مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

الانتظار

الانتظار

الحاجة فاطمة تحدق نحو سهل كوكبا، بعينيها الصغيرتين، المطفأتين من البكاء..‏
ضوء الشمس تراه أبهى..‏
الصمت.. غير الصمت..‏
تتساءل.. ما الذي حدث؟!..‏
لماذا هذا الضوء وهذا الصمت يا حاجة فاطمة؟!‏
أيمكن أن يكون رائق قد أتى، عبر سهل الأقحوان. خطاه الواسعة تنم عن عجلة ليراها..‏
-رائق!.‏
تمزق الصمت، مرة وثانية، وثالثة..‏
***‏

يزداد تحديقها في السهل، تراه هناك، وهناك.. وهناك.. مع الأجساد التي نبتت من عمق السهل..‏
***‏

إنه آتٍ لا ريب، يصل إليها، تسمع صوته، وهو يقول لها:‏
-أريد كأساً من الشاي يا حاجة فاطمة!!.‏
-لماذا أنت مستعجل؟!‏
-أمي.. عندي عملية منتصف الليل!‏
-كيف ترى في الظلام الدامس؟!‏
-أنسيت أن الأرض جزء مني؟!.. ألا يعرف الواحد أجزاء جسمه يا حاجة فاطمة؟!‏
-بلى!.‏
ويشرب الشاي، لون الشاي عند الغروب، يبدو كدم صافٍ.‏
يحمل سلاحه، تحت ثيابه، ينظر إليها، تنظر إليه، تغرب الشمس، تشرق شمس أخرى، يبتسم، تبتسم..‏
-دعواتك يا حاجة فاطمة!‏
-اذهب.. الله وقلبي معك يا رائق!‏
يستدير..‏
تنظر إلى ظهره، لا يلتفت..‏
-انتبه لنفسك.. ليس لي سواك!‏
خطواته تدق في قلبها..‏
حين يختفي، تشعر أن قلبها توقف عن الخفقان..‏
***‏

يأتيها رائق ليلاً..‏
يحمل مشعلاً، ووجهاً مضيئاً..‏
يلبس البياض، يأتيها على عجل مبتسماً، ويذهب على عجل مبتسماً أيضاً..‏
تنهض من النوم، تصرخ:‏
-رائق!.‏
صمت الليل ينام في جنبيها، تتمدد مرة أخرى، تسمع دقات قلبها، مع صوت خطواته..‏
-الأرض تناديني يا أمي!.‏
-أبوك قتلوه هناك.. وهو يمنعهم من الدخول إلى البيت!.‏
-رأيته!. بيديه القويتين كجسري البيت.. جابه رصاصهم، سقط أمام الباب، حتى جثته الضخمة منعتهم من الدخول!.‏
-رائق.. أما زلت تتذكر أباك؟!.‏
-في كل عملية يا أمي.. أستمد منه القوة!‏
تمددت الحاجة فاطمة، وخطوات رائق ودقات قلبها كأنها شيء واحد..‏
***‏
عند قهوة الصباح..‏
أمام السهل..‏
ثلاثة رجال نبتوا مع زهور الأقحوان التي تفتحت على الندى، وقفوا أمام الحاجة فاطمة صامتين..‏
كانوا يشبهون رائق..‏
نهضت، انسكبت قهوة الصباح..‏
صرخت:‏
-استشهد رائق!.‏
لم يتفوهوا بكلمة واحدة، ذهبوا كما جاؤوا..‏
بقيت الحاجة فاطمة جالسة هكذا، حتى غابت شمس ذلك اليوم، وحين سقطت الشمس خلف الأفق، انفجرت دموعها كينبوع!.‏
وبقيت الحاجة فاطمة، هكذا، في قرية كوكبا، صامتة، تنتظر مجيء رائق، من السهل الملآن بالأقحوان..‏
كانت تجلس صباحاً.. وتنهض مساء..‏
صارت الحاجة فاطمة عنواناً للانتظار في قرية كوكبا، والقرى المحيطة بها..‏
***‏
ذات يوم زارتها نسوة الحي، ليهونوا عليها، نظرت إليهن، وقالت بثقة:‏
-أتحسبونني مجنونة؟!.. لا.. رائق سيأتي.. من هذا السهل سيأتي.. أنا على ثقة أنه سيأتي!.‏
عندئذ، بكت النسوة، لكن الحاجة فاطمة لم تبك!.‏
***‏

يبدأ ليل الحاجة فاطمة، من غروب الشمس إلى شروقها..‏
يأتيها رائق، تتحدث إليه، تشرب الشاي معه، وتمسح على شعره..‏
وتكرر دائماً جملتها المعهودة بينها وبين نفسها:‏
- سيأتي رائق سيأتي!‏
وحين تتعب تنام وهي مبتسمة، وكأنها رأت رائق..‏
***‏

بيت الحاجة فاطمة بوابة سهل الأقحوان..‏
ذلك الصباح الصامت، البهي، كأنه صباح استثنائي..‏
جلست الحاجة فاطمة، مع قهوتها الصباحية، نظرت نحو السهل، تنتظر رائق..‏
رأت النسوة، يتجهن نحوها، وعلى وجوههن تساؤلات:‏
-ما الذي حدث؟!.‏
-لا أدري!.‏
-سمعنا حركة في عمق الليل.. يقولون إن الجنود هربوا!.‏
-إذن سيأتي رئق!.‏
تمتد الأبصار نحو سهل الأقحوان..‏
تنبت الأجساد الضاحكة، الراقصة، من السهل، تتكاثر.. ينكسر الصمت..‏
ويصبح ضوء الشمس أبهى وأبهى..‏
وتسمع الحاجة فاطمة خطوات رائق..‏
 
المصدر: وردة في معتقل الخيام: قصص متنوعة: جمال جنيد.

التعليقات (0)

اترك تعليق