أنت حظي3
تقرأ تكرارًا ما وقعت عيناها عليه. تارة بصوت مرتفع، عسى أن تسمع غير ما ترى، وأخرى بعينيها، لعل الدمع يشوّش الرؤيا، فيحجب الحقيقة المُرّة. ظنت fأن هذه العبارة، هي جزء من نص إنشائي، كتبه ليثبت لها أن مستواه قد بدأ يتحسّن، ولكنها رضخت في النهاية. عليها الآن أن تتصدى لقراره الخطير، وأن ترد عليه بكلام يطيّب خاطره، ويشد أزره، حتى لا يعود إلى مثلها.
قررت أن تعود هذه المرة إلى البدائية، في التعبير والكتابة والرسم؛ لأن البلاغة لا تنفع ها هنا. عليها أن تكون واضحة وحاسمة في آن. اختارت ورقة من دفتر الرسم الكبير، رسمت عليها قلبًا مخترَقًا بسهم، على أحد طرفيه، خطّت اسمها كاملًا، وخطّت على الطرف الآخر اسمه كاملًا أيضًا. لم تشأ أن ترمّز، بل شعرت برغبة شديدة في أن تصرخ وتعلن حبها على الملأ. وتحت رسمتها، خطّت العبارة التالية: "قلت لك أنت حظي، وأنا قدرك، فهلّا أقلعت عن الهروب مني"؟.
اكتفت بهذا المضمون، ثمّ ضمّنت الرسالة مظروفًا مزينًا، معدًا خصيصًا للرسائل الحميمة، وأرسلته -كالمعتاد- عبر الصليب الأحمر. كانت تعلم بأن كل ما يدخل إلى المعتقل سيُفتش، وقد يسخر الجنود من رسالتها. تتمنى لو يقرأونها ويعلمون مدى حبها له، لعلهم يعفون عنه، أو يبدون شيئًا من التعاطف مع قصتهما، ولكنها تراجعت عن هذه الأمنية، فقد تقع بين أيديهم، ويكتشفون أنها تهرّب حبها إلى السجن، وهي تخشى القبض على هذا الحب متلبسًا، في محاولة منه لاختراق أسوار الجفاء، التي يحاولون نصبها بينها وبين حبيبها، الذي سيدفع بدوره ثمن هذه المغامرة، تعذيبًا وتنكيلًا، ثم يُمنعان من تبادل الرسائل، وهو ما يعني أن يتحقق قراره الخطير بالانفصال عنها، ولكن لا مناص من المغامرة، إنها آخر وسيلة في يدها، كي تنقذ حبها من تفاني حبيبها غير المبرر في نظرها، بل هو يلامس حدود الانتحار.
فما عليها الآن، إلا أن تحرص على وصول الرسالة، وحتى لو لم تصل، فهي صاحبة القرار. "هو يريد أن ينفصل عني من داخل سجنه، وأنا حرة طليقة سأتصدى لهذه الرغبة، وسأصر على انتظاره، مهما طالت مدة اعتقاله". ولكن الهمس يتعالى مجددًا من حولها: "إنه معتقل الخيام! الداخل مفقود، والخارج مولود". لن تبالي بعد اليوم بكل ما يُقال، ستعتزل الناس، وتركن إلى عملها، تدرّس وتقرأ وتكتب. جيل كامل سينشأ لا يعرف عنها شيئًا، ولأنهن تسع شقيقات، سيكون من الصعب التمييز بينهن. أما هي، فلن تغفر له هفوة التفكير بالانفصال عنها، فمجرد التفكير بذلك مرفوض تمامًا. سيبقى هذا الأمر حسرة في نفسها، ولكنها لن تجعله يؤثر في إخلاصها له. لقد اتخذت قرارها، وانتهى الأمر: "هو مقاوم، ويستحق أن أتنازل له، ومن المعيب أن أحصي عليه أخطاءه. غدًا، عندما يخرج، سأعاتبه".
ولكنها، كانت تتفهم بأنه ما كان ليفعل ذلك إلا لسمو أخلاقه ورفعة نفسه، إلا ان الأمر ما زال يؤرقها: كيف تصر على الارتباط بشخص يرفضها، مهما كان السبب، فهو طلب الانفصال عنها. ولكنها، أدركت أنّ عليها وضع حد لتحسسها المفرط، فما ينتظرها أصعب وأمرّ مما مضى.
كانت خمسة عشر عامًا، قضاها في السجن. لم تخرج من المنزل إلا إلى المدرسة، ومرات نادرة إلى المستشفى للعلاج. عندما اُطلق، جهزوا له في القرية استقبالًا يليق بالأبطال. كانت الصبايا تلاحقه، لعل نظره يقع على إحداهن، فيكون من نصيبها. كذلك الأمهات، أخذن يثرثرن بالأمر، كل تقدم ابنتها على أنها الأنسب والأفضل للوافد الجديد. وحدث ما لم يكن متوقعًا: وقفت هي تحمل باقة من الورد. اقترب منها، وقد تغيرت ملامحها، ولكنها -وقد تخطت الثلاثين- بدت كفتاة مراهقة، يلمع في عينيها الأمل، تطفحان بحب مغرورق. تساءل الجمع: "من تكون الفتاة؟". "إنها خطيبته". البعض تفاجأ، والبعض الآخر اُسقط في يده، ولكن أغلب الحاضرين -خاصة أبناء جيل العشرين منهم- أجمعوا على أنهم لا يعرفونها، مع أنها تعيش بينهم، وهي لم تغادر القرية إلا في الشدائد. "متى حدث هذا؟" هتف أحدهم وزاد: "قبل الاعتقال أم بعده؟" وقال آخر :" هل يُعقل أن تكون خطيبته خمسة عشر عامًا؟". وذهب البعض إلى القول: "إنها -ولا شك– قديسة تعيش بيننا". أما هو، ففي حمأة الاستقبال الحاشد، تذكّر آخر رسائلها، وفيها أفرغت كل مهاراتها الكتابية: "أنت أسير الشوك، وأنا نزفه. أنا أسيرة الشوق، وأنت أميره. سأكون في انتظارك. ستُقتلع الأشواك يومًا، وأقطف من بستان شوقي ورودًا ورياحين. أراه يومًا لن يفوتنا مهما تباعد، سنلتقي حيث تظللنا الكرامة. أرجوك، لا تعد إلى مثلها!"... لا زالت العبارة الأخيرة تؤرقه، فهو خجل من تفكيره بالانفصال عنها، مع أنه كان يتخيل أن الأيام كفيلة بتجاوزها للأمر، وقبل أن ينطق بكلمة، بادرته بالقول:
- أنت مدين لي باعتذار.
- قلبكِ أسود إلى هذا الحد؟ أجابها ضاحكًا.
- لا تسخّف الأمر، كدت تقتل حبنا.
أدرك عندها أي إهانة شعرت بها، وأي جرح تسبب لها به، بل أي ذنب -لا يُغتفر- ذاك الذي اقترفه بحق فتاته مرهفة الأحاسيس، على صلابة وتماسك أبقياها صامدة كل هذه السنين. وهي، على الرغم من كل ما مرّا به من ظروف قاسية، لم تنسَ، وما زال الأمر غصة في نفسها، مما زاده خجلًا منها. ووجد نفسه أمام حقيقة تقول إنه كما احتواه السجن خمسة عشر عامًا، فإنه كان يسكن قلبًا كبيرًا حنونًا، فكان فضاءه الرحب الذي يسبح فيه من دون أن يدرك كنهه، لا بل هو حاول يومًا أن يخرج منه طائعًا، حين عرض عليها الانفصال عنه.
- كيف أعتذر؟
- الاعتذار لا يكفي، عليك أن تتعلم من جديد كيف تكتب الرسائل، وكيف تقرأها أيضًا.
تمت
المصدر: موقع المقاومة الإسلاميّة. منهال الأمين
اترك تعليق