مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

اللقاء الأخير

اللقاء الأخير

طاهرة كاوه1:
كان قد أُصيب بنحو 12 شظيّة صغيرة وكبيرة في هجوم "الحاج عمران". وقد أُدخل إلى مستشفى الإمام الحسين عليه السلام في مشهد من أجل الاستشفاء. اخترقت بعض الشظايا أماكن حسّاسة في رأسه، بحيث لم يستطع الأطبّاء إخراجها. وقد اجتمع رأيهم على أمر واحد وهو أن لا إمكانيّة لإجراء العملية له في إيران، لعدم توفّر الوسائل والأدوات آنذاك! لم يكن محمود ليقبل أبداً في أوضاع الحرب تلك، بأن يسافر إلى الخارج للعلاج. أذكر أنّ أبي سأل الأطبّاء: "أليس هناك أيّ طريق للعلاج؟"
قالوا: "فقط، عليه الاستراحة مهما أمكنه".
هذا الأمر لم يكن متيسّراً له حتى أيّام وجوده في المستشفى.
فعندما علم الناس بإصابته، كانوا يأتون كلّ يوم لعيادته حاملين معهم باقات الورد والهدايا المختلفة. والملفت هنا، أنّ كلّ واحد منهم كان يودّ أن يقبّل "محموداً" ويطلب منه أن يتحدّث إليه.
كانت هذه الزيارات تتعبنا نحن الأصحّاء، فكيف بمحمود! لكنّ العجب أنّه لم يكن يكلّ ولا يملّ. وفي كلّ مرّة كانت تدخل مجموعة إلى غرفته، كان يتعاطى معها ببرودة أعصاب تامّة، ويقصّ عليها ثانيةً ما جرى معه. يمكنني القول، وبجرأة، إنّ مستشفى الإمام الحسين عليه السلام الّتي كانت في ذلك الوقت غريبة وغير معروفة، أصبح لها رونق آخر، وأضحت مكاناً لاجتماع النساء والرجال، الشيب والشباب، الأمر الّذي كان في الحقيقة مدعاةً للعجب.
كان محمود بالرغم من إصابته البالغة، والقيود الّتي وضعها له الأطبّاء، يستقبل دائماً جميع الزوّار بهدوء وببسمته العذبة المعهودة. يومذاك كان منزلنا قريباً من المستشفى، وكنت أقضي معظم وقتي هناك. كنت قد أوقفت نفسي لخدمته من كلّ قلبي، ولأهتمّ بغذائه بالمقدار الّذي كان الأطبّاء يسمحون به. صباحاً، آخذ له الحليب البلدي ومخلوط صفار البيض والتمر وسوائل أخرى دافئةً. فكان يقول بخجل في كلّ مرّة: "لا تخجليني يا أختاه، لا أريد أن أتعبك"، وكان يشكرني كثيراً.
في يوم من الأيّام وفيما كنت أحمل له طعاماً قال: "طاهرة، قلّلي من زياراتك إلى هنا!" قلت: لماذا؟
قال: "بالنهاية يوجد هنا رجالٌ أجانب عنك، وهذا الأمر ليس جيّداً."
بالطبع، كان لكلامه سببٌ آخر، فعندما كنت أذهب إلى هناك، لم يكن الاخوة الّذين كانوا يأتون لزيارته يأخذون راحتهم.
كانت تلك الأوقات الّتي يُجبر فيها على المكوث عدّة أيّام في مكان واحد، تُمثِّلُ الفرصة الوحيدة للقائنا به. قلت بانزعاج: "لا يمكننا رؤيتك جيّداً في أيِّ وقتٍ سوى على سريرِ المستشفى، حتَّى هذه الفرصة تريد أن تحرمنا منها؟!"
والسبب الآخر لطلبه هذا هو أنّه لم يكن يحبّ أن نلازمه كثيراً، كي لا يزداد تعلّقنا به. رغم كلّ هذا الكلام، لم أتوقّف عن زيارته! ومع أّنّي قلّلت من زياراتي نهاراً، إلاّ إني كنت أعوّضها ليلاً.
ذات ليلة لم أحتمل البقاء في البيت وهو يعاني في فراش المرض. قرّرت أن أذهب إلى المستشفى لأطمئنّ إلى حاله. اختلقت في نفسي عذراً، حتّى إذا سأل عن سبب مجيئي، يكون جوابي حاضراً. ذهبت، وما إن وصلت إلى القاعة حتّى قال السيّد يوسفي ممرّض محمود: "كان السيّد كاوه متألماً جدّاً وكان يتلوّى من الوجع، لقد حقنّاه بإبرة مسكّنة، وهو الآن نائم، الأفضل أن لا تدخلي".
اقتنعت، ولكنّني لم أحبّ أن أرجع خالية الوفاض. قلت للسيّد يوسفي: "لكن لو سمحت، حبّذا لو تترك مصراع الباب مفتوحاً بعض الشيء، حتى أنظر إليه من هنا".
كان هناك مصباح خافت مضاءٌ في غرفته، يمكن من خلاله رؤية محمود. كان ممدّداً باتّجاه القبلة. أمعنت النظر قليلاً، ظننت أنّه يتكلّم مع شخصٍ ما، لكن ما من أحد كان إلى جانبه. دقّقت أكثر لأسمع ما يقول، لم أستطع. أثار ذلك فضولي، فتقدّمت قليلاً. وبينما أنا أنظر إليه من فتحة الباب عرفت أنّه كان يصلّي. وكأنّه أيضاً كان يبكي بهدوء. غبطته كثيراً على روحيّته الّتي لا توصف. غصت في بحر من الأفكار، ولا أعلم كم مضى من الوقت على ذلك. وعندما عدت إلى حالي، رأيت محموداً وقد رفع رأسه وهو ينظر إليّ! سألني: "طاهرة، ماذا تفعلين هنا؟ ومع من أتيتِ؟"
في البداية، تسمّرت في مكاني، ولكن عندما رأيت أنّه قد حدث ما حدث، دخلت وقلت: "اشتقت إليك وجئت لأطمئنّ إلى صحّتك".
كأنّه امتعض قليلاً حيث قطعت خلوته. ضحك وقال: "اذهبي إلى البيت، صحّتي جيّدة". عمّني اطمئنان عجيب جرّاء تلك اللحظات القليلة، ومدّتني روحيّته العالية بجرعة كبيرة من المعنويّات، حيث أذكر أنّني في تلك الليلة قضيت الطريق من المستشفى إلى البيت في حالة بكاء لا إرادي.
مكث عدّة أيّام في مستشفى الإمام الحسين عليه السلام. وقتذاك، كان والدي ورفاقه المجاهدون يرتّبون الأوضاع لسفره إلى إحدى الدول الغربيّة من أجل العلاج، لكنني لم أكن أعلم سبب مسارعتهم إلى ذلك.
ذات يوم، كنت جالسة في البيت، وإذا بالباب يُطرَق، وما إن فتحته حتّى تسمّرتُ في مكاني! كنت أتوقّع رؤية أيّ شخصٍ سوى محمود، برأسه الحليق والمضمّد أيضاً. كانت تجاويف عينيه وضعف جسده لافتة للنظر، فاسترسلت لا شعوريّاً في البكاء. قلت بصوت متهدّج: "كيف أتيتَ وأنت على هذه الحال؟ كان عليك البقاء في المستشفى والاستراحة لعدّة ليالٍ أُخر".
قال: "الدنيا ليست مكاناً للراحة، ينبغي أن أذهب إلى عملي في اللّواء، لديّ أعمال كثيرة تنتظرني".
كان من الواضح أنّه على عجلة للذهاب. قال: "الحقيقة يا أختاه، أنّك جعلتني مديناً لك هذه الأيام".
قلت: "لِمَ"؟ قال: "لكلّ هذه الزيارات والجهود". بكيت ثانية وقلت: "حقّك علينا أكبر من هذا بكثير". قال: "على كلّ حال كان عليّ المجيء لأشكرك". وما إن شرعنا بالحديث حتّى فهمت أنّ قراره بالذهاب جدّيّ، وأنّه لم يستسلم لضغوط السفر إلى الخارج للعلاج.
قلت: "أخي، أتظنّ أنّك تقوم بالعمل الصائب"؟
قال: "ينبغي للإنسان في كلّ الأوضاع أن يعرف ما هو تكليفه".
قلت: "أنت لا تفكّر في نفسك على الإطلاق، وإنّك تظلمها مع هذه الشظايا في رأسك".
قال: "عليّ أن أؤدّي تكليفي، والأمور الأخرى يصلحها الله".
قلت: "حسناً، والآن، لِمَ لا تريد أن تسافر إلى الخارج"؟
قال: "أوّلاً، البعثة إلى الخارج تكلّف الدولة نفقات هائلة، ولست مستعدّاً لأن أكلّف الجمهوريّة الإسلامية فلساً واحداً. وثانياً، قلت إنّه ينبغي أن أعرف ما هو تكليفي".
وأيضاً لم أستطع أن أمسك نفسي عن البكاء. عندما رآني أبكي قال: "الأمر لا يستدعي كلّ هذا القلق، فبالنهاية لهذه الشظايا علاج، نضع عليها مغناطيساً، فتخرج بنفسها".
ضحك السيّد خرّمي والشخصان اللّذان كانا برفقته لكلامه، لألتفت إلى أنّه يمزح. بعدها غيّر موضوع الحديث بلطف ولباقة. ولكنّني لا أعرف لِمَ ضقت ذرعاً وقلّ صبري. يومها، عند الوداع، أحسست بشعور غريب. لا أعرف لِمَ لَمْ أكن أودّ أن أُفارقه. ذهب محمود على تلك الحال إلى الجبهة، وكان ذلك آخر لقاء لنا معاً.

الحمد لله ربّ العالمين
________________________________________
1- أخت الشهيد
* كاوه من شهداء الجبهة الإيرانية.

المصدر: كتاب: كاوه - معجزة الثورة: حميد رضا صدوقي- سعيد عاكف، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، تعريب: مركز نون للتأليف والترجمة، الطبعة: الأولى، كانون الأول 2012م - 1434هـ

التعليقات (0)

اترك تعليق