مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

صحراء وانفساه

صحراء وانفساه

معصومة سبك خيز:
كان السكوت الثقيل يملأ كلّ مكان، وكان الأولاد قد ناموا جميعهم. وأنا كُنت أهيِّئ نفسي شيئاً فشيئاً للنوم.

فوصل إلى سمعي في عتمة الليل صوت هادئ. كان من داخل الباحة الخارجيّة لمنزلنا، كان صوت إقفال الباب الخارجيِّ، وبكلِّ احتياط. ارتجف قلبي للحظة من السعادة، فعبد الحسين لم يأت في إجازة منذ ثمانين يوماً، وخرجت من البيت إلى الباحة لمجرّد فكرة أنّه يُمكن أن يكون هو.

كان ظنِّي في محلّه، فقد رأيته أمام الباب الداخلي للبيت، بابتسامته الدائمة، فسلّمنا على بعضنا وسألنا بعضنا عن أحوالنا، وقُلت بصوت يملأه الحماس: لأذهب وأُوقظ الأولاد.

فقال هامساً: لا، لا لزوم لإيقاظ الأولاد.

قُلت متعجِّبة: لماذا؟!

قال: دعيني أدخل، سأُخبرك.

فأخبرني بطريقة تجعلني لا أنزعج، بأنّه غداً في الصباح الباكر يجب أن يذهب إلى كاشمر، فقد تقرّر أن يُلقيَ خطاباً هناك أيضاً، وكان قد تواعد أيضاً مع القائد هناك، ثمّ قال: إن شاء الله، غداً بعد الظهر سوف أعود وآتي إليكم، هكذا أرى الأولاد أفضل وأشبع منهم أكثر....

بقي ساعة على أذان الصبح. استيقظت من النوم، وكان ضوء المطبخ منيراً، وكُنت متأكِّدة من أنّه عبد الحسين، فقد كان يصوم أكثر الأوقات عندما يأتي في إجازة، ولم أذكر ولو لمرّة واحدة أنّه أيقظني لأَُحضِّر له السحور، أو لأصنع له الشاي، لأنّه كان يقوم بأعماله بنفسه.

قمت من مكاني، وذهبت إلى المطبخ. كان يحمل في صينيّة إبريق الشاي مع كأسين فارغين، فسلّمت عليه، فردّ سلامي بابتسامة ووجه صبوح، فأشرت إلى الصينيّة وسألته: إلى أين تأخذها؟

ابتسم وقال بهمس: يوجد أحد عبيد الله في الخارج ولا أدري أمسافرٌ هو أم من الزوّار، أُريد أن آخذ له الشاي، نكسب فيه ثواباً، اليوم صباح الجمعة.

أخذ الصينيّة وخرج، بدون أيِّ حسٍّ. وكان قد مضى عليه مدّة على هذه العادة، وهي القيام بهذه الاعمال كلّما كان يأتي في إجازة، فهو إمّا أن يأخذ الشاي إلى خارج البيت أو يأخذ فواكه وطعام. وكلّما كُنت أسأله: إلى من تأخذ هذه الأشياء كان يُجيبني بنفس الجواب. ومن الملفت أنّ كلّ هؤلاء المسافرين وعابري السبيل كانوا يملكون سيّارة1.

وعندما أذّن الصبح، صلّى وانطلق إلى كاشمر.

كان الوقت قرابة الظهر عندما أتى ابن الجيران وقال: السيِّد برونسي يتّصل بكم من كاشمر، وهو يُريد أن يُكلِّمك، ويقول: إنّ له معك شغلاً.

في ذلك اليوم كانت أنابيب الماء العامّة عند مفترق الطريق قد انكسرت وكُنّا بدون ماء منذ الصباح. وهذا ما أغضبني جدّاً. فقُلت في نفسي: حتما إنّه يتّصل ليقول: لا أستطيع أن آتي.

كان ابن الجيران ما زال واقفاً ينتظر، فقُلت له بانزعاج: اذهب يا ولدي العزيز وقل للسيِّد برونسي عن لساني: فليبق ما يشاء في كاشمر، عند عائلته، وليذهب أيضاً من هناك إلى الجبهة، لا لزوم لأن يأتي إلى البيت بعد هذا!
قرابة الغروب، جاءت المياه وكنت في الباحة الخارجيّة أغسل الأطباق. وفجأة رأيته قد أتى. فلم أهتمّ، وتظاهرت كأنِّي لم أره، فقد كُنت منزعجة منه كثيراً، حتّى إنِّي لم أرفع رأسي، فتقدّم مِنِّي وجلس القرفصاء. ثمّ ضحك وقال: لماذا أنت منزعجة إلى هذا الحدِّ؟

لم أقل شيئاً، وكنت كأنِّي آكل نفسي، فقال بصوت أكثر حناناً من ذي قبل: لماذا لم تُجيبي على اتّصالي التلفوني؟ هل تعلمين أصلاً لماذا اتّصلت؟

أيضاً لم أقل شيئاً، فقال: أردت أن آخذكم لعدّة أيّام إلى كاشمر.

بمجرّد أن قال هذا الكلام، فهمت أنّ العيب مِنِّي لأنِّي غضبت بسرعة، ولكنِّي لم أدرِ لماذا كان يزداد انقباض قلبي في كلِّ لحظة ولا يقلّ. ثمّ أتى الأولاد وأحاطوا به، فكان يُقبّلهم واحداً تلوَ الآخر ويسألهم عن أحوالهم، ثمّ دخل معهم إلى البيت.

أنهيت عملي وأدخلت الأطباق، فأتى إلَيّ، وقال بحنان وهو مبتسم: أنا لم آكل شيئاً منذ الصباح، لا بأس أن تُعِدِّي لي شيئاً لآكله.

أراد أن يُذيب ثلج انزعاجي، ولكِنِّي كُنت في عالم آخر! فلم أقل ولا كلمة، وذهبت إلى المطبخ، وحضّرت له صحناً من البيض، وناديت ابنتي فاطمة2 ، كان عمرها في ذلك الوقت ستّ سنوات وقُلت لها: تعالي خذي الطعام لبابا.

عندها لم يعد يتحمّل، فأتى إلى المطبخ وقال: بابا لم يعد يُريد شيئاً.

ثمّ توجّه نحو المشجب حيث كان قد علّق ثيابه، وقال بانزعاج وقلب مقبوض: الآن فاطمة تُحضّر الطعام لبابا؟!

فحمل أولاده، عبّاس وأبو الفضل، ولحق به الأولاد الباقون وخرجوا من البيت. لم أكن أُريد أن تصل الأمور إلى هذا الحدِّ، ولكن كان قد سبق السيف العذل.

بعد عدّة دقائق عاد الجميع، وأتت أمي أيضاً، فتيقّنت أنّها قد علمت، وأنّه قد ذهب ليشكوَني عندها. ودخلوا جميعاً، فذهبت بسرعة إلى غرفة أخرى، وكأنّ الغصّة الّتي تخنقني لعِدّة سنوات انفجرت، فانفجرت بالبكاء3 ، لا يُمكن أن يخرب الوضع أكثر من هذا.

سمعته بعد ذلك يقول لأمِّي: من حقِّها يا خالة! مهما انزعجت لها الحقُّ! أنا لست منزعجاً أصلاً منها! ولكن ماذا أفعل؟ لا أستطيع أن أتخلّى عن الجبهة، أنا مسؤول يوم القيامة.

وكأنّه وضع إصبعه على النقطة الحسّاسة، وكأنِّي فهمت للتَوِّ أنّ انزعاجي من كثرة ذهابه إلى الجبهات، فقالت أمِّي: تعالَ لنذهبَ إلى الغرفة لتُحدِّثها.

أتيا، فتجمّعت على نفسي، فجلس قبالتي، وقال: أُريد أن أتحدّث معك، اسمعي جيّداً ماذا أُريد أن أقول.

لم أرفع رأسي، أمّا أذني فقد كانت معه، فقال: كلُّ مسلم يعلم أنّ الإسلام بخطر الآن. وإذا أردت أن لا أذهب إلى الجبهة أو أن أذهب قليلاً، فأنا مسؤول غداً يوم القيامة، إذن، فإنّ عدم ذهابي إلى الجبهة مستحيل، ولا يُمكن أن يتحقّق.
التفت إلى والدتي، وتابع قائلاً: انظري يا خالة، أنا حاضر لأن أعطي البيت وكلّ الأثاث وحتّى أن أترك معطفي لابنتك، ثمّ آخذ أولادي وأذهب إلى الجبهة. ولكن بشرط واحد، أن تُعطيني ابنتك كلاماً.

ثمّ سكت، فسألته أمِّي: ما هو الشرط يا عزيز خالتك؟

قال: أن تذهب يوم المحشر ويوم القيامة، إلى حضرة فاطمة الزهراء عليها السلام وتقول لها: إنّ زوجي يذهب إلى الجبهة ويسير في طريقكم، لهذا السبب أنا طُلِّقتُ منه، وزوجي أخذ الأولاد وذهب.

بقيت أمِّي مبهوتة ومصدومة، ولم أكن أقلّ منها صدمة، وللحظة رأيت نفسي في الوضع الّذي يتحدّث عنه، متجسِّمة أمام حضرة فاطمة عليها السلام ، في صحراء وانفساه في المحش!
كأنّ كلّ وجودي قد انقلب عالياً سافلاً. والآن، أنا لا أستطيع أن أرفع رأسي من الخجل.

منذ ذلك الحين لم أعد أقول ولا كلمة، وكلّما أراد أن يذهب إلى الجبهة وكلّما كان يعود، كُنت راضية بشكل كامل.

كان قلبي مرتاحاً بإرضاء قلب حضرة الصدِّيقة الكبرى عليها السلام.
 
________________________________________
1-  كان دائماً معه مرافقان لحمايته، ومن أجل الفرار من الغرور، كان يقول عنهما: إنَّهما مسافران أو عابرا سبيل، ولم أعرف هذه المسألة إلَّا بعد استشهاده.
2- إسم ابنتي الأولى فاطمة توفيت قبل عدَّة سنوات، وكان عمرها عدَّة أشهر.
3- قالت لي أمي في ما بعد إنَّه عندما انفجرت بالبكاء، ذهب اللون من وجه عبد الحسين وكأنَّ الغمَّ والغصَّة قد ملأت كلَّ وجودِه.


المصدر: كتاب: تراب كوشك الناعم: سعيد عاكف، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ترجمة مركز نون للتأليف والترجمة، الطبعة: الثانية،حزيران 2012م- 1433هـ

التعليقات (0)

اترك تعليق