مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

قبر بدون شاهد

قبر بدون شاهد

معصومة سبك خيز:
استيقظت من النوم فجأة،على صوت نحيب عالٍ! وللّحظة الأولى لم أدرِ ماذا أفعل، ثمّ انتبهت، وإذا بالصوت يأتي من موزِّع الغرف، من المكان الّذي ينام فيه عبد الحسين.

فأزحت الغطاء عنِّي، ونهضت وذهبت باتجاه الموزِّع، وقد ظننت أنّ عبد الحسين صاحياً يقرأ الدعاء، أو أيّ شيء آخر ولكِنِّي عندما رأيته نائماً، خفت في البداية، ثمّ دقّقت النظر، فرأيته يتحدّث إلى السيِّدة الزهراء عليها السلام.

لم يكن يتحدّث، بل كان يتأوّه ويُناجيها، فكان يذكر أسماء أصدقائه الشهداء، كأنّه أمٌّ ثكلى فقدت ولدها وهي تلطم صدرها وتبكي بحرقة، كان يقول: لقد ذهبوا جميعهم يا أمِّي العزيزة! متى يأتي دوري؟ آآخ ماذا أفعل؟!

كان صوته يرتفع شيئاً فشيئاً، فخفت أن يوقظ الجيران أيضاً، فقُلت مرتبكة: عبد الحسين!

لم يتغيّر شيء، فناديته بصوت عالٍ عدّة مرّات. وفجأة استيقظ من النوم، وقد ابتلّ وجهه بالدموع، فقُلت له: لكثرة ما ذهبت إلى الجبهة، فإنّك حتّى في نومك تُفكِّر في المنطقة؟

وكأنّه انتبه لتَوِّه، فقال منزعجاً: لماذا أيقظتني؟!

فقُلت بتعجُّب: لقد كُنت تتكلّم بصوت عالٍ حتّى وصل صوتك إلى كلِّ مكان!

فغطّى رأسه بالغطاء، وذهب إلى الغرفة، فذهبت خلفه، فجلس في زاوية متكوّماً على نفسه، كأنّه كان قد أضاع كنزاً كبيراً، ثمّ أخذ ينوح أكثر من الأوّل: لقد كُنت مع مولاتي أشكوها وجع قلبي، آآخ لماذا أيقظتني؟!

وكأنِّي انتبهت وعرفت ما الموضوع، فملأ وجودي الغمّ والغصّة، فوضعت نفسي مكانه، وأعطيته كلّ الحقِّ.

في تلك الليلة، أحببت أن أستطلع ما يحدث في نفسه، فلم يقل شيئاً، وبقي على صمته، لم يقل شيئاً حتّى انتهت إجازته وذهب إلى الجبهة.

كُنت في ذلك الوقت حاملاً، وعندما عاد في إجازة، كان قد بقي لي أربعة أيّام على وقت الوضع، فكان يعدّ اللحظات ليولد الطفل بأسرع ما يُمكن.

وفي النهاية، وفي آخر يوم من أيّام إجازته ذهبنا إلى المستشفى، فأجلسني على كرسيّ، وذهب هو لتدبير أمور الولادة.و كان برفقتنا سيِّدة ذهبت أيضاً مع عبد الحسين. وبعد وقت طويل، وبعد استشهاده، أخبرتني تلك السيِّدة قائلة:
"قال أحد موظّفي المستشفى للسيِّد برونسي: يجب أن تملأ ملَفّاً.

فقال له السيِّد برونسي: إذا كان وقت وضعها قد حلّ فأنا مستعجل.

فقال الآخر: ما هذا الكلام يا سيِّد؟! هل يجب أن يُملأ المَلف، أم لا؟

فأخرج السيِّد برونسي تذكرة سفر من جيبه، فأراه إيّاها وقال: انظر يا أخي، يجب أن أذهب إلى منطقة الجبهة، حبّذا لو تُسهِّل لي الأمر بسرعة، فالله يُعطيك الخير.

ففكّر ذلك الموظّف أنّ زوجك يذكر الجبهة من أجل أن يُسرِّع له عمله، وفجأة دفع السيِّد برونسي في صدره إلى الخلف وقال بخشونة: الجميع يقولون: إنّهم سوف يذهبون إلى الجبهة! المنطقة! أن تكون في المنطقة يعني ماذا سوف يحصل؟! حسناً انتظر لنر زوجتك ماذا سوف تفعل.... 

كان ولدي في الجبهة، وكُنت أعلم ما هو عمل السيِّد برونسي، فقُلت في نفسي: الآن سوف يقضي على هذا الرجل.

كُنت أنتظر ردّ فعل عنيف، ولكِنِّي رأيت السيِّد برونسي طأطأ برأسه إلى صدره، ولم يقل شيئاً وخرج، فتقدّمت من الموظّف بسرعة وقُلت له بصوت خفيض: هل تعلم ما هو عمل هذا الرجل الّذي دفعته؟ فنظر ذلك الرجل إلى وجهي، وقد ظهر عليه أنّه قد تفاجأ، فقُلت له: يا مسكين! إذا أراد هو، فإنّه سوف يقضي عليك. أُشكر ربّك أنّه ليس إنساناً حقوداً ومعقّداً.

وأخيراً... فعل كلام تلك المرأة فعله، فأخذوني سريعاً إلى غرفة الولادة.

وعندما ولد الطفل، أخذوني إلى غرفة أخرى، حتّى تتحسّن حالي، ولكن مدّة غيبوبتي طالت، وعندما عدت إلى وعيي، رأيت أمِّي واقفةً إلى جانب سريري، فسألتها: بنت أم صبيّ؟

فابتسمت ابتسامة جميلة، كسرت تعبَ وجهها وهمّها، وقالت: بنت، يا ابنتي العزيزة.

قُلت: هل حالتها جيِّدة؟

قالت: جيِّدةً جيِّدة.

فتذكّرته وتذكّرت تذكرة السفر، وسألتها: هل ذهب عبد الحسين؟

قالت: لا، أرسل التذكرة ليردُّوها.

قُلت: لماذا؟!

قالت: من أجلك، حتّى لا تقلقي، قال سوف أبقى.

لم يكن عندي هديّة أحلى ولا أجمل من هذه، كُنت سعيدة من صميم قلبي. فسألت: إذن أين هو الآن؟

قالت أمّي: أراد أن يأخذك أنت والطفلة في هذه الليلة إلى البيت، ولكنّ الدكتور لم يوافق، فذهب ليمضي على إخراجكما على مسؤوليّته.
وأتى بعد قليل، ووقف إلى جانب السرير، وابتسم وسألني عن أحوالي، والتفت إلى أمِّي وقال: حسناً يا خالة، هيِّئي السيِّدة زينب لنذهب مع السيِّدة معصومة إلى البيت.
ففهمت أنّه كان قد اختار اسم الطفلة، وبعد عدّة دقائق، غادرنا المستشفى.

عندما وصلنا إلى البيت، ذهب بسرعة إلى مكان اللحف والفرش، وأحضر فرشة ووضعها إلى جانب المدفأة، وأراد أن يفرشها، فقالت أمِّي: ليس هنا، خذها إلى غرفة أخرى.
سأل: لماذا؟
قالت أمِّي: هنا يأتي ضيوف.

ففرش الفرشة وقال: ليس مُهِمّاً، الضيوف نأخذهم إلى تلك الغرفة، من الأفضل لزينب وأمِّها أن يكونوا إلى جانب المدفأة؟

ذهبت وتمدّدت على الفراش، وأعطاني زينب أيضاً فضممتها إلى حضني. وقال: إلى جانب المدفأة، ابنتي لن تُصاب بالبرد.

صدح صوت أذان الصبح من المسجد، فقال لأمِّي: اذهبي يا خالة وصلِّي، أنا أبقى إلى جانبهم حتّى تأتي....

كانت علاقته بزينب منذ البداية، علاقة من نوع آخر، وفي الليلة التالية، كُنت قد وضعت لِفَافة للطفلة، كان يضعها على قدميه، فوضع فمه على أذن زينب، وبدأ يتمتم، لم أدر ماذا كان يقول في أذن الطفلة، وعندما انتبهت رأيت أنّ كتفيه تهتزّ، فوقع نظري للحظة على وجهه، كان مبتلّاً، ولمّا دقّقت النظر، رأيت أنّ دموعه تنهمر مثل المطر النازل من السحاب الربيعي فأردت أن أٌقول له شيئاً، ولكِنِّي قُلت في نفسي: لأدعه بحاله.

وعندما أصبح عمر زينب ثلاثة أيّام، ذهب إلى الجبهة. وقال قبل ذهابه: عندما تأخذين زينب إلى الحمّام، لا تدعي أحداً يؤذِّن لها في أذنيها.

قُلت: لماذا؟

قال: عندما أعود، سوف أفعل هذا.

أخذنا زينب مرّة واحدة إلى الحمّام، وعندما مضى من عمرها سبعة عشر يوماً، أتى عبد الحسين. وقبل أن يجلس على الأرض سأل: هل أخذتم الطفلة إلى الحمّام؟

قُلت: نعم.
قال: لم تعطها إلى أحد ليؤذِّن ويُقيم في أُذنها؟

قُلت: لا.

وعندما جلس وتنفّس الصّعداء، قال لأمّي: خذوا الطفلة من جديد إلى الحمّام.

وعندما أخذوها وأعادوها، كان قد حلّ المغرب. وبعد صلاة المغرب، أخذ زينب بحضنه وجلس إلى جانب المدفأة.

لم أدرِ ماذا كان يقول في أُذن زينب. فقط كُنت أعلم أنّه يذرف الدموع بهدوء، منذ قرابة الساعتين وعندما أعاد الطفلة إلى حضني، كان قميصه ولفافة الطفلة مبتلّان بالدموع!

بقي معنا يومين، وفي ليلة ذهابه، أتى وقال: استعدّوا بسرعة نُريد أن نخرج.

سألته: إلى أين؟
قال: لا نُريد أن نذهب إلى مكان أو مكانين، نُريد أن نذهب إلى عدّة أمكنة.
ففكّرت بزينب وبرودة الهواء. قُلت: أنا آتي أيضاً؟
قال: نعم، يجب أن نأخذ السيِّدة زينب ايضاً.

كان قد أحضر سيّارة، فجلس هو خلف المِقْوَد، وعندما ركبنا، انطلق.

كان لنا عدّة أقارب في مشهد، فذهب إلى بيوتهم كلِّهم، وكان في وقت ما قد حصلت مشادّة كلاميّة مع أحدهم بسبب الثورة، وكانت مشادّة شديدة. وقد تعجّبت كثيراً في تلك الليلة، من أنّنا ذهبنا حتّى إلى بيته أيضاً! وأيُّ مكان كُنّا نذهب إليه، كان يبقى فيه واقفاً على قدميه لعدّة دقائق وهو يحمل زينب في حضنه، وكان يسألهم عن أحوالهم ويقول: إن شاء الله أنا عازم على الذهاب إلى الجبهة غداً، أتيت لأطلب منكم المسامحة.

لقد تعجّبُوا هم أيضاً مثلي، فقد كان دائماً يذهب إلى الجبهة، ولم يسبق أن ذهب إلى بيوت العائلة ليودِّعهم، بل كانوا في العادة هم الّذين يأتون إلى بيتنا، وهذا ما أقلقني جدّاً.

كان المكان الأخير الّذي ذهبنا إليه هو حرم الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام ، وهناك لم يَعُد مستعجلاًً، لقد زار في تلك الليلة زيارة مختلفة، وبحالة عظيمة من الطمأنينة والهدوء.
وأنا أيضاً في تلك الليلة كانت حالتي منقلبة، وزرت الإمام ودعوت وأنا حزينة أكثر من أيِّ وقت مضى.

وبعد الزيارة، أخذ عبد الحسين الأولاد واحداً واحداً فزاروا الضريح، وأخذ زينب أيضاً، وعندما أنهى زيارتها، أحضرها إليّ وقال: أنذهب؟

قُلت: لنذهب.

عندما جلسنا في السيّارة، بدأ بالكلام بحيث لا يسمعه أحدٌ إلا أنا، فقال: غداً إن شاء الله أنا ذاهب إلى المنطقة، لا أعلم متى أعود.

بدا كأنّ الغصّة والغمّ يزدادان عندي، فقال: إن مقدَم زينب مبارك إن شاء الله، هذه المرّة سوف أستشهد.

ولم يبق إلا أن أنفجر أنا بالبكاء، ففهم أنِّي انزعجت، فضحك وقال: كُنت أمزح، يا عزيزتي، لماذا انزعجت؟ لست مؤهّلاً بعد للشهادة، أين الاستشهاد، وأين نحن؟

في المنزل، وعندما نام الأولاد، أتى إليّ وقال: هذه الليلة وصّيت الإمام الرضا عليه السلام بكم، وطلبت من الإمام أن يتلطّف ويطلّ عليكم. وأنتم إذا عرضت لكم مشكلة أو عرض لكم شيء، فقط اذهبوا إلى حضرة الإمام واطلبوا منه العون، يجب أن تسعَوْا لمعرفة هذه النعمة الّتي أنعمها الله على مدينتنا ووطننا، لا تغفلوا في أيِّ وقت عن زيارته وهذا بحدِّ ذاته أدبٌ، ويجب مراعاة هكذا آداب.

تهيّأ للذهاب بعد صلاة الصبح، فأردت أن أوقظ الأولاد، ولكنّه لم يقبل، مع أنّه كان في كلِّ مرّة يُريد أن يذهب، حتّى وإن كان الوقت في الصباح الباكر، يوقظ الأولاد ويُسلِّم عليهم جميعاً، ولكنّه في هذه المرّة، ولم أعلم لماذا، لم يرض بأن أوقظهم وقال: هذا الطريق الّذي أنا ذاهبٌ إليه، لا عودة منه بعد!

فجأة وقع نظري على حسن، وكان قد استيقظ من تلقاء نفسه، وكأنّه كان قد سمع هذا الكلام من والده فانفجر بالبكاء. فبكينا نحن أيضاً لبكائه.

كان دائماً عندما أكون منزعجة عند ذهابه، أو عندما أبكي، يضحك ويقول: يا عزيزتي، الباذنجان الطازج ليس به آفة، دعك من هذا، ليس من الجيِّد أن تبكوا أمام مسافر.

ولكنّه في هذه المرّة لم يُمانع، فكان يقول: هذا وقته، ابكوا!

شيئاً فشيئاً استيقظ الأولاد من النوم، فقبّلهم واحداً واحداً وودّعهم، وهذه المرّة لم يمُرّ من تحت القرآن أيضاً، بل قبّله فقط وذهب.

كانت زينب في يومها العشرين في اليوم الّذي ذهب فيه.

في آخر مرّة، اتّصل إلى بيت الجيران، كان قبل عيد إسفند، شهر إسفند سنة 1363 بعدّة أيّام، فسألته متى سوف تأتي؟

فضحك وقال: ما زلت تقولين متى تأتي؟ الإمام الجواد عليه السلام استشهد عندما كان عمره 25 سنة، وأنا الآن عشت أكثر منه بكثير! وما زلت تسألين متى تأتي؟ قولي متى تستشهد؟ متى يأتي خبر شهادتك؟

فبكيت، فقال: إنِّي أمزح، يا عزيزتي، كما قُلت لك: لست مؤهّلاً بعد للشهادة.

وكنت قد أخذت ابنتي المولودة حديثاً زينب معي لأردّ على التلفون. فقال: افعلي أيّ شيء لأسمع صوتها.

ففعلت أيّ شيء لأجعلها تبكي، وعندما سمع صوتها، قال: حسناً، الحمد لله لقد ارتاح بالي لأن زينبتي سالمة.

في ذلك اليوم كان يقرأ مقاطع من زيارة السيِّدة فاطمة الزهراء عليها السلام ويتحدّث معها، ولكن التلفون تشوّش صوته ولم أفهم جيِّداً ما هو الموضوع1.

عندما انتهى كلامنا، وضعت سمّاعة التلفون، وكان معي حسن أيضاً، فخرجنا، وعندي إحساس غريب، فكلُّ شيء كان حاكياً عن ذهابه، ولكِنِّي لم أكن أُريد أن أُصدِّق.
عندما سمعت خبر عمليّة بدر، كُنت أنتظر في كلِّ لحظة اتّصاله التلفوني، ولكنّ انتظاري ذهب هباءً. وفي النهاية أيضاً أتى ذلك الخبر....

كان قد نال أمنيته، أمنيته الّتي تحمّل من أجلها متاعب جمّة.

أصبحت جُثّته مفقودة الأثر، مثلما كان دائماً يطلب من الله. حتّى إنّه كان قد أوصى أن لا نضع شاهداً على قبره وأن لا نكتب اسمه، وأراد أن يكون مثل والدته، حضرة فاطمة الزهراء عليها السلام ، أن يكون قبره بدون اسم ولا عنوان.

عندما أجرينا له تشييعاً في مدينة مشهد، كان يوماً ربيعيّاً، في التاسع من أرديبهشت سنة 1364 هـ. ش.
كأنّ كلّ وجودي قد انقلب عالياً سافلاً. والآن، أنا لا أستطيع أن أرفع رأسي من الخجل.

منذ ذلك الحين لم أعد أقول ولا كلمة، وكلّما أراد أن يذهب إلى الجبهة وكلّما كان يعود، كُنت راضية بشكل كامل.

كان قلبي مرتاحاً بإرضاء قلب حضرة الصدِّيقة الكبرى عليها السلام.
 
________________________________________
1-  كان هذا الموضوع مشهوراً بين رفاقه، وهو أنّ الصدِّيقة الكبرى عليها السلام كانت قد أخبرته بزمان ومكان استشهاده. وكانت هذه القضية واضحة كالشمس، فقد قال الشهيد برونسي لرفاقه إنَّني إذا لم أستشهد في التاريخ الفلاني وفي المكان الفلاني، فشكُّوا بكوني مسلماً.



المصدر: الكتاب: تراب كوشك الناعم: سعيد عاكف، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ترجمة مركز نون للتأليف والترجمة، الطبعة: الثانية،حزيران 2012م- 1433هـ

التعليقات (0)

اترك تعليق