مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

قبسات من سيرة حياة الشهيدة أم ياسر الموسوي

قبسات من سيرة حياة الشهيدة أم ياسر الموسوي: إنّ النوعيات المؤمنة من نسائنا غالية جداً وآثارهنّ عظيمة وخالدة

 إنّ النوعيات المؤمنة من نسائنا غالية جداً وآثارهنّ عظيمة، وخالدة رغم الأعداد القليلة منها... وبالتالي فإنّ المؤمنات المجاهدات أضأن الطريق، وأمسين شموساّ مضيئة في طريق الجهاد الإسلامي النسوي بالعلم والعمل والتضحية. وهذه المهمة الرسالية من الجهاد تتطلّب عناءً ومثابرة وصبراً متواصلاً رغم المحن، ورغم عثرات الطريق وأشواكه، لكن المؤمنة الخالصة لله تعالى لا توقفها هزيمة أو تثنيها خسارة مادية، وليس لليأس والقنوط منفذ إلى قلبها... لأنها تعيش العزم والإرادة في طريق الحق والهداية بفضل إيمانها الراسخ الذي لا يتزعزع، وشهيدتنا الغالية العلوية الطاهرة أم ياسر هي من هذا الصنف الرائد من النساء.
لقد كانت مسيرة حياتها جهاداً ومعاناة وتضحية؛ فلقد سافرت إلى جوار أمير المؤمنين عليه السلام لترسم الخطوط الجهادية لحياتها مع السيد الشهيد الذي كان أستاذها ومرشدها وهناك في جوار سيد الوصيين، وضعت منهجاً دراسياً يساعدها على تجاوز الحجب الدنيوية.
واضطرت إلى أن تترك النجف الأشرف، لأنها كانت تلميذة الشهيدة السيدة بنت الهدى... وهذه التهمة جعلت الطاغية صدام يستدعيها ويطلبها للتحقيق ولكنها كانت قد غادرت العراق سرّاً، وشدّت الرحال مع السيد الشهيد إلى بعلبك.
وفي بعلبك شمّرت عن ساعد الجدّ إلى جانب سيد شهداء المقاومة ليحدثا ثورة تغييرية في الحوزات الدينية في عالم المرأة المسلمة، بعد أن ذبل عودها وجفّ قوامها واصفرّت أوراقها.
نهضت هذه السيدة الجليلة إلى جانب سيد شهداء المقاومة، لتنشئ جيل الاسلام من الفتيات المؤمنات والنساء الرساليات، فكانت المعلمة المعطاءة في حوزة الزهراء عليها السلام، والمحاضرة والمربية القديرة والأم الحنون الرؤوف.
تلك هي أم ياسر حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله التي سلكت مسلك سيدة نساء العالمين عليها السلام، وفضّلته، بل وقدمته على كلّ شيء في حياتها.
فليس لها محطة واحدة، ولا مدينة ولا بيت ولا حسينية، ولا عمل واحد، فقد كانت سفيرة الإسلام المتنقلة إلى جانب سيد شهداء المقاومة.
فمحاور تلال صافي تشهد حضور الشهيدة الغالية، ولا أنسى كلمات السيد الشهيد لها وهما يتسلقان التلال المباركة "إذا كان حظك كبيراً يا أم ياسر يكون نصيبك قذائف اسرائيلية".
وتردّ الشهيدة السعيدة بابتسامة رضى بقضاء الله وقدره.
كانت الشهيدة السعيدة رفيقة درب وجهاد السيد الشهيد وفي أي موقع جهادي، كنت يتجدها إلى جانبه، حتّى إذا شدّ الرحال إلى جنوبي العراق (أثناء حرب الخليج) يث سيد الشهداء عليه السلام هناك في كربلاء الطف، رأيت روحها تطير بشراً وفرحاً لملاقات جدّها الحسين عليه السلام قبل جسدها الطاهر.
وبالفعل يتحقّق حلمها الذي طالما حلمت به؛ فها هي تقف على عتبة المقام الشريف تسأل الامام الحسين عليه السلام الإذن بالدخول، ويأذن لها سيد الشهداء عليه السلام وهناك تتوسل إليه أن يسأل الله سبحانه وتعالى أن يتناثر جسدها مع السيد الشهيد لتواسي جدتها السيدة فاطمة عليها السلام.
وعند مقام العباس عليه السلام تبكي كثيراً وتتضرًع إلى المولى أن تتقطّع أوصالها كما قطّعت أوصال أبي الفضل العباس عليه السلام، وما أسرع الإجابة، حيث الأجساد الطاهرة تحترق وتتقطّع بصواريخ الصهاينة، في رضى الله وفي شهر رسول الله، وتتأهب الأرض الأم لاحتضان أبنائها حيث الحجة (عجل الله فرجه الشريف) يواريهم الثرى.
وإلى جانب مسيرتها الجهادية، كانت تحمل هموم الرسالة وهموم المرأة المسلمة.
فكانت كلّما سقط شهيد تسرع إلى بيته لتمسح على رؤوس الأيتام، وتواسي الزوجة الثكلى، ثمّ تتجه إلى منزل ذوي الشهيد لتهدّئ من روع الأم المفجوعة.
لقد عرضت لها في حياتها بلاءات متنوعة، وكانت كالجبل الصامد لا تتأوّه ولا تشكو كجدتها زينب عليها السلام، فالتضحية والكرم كانا من أخصّ صفاتها، وسعة الصدر ووفاؤها وثباتها في الشّدائد وشجاعتها وإقدامها هي من سماتها الأساسية.
فقد كانت تُلبس الجديد من يسألها حاجة وتأبى أن تعطيه القديم، وتذكر في هذا السياق؛ امرأة فقيرة سألتها أن تعطي أطفالها كسوة، فما كان من الشهيدة إلاّ أن أعطتها كسوة جديدة لأحد أبنائها لم يلبسها بعد. وعندما رجع ولدها وعلم بالحادثة، حزن على كسوته التي ذهبت، فما كان من الأم الشهيدة إلاّ أن قالت له يا بني ستكون الزهراء عليها السلام غاضبة منك كثيراً إذا عدت لهذا الموقف، وقرأت عليه «ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيرا» (الإنسان 8).
وفي السياق نفسه، نتذكّر موقفاً آخر لها حين دخلت عليها امرأة فقيرة تسألها أموالاً ولم يكن لدى الشهيدة أيّ مبلغ من المال فسألتها أن تأخذ أي شيء من البيت تحتاج إليه، فقالت المرأة لها إنّ بيتي لا يوجد فيه أيّ شيء يغطي الأرض في ذاك الطقس البارد فكان أن حمّلتها ما أرادت من السجاد المفروش أرضاً.
وعندما همّت بالخروج وهي تحمل السجاد، استوقفتها أم ياسر وطلبت منها أن تدعو الله سبحانه وتعالى أن ينوّر قبرها فأجابت المرأة أنها ستدعو بالدعاء لطفلها المريض بالشفاء، فأعادت أم ياسر عليها القول ثانية أنها لم تطلب شفاء ولدها، بل أن ينوّر الله قبرها. هذا قبس من تعاطيها مع الفقراء ورؤيتها للعطاء الذي يكون من أفضله وأحبه إلى النفس، أما في مجال تواصلها مع أهل البيت عليه السلام، لا سيّما الإمام الحجة (عج)، فتذكر أنها استفاقت في أحد الأيام ولم يكن يوجد في المنزل طعام للفطور، وكان اليوم يوم جمعة، ومن عادتها أن تزور فيه الإمام الحجة (عج)، الذي كان ذكره الدائم على لسانه، استفاق أحد أبنائها وتوجّه إلى المطبخ ولم يجد أيّ شيء يأكله، فالتفت إلى أمه يسألها ماذا يأكل؟ فأجابته أنها ستدبر الأمر، فقال لها كيف تدبرين الأمر ولا يوجد أي شيء يؤكل في البيت؟!
فالتفتت إليه قائلةً: يا بني، نحن اليوم بضيافة الحجة (عج) فلا يتركنا.
وبالفعل بعد ساعة، يطرق الباب وإذا برجل من (علي النهري)، يدفع بثلاثة صناديق تحمل أنواعاً مختلفة من الخضار والفواكه.
لقد كان للسيدة الشهيدة علاقة خاصة ومميزة مع أهل البيت عليهم السلام، وخاصة الزهراء عليها السلام التي كان ذكر مصائبها يوجع قلب أم ياسر ويدميه.
ولا تسل عن العشق الكبير لإمام زمانها، وعن تهيّئها لاستقباله وعن حزنها العميق لعدم رؤيتها له.
أمام عظم الشهادة والشهداء ماذا تقول؟ وهل نحن أهل للقول أو للتحدث عن عالمة جليلة ومربية قديرة وأم عظيمة، أو عمّن نتكلّم وقد أغنت بسلوكها وجهادها ومثابرها وتقاها الأمة وأصبحت غنية عن التعريف لصفاتها وسجاياها؟
ولكن نقول والحق يقال حيث تمثّل في شهيدتنا خلق الرسالة وسجايا جدتها فاطمة (ع) وتلبّست تعاليم القرآن ، وتجسّد فيها الإيمان الخلص للمولى تعالى فأحبّت إسلامها وآمنت به وتربّت عليه، ونهلت من معينه فعكست ذلك قولاً، وفعلاً.
وبقي دم  الشهيدة الطاهرة يدعو النساء المؤمنات إلى مزيد من الفعل، والحركة والجهاد، وإلى السعي من أجل إقامة حكم الله في الأرض كل الأرض... وإلى أن تعيش المرأة المسلمة الهموم الكبيرة التي تتجاوز هموم الحياة الخاصة، كما كانت الشهيدة فقد كانت تعيش همّ الإسلام وهمّ عوائل الشهداء والمجاهدين المقاومين وهمّ الرسالة، وكما يقول أمير المؤمنين (ع) بقدر الهمم تكون الهموم، وفي هذه الأيام نقف على عتبتها الطاهرة بخشوع وخضوع لنرتشف من نميرها العذب دروس الجهاد والتضحية والفداء.
هذا غيض من حياة هذه الشهيدة العظيمة التي رافقت سيد شهداء المقاومة كل مراحل حياته، وكما كانت رفيقة عمره أبت إلاّ أن تذهب معه إلى ربّها لتمتزج دماؤها بدمائه وروحها بروحه.
وهكذا ارتفعت الأرواح الطاهرة للشهيدة والسيد الشهيد والطفل لتنتهي هذه السلسلة من حياتها العبقة بريح الجهاد وبأريج الشهادة حيث الفوز العظيم.
فهنيئاً لك أم ياسر، هنيئاً لكم أيّها الشهداء فزتم والله فوزاً عظيماً.


المصدر: أمير الذاكرة (سيرة ذات.. سيرة أمة) – جمال الحسيني

التعليقات (0)

اترك تعليق