مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

أنت حظّي 1

أنت حظّي 1

"أتمنى أن تصلكِ كلماتي، وأنت في أتم الصحة والعافية، وإن جدت بحسن السؤال عنا، فإننا..."
مطلع الرسالة كان مألوفًا لها، حتى أنها ملّت منه، لكثرة ما استخدمه رفاقها ومعارفها في رسائلهم. مطلع الثمانينات، كانت اللغة الدارجة بين زميلاتها، لغة سطحية ومستهلكة. زاد من رغبتها في التغيير تخصّصها في اللغة العربية، واشتغالها -من بعد- بتدريسها أربع سنوات في مدرسة خارج القرية. تذكرت ما كانت تفعله ورفاقها في الصف. كان موضوع الانشاء العربيّ ذا مطلع – لازمة: "وُجد الإنسان على سطح هذه البسيطة كائنًا اجتماعيًّا بطبعه...". تتكرر هذه اللازمة من قلم إلى آخر، وكأنها شيفرة سحرية أو إلهام حل على الجميع بقدرة قادر. لذا، قرّر الأستاذ وضع  حد لهذه الرتابة، أو بالأحرى، المحدودية في التعبير التي سيطرت على طلابه، إذ كان يحمّل نفسه جزءًا من المسؤولية؛ لأنه علمهم هذه الطريقة، وهم عليها سائرون. " أنا حاولت أن أضعكم على بداية السكة، وكان عليكم، وأنتم تخطون الخطوة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة، أن تبتكروا شيئًا ما، ثم تنؤون بأنفسكم عن التقليد، ويصبح كل منكم مبدعًا، يملك أسلوبه الخاص بالكتابة...". أما هي، وبعد محاضرته المسترسلة عن ضرورة الخروج عن المألوف والابتعاد عن المطالع التقليدية والمعتادة مما يمل منه القارئ، فسرعان ما أدركت ما يريد. التفتت إلى كل ما كتبته، فوجدته في معظمه سخيفًا. "كيف كنت اكتب هكذا؟" تسأل نفسها باستغراب. حاولت أن تعزّي نفسها، وأن تخفّف من غلواء استسخافها لما كتبت سابقًا: " لا يجب أن أنسى أنني كنت مبتدئة". حارت في أمرها: هل تتلف ما سبق لها أن خطّته على كل هذا الورق، إضافة إلى العشرات من مواضيع الإنشاء، وكلها كانت تلقى استحسانًا من الجميع، أم تحتفظ بها للذكرى؟ إلا أنها حسمت أمرها: يجب أن تبقى في جعبتها ذخيرة للأيام القادمة: ستُطلع أولادها على تلكم الأوراق الحميمة، فيأنسون بهذه الكتابات التي واكبت حبّها لأبيهم.
المطلع في الرسالة الأولى، كان تقليديًا إذًا. هذا صحيح، ولكن ليس هو كأي مطلع، ولا الرسالة رسالة عادية. إنها منقوشة بحبر معاناته، وأنفاسه وراء القضبان، تعبق من كل حرف، وتتراءى لها رذاذًا قد علق على الصفحة البيضاء، فأحالها صفراء شاحبة. تخيّلْتهُ يكتب، مسترقًا شعاعًا خافتًا، يتسلل من بعض الثقوب. رفاقه يحاولون أن يغرقوا في النوم. بعضهم يتألم ويئنّ، فتصدر عنه زفرات حزينة، والبعض الآخر تحمله الذكريات إلى عوالم عادية: البيت والأهل والأصدقاء والقرية، ولكنها عوالم مستحيلة، يغدو الاستغراق في تخيّلها وتمنّيها عالمًا غريبًا، لا يسبر أغواره، إلا من وقع فريسة الأسر، والإطباق على حريته بين الجدران، فيكاد لا يُسمح له حتى بتنشق الهواء، أو رؤية الشمس ساعة يشاء. كوابيس وأحلام مزعجة تروادهم. الهاوية السحيقة لا تفارقهم، تلك التي يُرمى الأسير منهم فيها، ولا ينتهي به السقوط إلى الأرض، فينخلع قلبه من مكانه، ويستيقظ مذعورًا صارخًا. لا بأس إذًا لو كتب بهذه الطريقة التقليدية. رسالته الغالية على قلبها، ستغفر له قصوره أو تقصيره في التعبير. فهو أيضًا كان متفوّقًا، وخصوصًا في اللغة العربية، وكان صاحب قلم. كما أنه كان يكتب رسائل للعاشقين، تعلي من شأنهم لدى محبوباتهم. ولطالما كانت تلومه بشدة؛ لأنه ما جاد بهذه الموهبة عليها. أليست هي أحقّ من غيرها بهذا الغزل والهيام؟
كان المهم عندها الآن: كيف تجعله يتطوّر كتابيًّا، كما فعلت هي وفق توجيهات الأستاذ؟ أفادت هي من هذا الأخير كثيرًا، وهو أصرّ أن تكون الكتابة مهنتها، ولكنها مالت إلى التعليم، أو أُجبرت عليه، فهي لا ترغب بولوج عالم الصحافة، وإن كانت بين الحين والآخر تنشر بعض الخواطر في الصحف والمجلات. وجدت الطريقة الفضلى لتحقيق هدفها، هي في الكتابة إليه. لا شك في أنه بفطنته، سيلتفت إلى أسلوبها، وشيئًا فشيئًا سيغيّر في أسلوبه. يا ليتها تستطيع أن ترسل له بعض الكتب والروايات، حتى تُصقَل موهبته أكثر فأكثر. ولكن، ماذا عساها تكتب إليه؟ يجب أن يكون المضمون خاليًا من أية ممنوعات، يحرص العدو على عدم وصولها إلى المعتقلين. ليست "الخيام" بعيدة، ستيمّم شطرها، وتحاول أن تتخيل ما يدور وراء تلك الخيالات الرمادية، وهي تتنشق عبير الأرض، وكأن تلك الناحية هي مصدر الهواء الذي تتنشقه، حاملًا معه عبقًا وأصواتًا وكلماتٍ. ستحاول دائمًا أن تحمّله أشواقها، منثورة على الورق.
تمر السنين مر السُّحُب؛ ولكن، كم هي ثقيلة تلك الأوقات التي تُقطع بالانتظار؛ يصدق عليها القول، بأنها جرح لا يؤلم إلا صاحبه. صحيح، أن أحدًا لم يشاهدها باكية، ولكنها ذرفت من الدموع وسهرت من الليالي، ما يخلّد مأساتها، إنها حرصت أن تبدو دائمًا متماسكة، تليق بانتظار مقاوم بطل، وأن لا تفتح المجال أمام أقاربها وأبناء قريتها، كي ينسجوا حبالاً من الشك حول تصبرّها، أو ان يحاولوا تهشيم قدرتها على الصمود، من خلال عروض بالزواج من هنا ومن هناك، لأن في نظرهم "من تنتظريه لا يأمل منك انتظاره، ثم أنه لا جدوى أصلاً من الانتظار، إنه سجن الخيام! لا تنسي ذلك".

يتبع...


المصدر: موقع المقاومة الإسلاميّة. منهال الأمين

التعليقات (0)

اترك تعليق