلماني
الإسم الجهادي: عابس
تاريخ الميلاد: 16 شباط 1989
تاريخ الإستشهاد: 8 تموز 2013
مكان الإستشهاد: سوريا


المصدر: موقع المقاومة الإسلاميّة، حنان سحمراني.

التعليقات (0)

اترك تعليق