مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

ابنتنا وسرُّ تلك الليلة

ابنتنا وسرُّ تلك الليلة

ابنتنا، الّتي لم يكن لها حظٌّ في الدنيا، فاطمة برونسي، وسرُّ تلك الليلة:
روت زوجة الشهيد عبد الحسين بروسني "معصومة سبك خيز":

حدث هذا في سنة 1347 هـ. ش. وكان لأوائل أيّام زواجي من عبد الحسين برونسي، حلاوة خاصّة. وكنّا كلّما مضينا في حياتنا المشتركة، كنت أتعرّف أكثر على أخلاقه وروحيّته. ورويداً رويداً فهمت لماذا أقدم على الزواج بي، فوالدي كان رجل دين، وهو كان يُريد أن يتزوّج من عائلة مؤمنة وملتزمة بأحكام الدِّين.
كان يعمل في ذلك الوقت فلّاحاً في القرية. ولم يكن يملك أرضاً، ولا حتّى متراً واحداً، بل يعمل دائماً عند هذا وذاك. وقد كان راضياً وقانعاً بهذه اللقمة الّتي يُهيِّئها بتعبه.
وكان، منذ أوائل أيّام زواجنا، يملك رسالة الإمام الخميني العمليّة[1]. الّذي كانت رسالته تختلف عن الرسائل العمليّة الأخرى، فقد كانت صورة الإمام على غلافها، ولو أنّهم كانوا قد رأوها فإنّهم كانوا سوف يُعاقبوننا عقاباً شديداً. كما أنّ والدي كان يملك عدّة كتب للإمام، وكان يُعيرها لبعض الأفراد ممّن يطمئنُّ بأنّهم يقرؤونها، وكأنّ الله قد هيّأ هذه الكتب لعبد الحسين.
وبسرعة، انتمى عبد الحسين إلى خطّ الثورة، فكان أيضاً يقوم بأنشطة أخرى في سبيل انتصارها، وعندما يعود في الليل إلى البيت، كان والدي يقرأ له الرسالة العمليّة ويقرأ له أيضاً بعض كتب الإمام الأخرى، وكأنّه في حلقة درس، وكانت هذه الجلسات والدروس الليليّة تُذهب كلّ عناء النهار من بدنه، فكان يبدو على نظراته الشوق والاستمتاع عندما يستمع إلى دروس والدي.
ولم يكن يهدأ في ما يتعلّق بالثورة من أمور، ولا يعرف التساهل فيها أبداً. وذات ليلة أتى أحد رجال الدِّين الثوريّين إلى قريتنا، وألقى خطاباً ضدّ نظام الشاه، وفي الليل أتى به عبد الحسين إلى منزلنا. وتتالت هذه الأعمال منه منذ ذلك الحين.
ومن الجدير بالذكر أنّ جهاده ضدّ حكومة الطاغوت بدأ منذ بدأ الحديث عن الإصلاح وتوزيع الأراضي.
عندها كنّا قد رُزقنا بطفل، وكان صبيّاً سمّيناه حسناً، وكان بعض الفلّاحين سعداء جدّاً بسبب توزيع الأملاك. ولكن عبد الحسين كان منزعجاً جدّاً، حتّى أنِّي لم أرى وجهه منشرحاً، منذ ابتدأ الحديث بتوزيع الأراضي، وكان يتملّكه الغضب بسبب هذه القضيّة.
وأمّا أنا، فأصبحت لا أعرف ماذا أفعل بالضبط، ولا كيف أُفكِّر! وقلت في نفسي: إذا كانوا يريدون أن يعطوا للفلّاحين أرضاً فهذا لا يدعو إلى الانزعاج! وكانت حيرتي تزداد عندما أرى الآخرين سعداء من هذا الموضوع. ذات مرّة كان عبد الحسين منفعلاً جدّاً، فقلت: لماذا يكون البعض سعداء بتوزيع الأراضي وأنت منزعج؟
فَقَطَبَ حاجبيه، ولم يُجب على سؤالي جواباً واضحاً، بل أجاب بكلام مقتضب قائلاً: كلُّ شيء سوف يخرب، يريدون أن يُنجِّسوا كلّ شيء!
وفي النهاية أصبح الكلام عن توزيع الأراضي قطعيّاً. وأتى إلى القرية، في يوم من الأيّام، عدّة أفراد من رجال الدولة، وداروا على كلِّ البيوت، وطلبوا من كلِّ الرجال الحضور إلى مسجد القرية، ولكن ليس بالقوّة.
وهنا أطلّ عبد الحسين عائداً إلى البيت، وفي نظراته توتُّر واضح، ثمّ ذهب بسرعة إلى مخزن الأغراض واختبأ في غرفة المونة، فلحقت به، وأذهلتني المفاجأةُ، فقد فهمت منه أنّه يُريد أن يختبئ هناك، فقد قال لي: إذا سألوا عنِّي فقولي: إنِّي لست هنا.
فتحت عينيّ من الدهشة وقلت: أقول إنّك لست هنا؟!
قال: نعم، قولي: إنِّي لست هنا، وإذا سألوا أين أنا فقولي: لست أدري.
في تلك الأيّام، كنت منزعجة جدّاً من تصرُّف عبد الحسين، وفي ذلك المكان الّذي يُريد الاختباء فيه، انفعلت كثيراً، فقلت بعتاب: ما هذا! أنا لا أفهمك! الجميع يُريد التملُّك، يأخذون ماءً وأرضاً، وأنت تختبئ؟!
لم يُجبني، ولم أتبيّن وجهه في ظلام المخزن، ولكنِّي علمت أنّه كان منزعجاً من عمليّة توزيع الأراضي فخرجت من هناك، ولم يمض عدّة لحظات، إلّا وطرق الباب، فذهبت بسرعة لأفتح الباب، وإذا بهم قد جاؤوا يطلبونه، فقلت لهم: ليس هنا.
فذهبوا، ولكن بعد دقائق، جاء كبار القرية يطلبونه، فرددتهم أيضاً. وفي ذلك اليوم لم يتركونا براحتنا، فقد أتَوْا من المسجد ثلاث أو أربع مرّات أخرى ليسألوا عنه وأنا أقول لهم: ليس هنا.
وعندما كانوا يسألوني: أين هو، كنت أقول: لا أعلم.
وحتّى انتهاء عمليّة توزيع الأراضي، فإنّ عبد الحسين لم تره شمس القرية. وفي النهاية قسّموا جميع الأملاك. وما زلت أذكر أنّه حتّى والده وأخاه جاءا بطلبه وكبار القرية أيضاً، وقالوا له إنّه يوجد باسمك ساعتان ملك[2] تعالَ خذهم.
قال: لا أريد.
قالوا: سوف تبقى عاملاً عند غيرك ما دمت على قيد الحياة.
قال: لا ضير في ذلك.
ولم يكن ليرضى مهما ساقوا له من أدلّة واستدلال. بل كان يُشجِّعهم على أن لا يأخذوا من تلك الأراضي شيئاً، فكانوا يقولون: ما دخلك بنا؟ أنت دعك منّا واهتمّ بنفسك.
وكان آخر فرد جاء إلى عبد الحسين هو صاحب الأرض بنفسه، أي: تلك الأرض التي أرادوا أن يُعطوها لنا. وقال له: يا عبد الحسين اذهب وخذ الأرض، الآن وقد أخذوا الأرض منّا بالقوّة فأنا راضٍ أن تكون لك، وهي أحلُّ لك من حليب أمّك.
ولكن عبد الحسين أجابه: أنت تعلم مقدار الأرض الّتي أخذوها من عدد من الأيتام الّذين لا وليّ لهم ودمجوها مع أراضٍ أخرى، وحتّى لو كنت أنت ترضى، ولكن حقوق الأيتام لا يُمكن التصرُّف بأيِّ شيء فيها.
وشيئاً فشيئاً فهمت لِمَ لمْ يقبل بأخذ الأرض. وفي يوم من الأيّام قال كلّ شيء وأوضح للجميع: أنّ كلّ ما يُعطيه الطاغوت نجاسة في نجاسة، وحرام في حرام، وأنا أيضاً لا أُريد هكذا شيء، ولا يُمكن أن أقبل بذلك، إنّ هؤلاء الطواغيت لا يُفكِّرون في مصلحتنا ولو بمقدار رأس إبرة.
وعندما نكون لوحدنا كان يقول: لعنة الله عليه[3]. أيّ بلاء سبّب للناس بسبب أعماله هذه!
وحصل الّذي حصل، وأصبح كثير من الناس ملاّك أراضي. وشمّر عبد الحسين عن زنديه وأخذ يعمل فلّاحاً لدى هذا وذاك. وكان سنّ أوّل ولد لنا ثمانية شهور عندما حصدوا أوّل محصول من القمح، فأتى عبد الحسين إلى البيت وقال لي: منذ اليوم يجب أن تنتبهي جيِّداً.
قلت: أنتبه لماذا؟
أوّلاً: أنت، يجب ألّا تأكلي من بيت والدي أيّ شيء.
ثانياً: إضافة إليك أنت نفسك، انتبهي لحسن أن لا يعطوه قطعة صغيرة من الخبز.
صرخت متعجِّبة: هل هذا ممكن؟!
أشرت إلى حسن وقلت: ياإلهي إنّه ولدهم!! لا! أنا لست راضية، انتبه جيِّداً.
كانت لهجته جدية وقاطعة. وفي ذلك الوقت ذهب إلى منزل والده، ومن أجل إلقاء الحجة عليهم، قال لهم ما قاله لي. ولم يأكل هو أيضاً شيئاً من هناك منذ ذلك الحين!
ومرّت الأيّام، وشيئاً فشيئاً أطلّ فصل الخريف، وفي ذات يوم حضّر حقائبه وسافر إلى مشهد من أجل زيارة الإمام الرضا عليه السلام . وعلى عكس المرّات الماضية فقد أطال غيابه هذه المرّة.
مضى عشرة إلى خمسة عشر يوماً، عندها بدأت أقلق. وفي ذات يوم وصل منه خطاب فارتاح بالي لهذا، وكانت الرسالة باسم والدي، ففتحها، وكان كلُّ ما قرأ سطراً بدا عليه التعجُّب أكثر، وتأخّرت حتّى فهمت ماذا كتب، فأحسست بحيْرَة. وعندما أنهى والدي الكتاب رفع رأسه، ثمّ قال: لقد كتب في رسالته: إنّه لن يعود أبداً إلى القرية، وإذا أردتم أن تُرسلوا ابنتكم إلى مشهد، فأرسلوها، وإذا كنتم لا ترغبون، فإنّ كلّ شيء في المنزل وما أملك في حياتي فهو ملككم، فبيعوا كلّ ما تريدون وأمّا ولدي فأرسلوه إليّ.
وطوى والدي الرسالة، وعاد وقرأ عنوان عبد الحسين مرّة أخرى، وقال: في هذا الوضع الّذي وصلته القرية فإنّ الحياة فيها أصبحت مشكلة.
ونظر إليّ بإمعان وسكت؛ ثمّ قال: يجب أن تذهبي إلى المدينة بأسرع وقت ممكن، وأنا إن شاء الله سوف أجمع كلّ أغراضي وسوف ألحق بكم؛ إنّ هذه القرية لم تعد مكاناً لأمثالنا.
ومنذ ذلك اليوم بدأنا بالاستعداد، فبعنا بعض أغراضنا وأعطينا الدائنين ما لهم علينا، وأمّا بقيّة الأغراض، ممّا لم يكن له قيمة، فقد وضّبناها بشكل أو بآخر. ولم يبق علينا سوى السفر إلى مشهد. وسافرت إليها مع والده (رحمة الله عليه).
كان العنوان في أحمد آباد، شارع باستور. وعندما وصلنا علمت أنّ هذه المنطقة هي منطقة الأعيان (الأثرياء)، ولقد تساءلت وقتها كيف وجد هذا المكان؟
وأخيراً، وصلنا إلى البيت، وتفاجأت عندما علمتُ أنّ المنزل مستقلٌّ وهو لنا
وحدنا، فقد كان مكاناً جَيِّداً، فيه باحة للعب الأطفال. وعندما سألت عبد الحسين، علمت أنّ هذا المنزل هو ملك لصاحب الأرض الّتي رفض عبد الحسين أخذها، وعندما علم أنّ عبد الحسين سيبقى في مشهد، أخذه إلى ذلك المنزل وقال: هذا المنزل هو لكم.
ولم يقبل عبد الحسين وقتها. ولكن صاحب المنزل قال: حسناً إبقَ هنا مجّاناً إلى أن تحصل على عمل.
سألته: حسناً، هل حصلت على عمل؟
ابتسم وقال: نعم.
سألته بسرعة: ما هو العمل؟
قال: على طرف الشارع يوجد بائع خضار، وأنا الآن أعمل هناك فعلاً.
ورجع والد عبد الحسين إلى القرية في نفس اليوم الّذي وصلنا فيه إلى مشهد، وبدأنا نحن حياتنا الجديدة، الّتي كان التعوُّد عليها صعباً، ولكنّنا في النهاية تدبّرنا أمرنا.
عمل عبد الحسين عند بائع الخضار قرابة الشهرين. وفي بعض المرّات، عندما كان يتكلّم عن عمله كنت أُحسُّ أنّه غير مسرور. وذات يوم قال: إنّ هذا العمل ثقيل عليّ كثيراً، لقد فررت من تقسيم الأراضي حتّى لا آكل مالاً حراماً، ولكنِّي هنا أيضاً أُعاني من نفس الموضوع، وليس أقلّ ممّا هو في القرية.
سألته: لماذا؟
قال: إنِّي أحتكُّ كثيراً مع نساء بلا حجاب، وصاحب محلِّ الخضار ليس إنساناً صالحاً، فإنّه يضع الماء على الخضار حتّى تُصبح ثقيلة الوزن.
ثمّ تأوّه وتابع: من الغد لن أذهب إلى هناك.
قلت: إذا كنت لا تُريد أن تذهب إلى هناك فماذا تعمل؟!
قال: لا تقلقي، الله كريم.
وفي صباح اليوم التّالي ذهب أيضاً ليطلب عملاً، وعندما عاد عند الظهر قال: لقد وجدت عملاً عند بائع لبن.
قلت: كم سيُعطونك أجرة؟
قال: أفضل من بائع الخضار، سوف يُعطوني عشرة توامين.
وهكذا! عمل عند بائع اللبن عشرة إلى خمسةَ عَشَرَ يوماً، وذات يوم بعد الظهر عاد قبل أوانه. وعندما أردت أن أسأله عن السبب، وقع نظري على عدّة يحملها في يديه، فقد كان يحمل رفشاً ومعولاً! فسألته: لماذا أحضرت هذه العدّة؟
قال: بعون الله وأربعة عشر معصوماً عليهم السلام سوف أذهب منذ صباح الغد إلى العمل.
وكنت قد سمعت أموراً عن العمّال المتجوِّلين، وأنّ عملهم متعب جدّاً. فقلت له: كان العمل عند بائع اللبن ذاك جَيِّداً، والأجرة عنده كانت جَيِّدَة أيضاً!
فهزّ رأسه يمْنَة ويسْرَة، وقال: هذا أسوأ من بائع الخضار ذاك أيضاً.
قلت: كيف؟
قال: يغشّ في البيع ويخلط المواد السيّئة مع المواد الحسنة ويبيعهم بقيمة عالية، وأيضاً يُخسر الميزان؛ والأسوأ أنّه يريدني أن أكون مثله! وإذا أردت أن تَخْلَصِي بنفسك يجب أن تفعلي ما فعلت!
ثمّ أكمل بغيظ: خبز هذا حرام أكثر من ذاك!
وفي صباح ذلك اليوم ذهب حسب قوله إلى العمل، عاملاً جوّالاً، وبعد ثلاثة أو أربعة أيّام جاء من عمله آخر الليل، وقال: الحمد لله اليوم تعرّفت على بنّاء سوف يأخذني معه إلى العمل.
قلت: وهذا كم يُعطي أجرة في اليوم؟
قال: عشرة توامين.
كان عمله صعباً إلى حدٍّ أنّه يذهب بالنفس. وعندما كنت أُقارنه بالعمل عند بائع اللبن، كان قلبي يتفطّرُ عليه. وكنت قد قُلت له هذا. فقال: هذا ليس مهمّاً، فإنّ اللقمة الّتي يتعب فيها الإنسان هي لقمة طاهرة وحلال، وأفضل بكثير من العمل عند ذاك.
وشيئاً فشيئاً سلك في عمل البناء، ومن ثمّ أصبح بنفسه "معلِّماً" وأصبح يصطحب معه عاملاً، وأصبحت نتيجته أيضاً أفضل من ذي قبل.
في تلك الأيّام، جاءت أمُّه من القرية لزيارتنا، وأحضرت معها صرّة فيها خبز وإثنان أو ثلاثة كيلو لبنة وأحضرت لنا معها أشياء أخرى كذلك، فجمع عبد الحسين كلّ ما أتت به، وأخذه بسرعة إلى المطبخ. فقالت أمُّه: ألا تصبر ليأكل عيالك.
فشكرها وقال: الآن ليسوا جائعين، إن شاء الله سوف نأكل فيما بعد.
ولم يأكل هو، ولم يدعنا أنا وحسن نمسّهم. وما أن ذهبت أمُّه إلى الحرم، حتّى أخذ الصرّة وما أحضرته أمُّه معها إلى دكّان ووزنهم، ودفع مقدار قيمتهم مالاً لعدّة فقراء يعرفهم، وعندها فقط سمح لنا بالأكل منهم. ولم يدع أمّه تعرف عن الموضوع أيّ شيء، حتّى لا تنزعج.
وبقيت العجوز عندنا لعدّة أيّام. وعندما قرّرت الذهاب قال عبد الحسين، لا تذهبي إلى القرية ابقَي عندنا هنا.
فقالت: ووالدك، ماذا أفعل به؟!
قال: وهو أيضاً أُحضره إلى المدينة.
كان يتمنّى من كلِّ قلبه أن تبقى أمُّه عندنا، وكان أكثر ما يُحرقه موضوع الأراضي المقسّمة، ولكنّ والدته لم تقبل بالبقاء عندنا، وتوجّهت إلى القرية. وذهب عبد الحسين أيضاً إلى القرية ليعلم وجهة نظر والده. وكان هناك يجمع الشباب ويقول لهم: أيٌّ منكم يُريد الذهاب إلى مشهد ليُحصِّل العلوم الدينيّة فأنا سوف أتكفّله في معيشته.
رضي أهالي ثلاثة أو أربعة، فأحضرهم عبد الحسين إلى مشهد، وسجّل أسماءهم في إحدى الحوزات العلميّة، ومنذ ذلك الوقت كان يُعاملهم كأنّهم أولاده من ناحية المصروف. وبدأ هو أيضاً بتحصيل العلوم الدينيّة، فكانت أيّامه للعمل ولياليه للدرس. وفي ذلك الوقت كانت قد حميَت المواجهات جِدّاً مع نظام الشاه.
كنت قد حملتُ، وكان والدي ووالدتي قد أتيا للعيش في مدينة مشهد، وذات يومٍ
كنت في بيت أهلي وأحسست بآلام المخاض. وكان وقتها شهر رمضان والوقت قريب المغرب. فأسرع عبد الحسين وأحضر سيّارة أجرة، فقالت له والدتي: ماذا تُريد أن تفعل؟
قال: أُريد أن يولد الولد في بيتنا، وأنت أيضاً تعالي إلى هناك وأنا سوف أذهب وأُحضر القابلة.
وكانت إحدى نساء القرية عندنا أيضاً في ذلك الوقت، وركبنا ثلاثتنا السيارة وذهبنا باتجاه البيت، وهو كان عنده درّاجة ناريّة، فذهب ليُحضر القابلة.
وصلنا إلى البيت. وكنت أتألّم كثيراً وأدعو الله أن تأتي القابلة بسرعة. وكنت أرى الفزع في نظرة والدتي، الّتي لم تكن لتهدأ. وعندما سمعت صوت الباب أسرعت وكأنّها تملك جناحاً لتطير. وفتحت الباب بسرعة. ثمّ عادت بعد قليل وقالت بفرح: لقد أتت السيِّدة القابلة.
كانت القابلة سيِّدة وقورة ومحترمة. وحسب القول الدارج فقد كانت "يدها خفيفة". فولد الطفل أسهل ممّا كنت أظنُّ. كانت طفلة جميلة، عيناها داكنتان، وكان قوامها وشكلها يبدو لي عجيباً. ولم أستطع أن أصرف نظري عن وجهها. ضحكت السيِّدة القابلة وسألت: ماذا تريدون أن تسمُّوا الطفلة؟
فلم أُحِر جواباً[4] ولم أدر ماذا أقول. فقالت: سمّوها فاطمة، اسم جميل جدّاً.
هذه القابلة، لم أرَ ولم أحتكّ بمثلها ومثل أدبها. فخرجت أمِّي من الغرفة ثمّ عادت ومعها صينيّة مليئة بالفواكه فدعتها وألحّت عليها. ولكنّها لم تأكل شيئاً، قالت لها: تفضّلي، لا يصحُّ أن لا تأكلي.
قالت: شكراً جزيلاً، لا آكل.
فأحضرت أمِّي أشياء أخرى، ولكنّها لم تأكل شيئاً برغم إصرارنا عليها. وبعد قليل سلّمت علينا وذهبت.
كان قد مضى منتصف الليل. ووصلت عقارب الساعة إلى الثالثة. وكنّا كلُّنا قلقين على عبد الحسين، وكانت أمِّي تُردِّد: يا إلهي! إنسان غير مسؤول إلى هذا الحدّ؟!
ولكنّني كنت قلقة عليه، وأحسست بأنّ النار تأكلني، وكنت خائفة من أن يكون قد أصابه مكروه. وأخيراً! وفي الساعة الثالثة، سمعت صوت الباب، فقلت بسرعة: حتماً هو.
ذهبت أمِّي إلى الباحة الخارجيّة، ولم تُمهله حتّى يدخل الدار، بل شرعت تلومه، وسمعتُ صوته يقول لها: خالتي العزيزة!
فقالت له قبل أن يُكمل كلامه: أرسلت القابلة وذهبت!؟ يا إلهي ألم تتوقّع أن يحصل شيء سيِّئ لا سمح الله؟
وبقيت أمِّي تلومه وهو يسير أمامها وهي تسير خلفه، حتّى وصل إلى الغرفة الّتي أرقد فيها مع طفلتي، عندها قال عبد الحسين: خالتي! بما أن القابلة قد أتت فماذا تريدون منّي؟
ولم يُعط فرصة أخرى لأمِّي لتقول شيئاً، وتوجّه بسرعة إلى مهد الطفلة، فأمسكها من قماطها ورفعها. ثم بدأ بالبكاء! كان الدمع ينهمر مثل المطر من عينيه، ولم يُبعد عينه عن الطفلة، وأخذ ينظر إليها بحيرة ويبكي.
حيّرني بكاؤه وسألته: لماذا تبكي؟
ولم يقل شيئاً، ولم يكن بكاؤه طبيعيّاً، فاعتقدت أنّه يبكي من شدّة شوقه لها. وبعد أن هدأ قليلاً قلت له: السيِّدة القابلة أرادت أن نسمِّيها فاطمة.
قال بصوت حزين: أنا كنت أُريد ذلك أيضاً، كنت أنوي أنّه إذا كان المولود فتاة فسوف أسمِّيها فاطمة.
قلت: صحيح! عبد الحسين، لقد أحضرنا إليها الفواكه والشاي، ولكنّها لم تأكل شيئاً.
قال: هي لا تُريد شيئاً.
وترك الطفلة إلى جانبي. كان حاله متغيّر. مثل زهرة ذابلة.
وبعد انتهاء الليل بقي وضعه هو نفسه، وكان كلّما حضن الطفلة يبكي، وبعيداً عن أعيننا. كنت أعلم أنّه يعشق السيِّدة فاطمة الزهراء عليها السلام كثيراً، وكنت أقول في نفسي: لأنّنا سمّينا الطفلة فاطمة، فهو حتماً يتذكّر السيِّدة فاطمة الزهراء ويبكي.
وأصبح عمر فاطمة خَمسَةَ عَشَرَ يوماً، وكان يجب أن نأخذها إلى الحمّام[5]، وقبل ذلك، كان يجب أن تحضر القابلة لتراها وتفحصها، ولكنّني كلّما كنت أطلب من عبد الحسين أن يذهب لإحضار القابلة، كان يقول: لا لزوم.
فقلت له: يا إلهي يجب أن تكون القابلة حاضرة.
فأجاب بانزعاج: القابلة لن تحضر، خذوا أنتم الطفلة إلى الحمّام.
ولم تُفلح مساعينا، واستقرّ رأيه على عدم الذهاب. فأخذت الطفلة مع أمِّي إلى الحمّام.
وبعد عدّة أيّام، كنت مع ولديّ فاطمة وحسن في البيت، وفي وسط نهار ذلك اليوم أتى عبد الحسين وقال: وضعك الصحِّي إن شاء الله جيِّد؟
قلت: نعم، لماذا؟
قال: لقد استأجرت منزلاً قريباً من بيت أمِّك، أُريد أن أجمع أغراضنا وننتقل إلى هناك.
اتّسعت حدقتا عينيّ جدّاً من الدهشة وقلت له: لماذا تُريد أن نذهب؟ هذا المنزل جيّد، فهو بدون أجرة.
قال: إنّ هذه الطفلة تبكي كثيراً، وأنت وحدك، فمن الأفضل أن تكوني قريبة من أمِّك.
سكتُّ قليلاً، ثمّ واصل الكلام قائلاً: أُريد أن تنتبهي جيِّداً إلى فاطمة.
ثمّ ما لبثنا أن جمعنا أغراضنا. وعندما علم صاحب المنزل أنّنا نُريد أن نُخلي البيت، انزعج وقال: هذا المنزل مستقلٌّ، وأنا لا أُريد منك أجرة ولا أيّ شيء آخر، لماذا تُريد أن تتركه؟
قال عبد الحسين: لن نُزعجك أكثر من هذا.
قال: أيّ إزعاج هذا؟ لا يوجد أيُّ إزعاج لنا. ابقَ هنا، ولا تُغادر.
ولكن عبد الحسين بقي مصرّاً على موقفه، وكما يقولون "ركب حصانه"، وأصرّ على مغادرة المنزل، وذهبنا.
أصبح عمر فاطمة تسعة أشهر، ولكنّها كانت تبدو أنّها ابنة سنتين. وكان كلُّ من يراها يقول: ما شاء الله! ما أجملها.
كان وجهها منيراً وجذّاباً. وذات مرّة كان عبد الحسين يحضنها ويبكي، فأصرّيت عليه، وسألته: ما الّذي يُزعجك من أمر هذه الطفلة؟
حاول أن لا يُريني بكاءه، وقال: لا شيء! أُحبُّها، لأنّ اسمها فاطمة، فأنا أُحبُّها كثيراً.
وبقيت أنا لا أعلم ما هو سرّ هذه الطفلة، فإنّ ذكراها ما زالت ماثلة أمام ناظرَي واضحة مثل ضوء النهار، خصوصاً في أواخر عمرها، عندما مرضت، ولم تلبث بعد عدّة أيّام أن ماتت.
لقد غسلها عبد الحسين بنفسه وكفّنها ودفنها، وبنى لها قبراً مثل الكبار، ووضع عليه شاهداً، وكتب على الشاهد: (فاطمة برونسي التي لم يكن لها حظٌّ في الدنيا).
وبعد مضي عدّة سنوات على وفاة ابنتنا فاطمة، وبعد انتصار الثورة وشنّ الحرب العدوانيّة الصدّاميّة على إيران، توجّه عبد الحسين إلى الجبهات.
وكانت تمضي أحياناً مدّة طويلة من الزمان بدون أن أسمع عنه أيّ خبر، فكنت أحياناً أذهب إلى بعض رفاقه من الحرس المشاركين في الحرب، من الّذين يأتون في إجازة وأسألهم عنه. وفي ذات مرّة ذهبت لأسأل عنه أحد أفراد التعبئة، فأراني صورة فوتوغرافيّة، كانت لعبد الحسين يجلس مع بعض رفاقه المقاتلين، وقال: انظري يا حاجّة، هذا السيِّد برونسي يتحدّث عن ولادتك لفاطمة.
غضبت، وخجلت، واحمرّ وجهي، ولم أدر ما أقول، ثمّ قلت بانزعاج: ما هذا الذي يفعله السيِّد برونسي!
ثمّ سلّمت عليه بعد قليل وخرجت، وأنا غاضبة جدّاً. وكنت دائماً أُحدّث نفسي بعد ذلك وأقول: ما هذا التصرُّف الّذي يفعله عبد الحسين؟ يجلس ويتحدّث لرفاقه عن ولادتي لفاطمة؟!
وبعد مدّة عاد من الجبهة. ولم أُعطه مهلة ليرتاح، بل فتحت سيرة هذا الموضوع، وقُلت له معترضة على تصرُّفه: كيف تتحدّث مع الناس عن ولادتي لفاطمة؟!
ضحك وقال: هل تعرفين عن أيِّ موضوع كنت أتحدّث؟
لم أفكِّر في ما يقصده وقلت: لا.
اختفت الضحكة عن شفتيه، وبدى مكانها الحزن والغمُّ في نظرته، ثمّ تأوّه وقال: كنت أُخبرهم عن وقائع ولادة ابنتي فاطمة.
وفجأة، أصبحتُ فضوليّة، أُريد أن أفهم ماذا قال! وقد مضت سنوات على وفاة طفلتنا، ولكن ذكراها لم تُمح من ذاكرتي، وكنت في بعض الأحيان أقول في نفسي: لا بُدّ أن يكون هناك سرّ في ولادة هذه الطفلة، ولكنِّي لم أكن أجهد نفسي في البحث عنه كثيراً.
وفي النهاية أفشى لي بسرّه، ولكنّه لم يُفشِه بشكل كامل وكما أُريد. فقال: في ذلك اليوم وقبل الغروب وعندما ذهبت لإحضار القابلة... هل تذكرين؟
قلت: نعم، كنّا نحن قد ذهبنا إلى منزلنا.
هزّ رأسه، وأطرق إلى الأسفل، وسكت، ثمّ أردف قائلاً: عندما كنت ذاهباً التقيت بأحد طلبة العلوم الدينيّة، فطرأ عليّ عمل ضروريٌّ، كان هناك بيانات سياسيّة تتعلّق بالثورة يجب نشرها، وكان يجب أن أكون حاضراً؛ ولم يكن يوجد أمامي حلّ آخر[6]، فتوكّلت على الله وذهبت معه... إنّ أحداث تلك الليلة طويلة.
ولا أستطيع ان أقول لك إلاّ هذا فقط، ولكن في الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل تذكّرت موضوع القابلة، وقلت في نفسي: يا ويلي! كان من المفترض أن أُحضر القابلة! وكنت أعلم أنّه قد سبق السيف العذل، وأنّه لم يعد بيدي حيلة، وأنّكم لا بُدّ أن تكونوا قد تصرّفتم وفعلتم شيئاً. وأسرعت إلى البيت. وعندما قالت لي أمُّك: (أرسلت القابلة وذهبت إلى عملك!) احترت عندها ولكنِّي علمت أنّ هناك سرّاً وراء هذه الحادثة، وهذه القابلة، ولكنِّي لم أُبدِ ذلك.
وهنا! سكت عبد الحسين، وامتلأت عيناه بالدموع، وأصدر من صدره آهة طويلة وتابع: أتعلمين أنّه لم يكن أحد يعلم بوضعنا في تلك الليلة، وأنّني أنا فقط كنت أعلم أنّني يجب أن أذهب وأُحضر القابلة، ولكنِّي لم أفعل شيئاً، يعني أنّني لم أُرسل لكم في تلك الليلة أحداً. وتلك السيِّدة الّتي أتت، من ومهما كانت، فإنّها قد أتت إلى منزلنا في تلك الليلة وحدها ولم يُحضرها أحد!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- وهو كتاب الفتاوى بحسب رأي الإمام الخميني(قده).
[2]- كان القرار في تلك الأيَّام أنَّه مقدار الأرض، ـأي: ما يعادل سقاية ساعة ماء من 24 ساعة يقسمونها ما بين الأراضي الزراعيةـ، يقولون حسب المصطلح: ساعة ملك، وساعتان ملك، ساعتان تقسيم الماء من 24 ساعة.
[3]- مقصوده الشاه المخلوع.
[4]- أحار الجواب: ردّه. يقال: سأله فلم يُحِر جواباً: لم يردَّ (مجمع اللغة العربيّة المعجم الوجيز عنوان: "حار").
[5]- في تلك الأيّام لم يكن يوجد حمَّام في البيوت وكان الناس يذهبون إلى الحمَّام العموميِّ. (المعرب)
[6]- نيّة الشهيد برونسي وخلوصه كانت على لسان كلِّ من يعرفه وما زالت. وكان لا يعرف الهدوء والمماطلة في العمل مع الثورة والصراع مع نظام الطاغوت، وكان من أجل الثورة ينسى أعقد مشاكله الشخصيَّة. وكان هذا أمراً طبيعيّاً بالنسبة لنا.



المصدر: تراب كوشك الناعم، إعداد: مركز نون للتأليف والترجمة، الطبعة: الأولى، تشرين الثاني 2010م- 1431هـ

التعليقات (0)

اترك تعليق