البعد الأخلاقي في أحكام المرأة في الشريعة الاسلامية ودوره في حل المشاكل الأسرية
البعد الأخلاقي وقضايا المرأة
تعدّ قضية المرأة والمجتمع إحدى أهم القضايا التي طرحت وبقوّة في العقود الأخيرة بصفتها من عناوين النّهوض بالبشريّة، ذلك أنّ استنهاض نصفها الذي هُمِّش طويلا كفيل بتحققه. وطرحت أيضا كسبيل من سُبُل تطبيق العدالة الإنسانيّة التي أعلنت حقا طبيعيا من حقوق الإنسان التي يجب منحها لكافّة فئات المجتمع وأركانه، والمرأة أحد أهم تلك الأركان بلا شكّ.
ومن العجيب أنّه وبعد ١٤ قرنا من بزوغ شمس الإسلام وما أعطاه للمرأة من شأن وحقوق، أن توجّه الأصابع إليه كنظام ظلم وقهر للمرأة!!
سأتجاوز الكلام عن الثّورة والانقلاب الجذريّ اللّذين أحدثهما الإسلام فيما يتعلّق بالإنسان عموما، وبالنّظرة إلى المرأة خصوصا، ومكانتها ودورها وأوضاعها، وحقوقها ككائن فرديّ واجتماعيّ كإنسان وأمّ وابنة وزوجة، وفرد مكوّن من أفراد المجتمع، فكل ذلك أظنه من البديهيّات التي لا يرقى إليه شكّ. وسأتطرّق إلى واقع المرأة المسلمة المعاصر..لا شكّ قد تعدّدت القراءات والتّفسيرات للإسلام، وبالتالي للتّشريعات الخاصة بالمرأة، فهي متعدّدة بتعدّد قراءاته وتفسيراته ابتداء من تلك الأكثر تطرّفا وتشدّدًا كحركة طالبان (مثلا) مرورًا بالرّؤى التّقليديّة والمحافظة، ومن ثمّ التّنويريّة والاتجاهات التّجديديّة، وصولا إلى اللّيبرالية المتطرّفة التي تمحو الفواصل بين الإسلام وغيره.
لنأخذ السّاحة البحرانية (على سبيل المثال).. فعلى المستوى النّظريّ، وباتفاق جميع المتجاذبين حول قضايا المرأة، وفي الكتابات التي قرأناها، فإنّ المرأة إنسان، وتحت هذا العنوان، فهي كائن محترم حرّ، مختار، عاقل، مستقلّ، مكرّم، له حقوق وعليه واجبات، مكلّف بحمل المسؤولية والأمانة، ومسؤولية الإعمار، وأمانة الاستخلاف.
أمّا على المستوى العمليّ، أي عندما ننزل إلى أرض الواقع والحياة العمليّة والقوانين والتّشريعات وأروقة المحاكم وخاصّة فيما يخصّ التّشريعات المرتبطة بها كأمّ، وزوجة -وهو موضوع بحثنا- تتحوّل المرأة في بعض الحالات إلى كائن ناقص، تابع، مهّمش، مسلوب الإرادة، مكبّل، معنّف، مستبعد، ليس لديه سلطة، وحقوقه ضائعة.
باختصار تتراجع؛ لتستحيل إلى مخلوق أدنى!
فمن المسؤول عن هذا الواقع؟
ومن المسؤول عن تلك المفارقة القائمة بين صورة المرأة كما يقدّمها النّص، أو الموجودة في الأدبيّات النّظريّة، وتلك الصور الواقعيّة والعملية لها في أروقة المحاكم؟
يُعزي الكثيرون الأمر بالأساس إلى غياب قانون للأحوال الأسريّة؛ ليرجع إليه القاضي للحكم في القضايا حيث يعتقد البعض بأنّ علاج ٧٠٪ من الحالات الموجودة في المحاكم سيتمّ بمجرد تطبيق القانون.
فهل قانون الأحكام الأسريّة هو طوق النّجاة، والأداة السحريّة التي سترفع المعاناة عن كاهل المرأة، وستحوّل حياتها إلى جنّة الأحلام؟
هل هناك بالفعل فراغ تشريعيٌّ للأحكام الأسريّة؟
ما هو موقع البعد الأخلاقيّ للعلاقات داخل الأسرة؛ لحلّ المشاكل الاسريّة؟
هل يستطيع القانون وحده حلّ المشاكل الأسريّة، والأمور العالقة؟
هل بإمكان القانون وحده تنظيم حياة البشر؟
هل المطلوب تطبيق المسائل الشرعيّة بحدودها الفقهيّة فقط، أم أنّ هناك أخلاقيّات كلّما التزم بها الإنسان ارتقى في سلّم التّقوى، واستطاع أن يتجاوز المشاكل التي تعترضه؟
والكثير من التّساؤلات التي تحمل في طيات إجاباتها ضرورة التّمسّك بالبعد الأخلاقيّ وهو غالبا ما تغفل عنه، أو تهمشه بقصد أو بغير قصد التّوجّهات الدّاعمة لتطبيق قانون الأحوال الأسريّة، بل حتى الدول التي سبقتنا في تطبيق القانون.
للإجابة على هذه الأسئلة سيتضمنّ البحث في هذه الورقة المحاور التّالية:
١- تعريف مفهومي (القانون، والأخلاق)؛ لمعرفة مدى فاعليّة كل منهما، والفرق بينهما.
٢- عرض بعض جوانب البعد الأخلاقيّ في العلاقات الأسريّة كما توضّحه الآيات القرآنيّة، والنّصوص الشّريفة.
٣- التّوصيات الوقائيّة، والعمليّة؛ لتفعيل العامل الأخلاقيّ في علاج مشاكل الأسرة.
٤- مشكلة العنف الأسريّ في المجتمع البحراني.
أولا: تعريف مفهومي (القانون والأخلاق)
القانون في مجمله هو مجموعة من القواعد التي تحكم وتنظّم سلوك الأفراد في الجماعة، وتوفّق بين مصالحهم والتي يفرض على مخالفها جزاء توقّعه السلطة العامّة.
أما الأخلاق، فهي شكل من أشكال الوعي الإنسانيّ يقوم على ضبط وتنظيم سلوك الإنسان في كافّة مجالات الحياة الاجتماعيّة دون استثناء؛ سواء مع الأسرة في المنزل، أم مع سائر الناس في العمل، وفي السياسة، وفي العلم، وفي الأمكنة العامة.
لقد وضع الدّين أساسا لتنظيم حياة الإنسان في علاقته مع ربّه، ومع الكون، ومع نفسه، ومع النّاس، ومن جملة هذه العلاقات تتكون الأخلاق والقيم حسب القاعدة العامة التي يستوحيها الإنسان من خلال تاريخ الإرث الإنسانيّ، والاجتماعي بشكل عام، ومن القاعدة العامّة التي يستوحيها الفاعل الأخلاقيّ.
فيما جرى الفقه القانونيّ على التّمييز بين قواعد القانون وقواعد الأخلاق على أساس اختلاف الغرض والنّطاق والجزاء في كلّ منهما:
١- من حيث الغرض: فإنّ القانون يقصد تحقيق هدف نفعيّ هو ضبط السلوك، وحفظ النّظام العام، أمّا الأخلاق فهدفها سام ينزع بالأفراد نحو الكمال، وهي تأمر بالخير وتنهي عن الشّر، وتحضّ على التّحلّي بالفضائل.
٢- من حيث النّطاق: فإن دائرة الأخلاق أوسع نطاقا من دائرة القانون، فالأولى يدخل فيها واجب الإنسان نحو نفسه عدا عن واجبه نحو الغير، وزيادة على ذلك فإنّ الأخلاق تعنى بالمقاصد والنّوايا إلى حدّ كبير، ولا تكتفي في الحكم على أعمال الأفراد بظاهر سلوكهم.
أما دائرة القانون، فهي لا تشمل إلّا علاقات الإنسان مع غيره من الأفراد في المجتمع دون أن تهتمّ كثيرا بواجبه نحو نفسه. ثم إنّ القانون لا ينظر إلّا إلى أعمال الفرد الظّاهرة، وليس له شأن -في الغالب- بما استقرّ في نيتّه، أو ضميره.
٣- من حيث الجزاء: إذا كان جزاء مخالفة قواعد القانون هو إيقاع العقاب الماديّ والمحسوس على المخالف، فإنّ جزاء مخالفة قواعد الأخلاق هو احتقار النّاس له، واستنكارهم لعمله، وكذلك الجزاء الإلهيّ.
من هنا نجد أن دائرة الاخلاق أوسع وأكثر شمولا، وعملية ضبطها، وتنفيذها ذاتيّة، وهي تعمل على السمو بالإنسان في سلّم الكمال، أما القوانين فهي تعالج سلوكيّات محدّدة يتمّ ضبط تطبيقها من خلال الرّقابة الخارجيّة. والملاحظ بأنّ سعي الفرد لمعرفة الحقوق والقوانين وصولا إلى تطبيق دولة القانون، عزّز في نفسه ثقافة المطالبة بالحقوق، وتطبيق أقل ما يمكن من الواجبات التي لا تتعارض مع نصوص القانون، والتي يستلزم تركها إجراءات عقابيّة، وتبعا لذلك تعزّزت ثقافة الأنا، والمصلحة الشّخصيّة، وقد كان للإعلام دور كبير في تعزيز هذه الثّقافة كبرنامج (أوبرا) -مثلا-، والذي دائما ما يعزّز لدى الفرد المصلحة الشّخصيّة أولا قبل الاعتبارات الأخرى، بينما نجد الاخلاقيّات الإسلاميّة كانت ولا زالت وستبقى دوما تعزّز ثقافة مصلحة المجتمع، والأسرة على الاعتبارات، والمصلحة الشّخصيّة.
لا نهدف هنا إلى نفي أهمية القانون، وإنّما إلى الإشارة إلى دور الأخلاق في منع تفاقم المشاكل الأسريّة، وتحوّلها لأروقة المحاكم، بل ودورها في علاج ما يعجز القانون عن حلّه أحيانا. ولعلّ هذا هو ما دعا إلى ظهور مراكز الإرشاد الأسريّ التي تعمل على مساعدة الأزواج على إعادة فهم مشاكلهم بصورة صحيحة، وتلمّس الحلول السّلوكيّة والعاطفيّة والأخلاقية لها، بل إنّ الدراسات المتعلّقة بقضايا المحاكم الشّرعيّة تفيد بأن معظم المشاكل كان بالإمكان تجاوزها، وحلّها، وعدم تفاقمها لو فُعِّل العامل الأخلاقيّ والإرشاديّ والسّلوكيّ في مراحلها الأولى.
إذًا لا نبالغ إذا قلنا: إنّ الأخلاق هي الأساس في حلّ المشاكل الأسريّة، والقانون الداعم لها وبدونها تتحوّل العلاقات الأسريّة إلى اعتبارات قانونيّة وماديّة بحتة، وتدخل دائرة الصّراع، وهذا ما هو متوقّع حدوثه إنّ أصرّينا دائما على أن الحلّ لمشاكلنا الأسريّة سيكون في القانون، وأروقة المحاكم فقط!
لذا نجد أنّ الآيات القرآنية، والنّصوص الشريفة، والأحكام الشرعيّة كلّها مؤطّرة بإطار الأخلاق، وهذا ما سنعرض له في المحور التالي.
ثانيا: البعد الأخلاقي في أحكام المرأة كما توضّحه الآيات القرآنية والنّصوص الشريفة:
١- علاج التّفرقة والتّمييز:
مشكلة التّمييز والتّفرقة بين الذّكر والأنثى مشكلة أزليّة وقديمة، وما زالت معاصرة في المجتمعات الحديثة والإسلاميّة والشّرقيّة بدرجات متفاوتة، ولن نفصّل في شواهد ذلك قديما قبل الإسلام، والحضارات القديمة، فهو من الأمور التي كثر الحديث عنها في الكتابات المقارنة بين الإسلام وغيره، وسنجدها في سبب نزول بعض الآيات التي سنتعرّض لها.
لكنّنا هنا نؤكّد وجودها حتى في المجتمعات الغربيّة المعاصرة والشّرقيّة غير الإسلاميّة، ووجدت في المجتمعات الإسلاميّة منذ أن بدأ التّراجع في الأمّة عن الإسلام وحاكميّته في الحياة، والنّظر للمرأة على أنّها أداة للجنس، ووعاء للحمل، وزينة لتفاخر السلاطين والأثرياء فقط، وعلى هذا النحو توجد في مجتمعاتنا الإسلامية في اليوم في داخل بعض الأسر، وفي أنماط التّربية، وفرص التّعليم والعمل، وفي الوظائف، وفي الإعلام، وفي المؤسسات الأهليّة، وفي فرص العمل السياسيّ، وغيرها، وكلّ ذلك لا علاقة له بالدّين.
فالموجود في الدّين اختلاف في النّظرة، وبعض التّشريعات بين الذّكر والأنثى لاعتبارات فطريّة، وطبيعيّة، وتكوينيّة، واجتماعيّة، واقتصاديّة، وليس تمييزا وعنصريّة.
قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا»(١).
إنّ رفض التّمييز والعنصرية، والتّفرقة بين الذّكر والأنثى، وبين الألوان والأجناس والزّوج والزّوجة واضح في هذه الآية، حيث كلكم لآدم (مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)، وزوجها من جنسه، وصنفه، ونفسه، وليست من أضلاعه كما يشاع!، وقد أشار الإمام الباقر(ع) إلى ذلك في تفسيره للآية: إنّها خُلقت من فاضل الطّينة التي خلق منها آدم(٢)، لماذا؟
ليس للتّمييز والفوقيّة وإنّما للسكن والألفة معه، وهذا ما توضّحه الآية الأخرى من قوله تعالى: «وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»(٣)، أي تأنسوا، وتستقرّوا، وترتاحوا، ويخفّ توتّركم، وتساعدكم في تحمّل المشاق، ولكن ما الضمانة لذلك؟
إنّها التّقوى التي بدأ الله تعالى بها أمره للنّاس عامّة، وللأزواج خاصّة.
لقد أنشأ العديد من الجمعيّات والمنظّمات، وأبرمت الاتفاقيّات، وشرعت القولنين طوال قرنين من عصرنا الحديث لمقاومة كلّ أشكال التّفرقة والتّمييز حسب الجنس والمذهب واللون، لكنّها لم تفلح في إنهاء أشكال التّمييز، والتّفرقة بين الجنسين كما تفلح كيمياء هذه الآية لو فعّلت في الواقع، فالإنسان الآخر، والجنس الآخر هو نفسك، فهل هناك من يميّز بين نفسه ونفسه؟!
إنّ الضمانة لمنع التّجاوز والظّلم للأقرباء، والأرحام هو التّقوى ورقابة الله سبحانه:«وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا»(٤).
2- أخلاقيات الزواج المتعدّد:
«وإنْ خفْتُم ألاَّ تُقسِطُوا في اليتَامى فانكِحُوا ما طابَ لكُم منَ النِّسَاءِ مَثْنَى وثُلاثَ ورُباعَ فإنْ خِفتُم ألاَّ تعدِلُوا فواحدَةً أو ما ملَكَتْ أيمانُكُم ذلكَ أدْنَى ألاَّ تعُولُوا»(5).
لقد كان العرب قبل الجاهليّة إذا كفلوا يتيمات يتزوجونهنّ، ويملكون أموالهنّ، وربما ينكحوهنّ بلا صداق، أو بصداق أقلّ من شأنهنّ، ثم يتركوهنّ لأدنى سبب، أو كراهيّة بكلّ سهولة، فلا حقوق لهنّ كزوجات، ولا كنساء، فنزلت الآية موجّهة لمن هو وصي على اليتيمات إذا أرادوا الزّواج بهنّ أن يراعوا العدل والقسط معهنّ، فإن خافوا ألا يحقّقوا ذلك، فليتزوجوا بغيرهنّ من النّساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خافوا أن لا يعدلوا، فليكتفوا بواحدة، وذلك أحرى لمنع الظلم والجور(6).
هذا مجمل معنى الآية التي جاءت لمنع العادات الجاهليّة الظالمة للمرأة وضمان حقوقها عند تعدّد الزّوجات، والعدل يعني مراعاة الحقوق الماديّة، والجنسيّة، والمعاملة الحسنة حتى لو اختلف الميل القلبيّ والحبّ لواحدة دون الأخرى.
ومعظم شكاوى الزّوجات في التّعدّد اليوم تشمل هذين الجانبين (الماديّ، والجنسيّ)، فلا تراها تقول: إنّه لا يحبني، بل تقول: لا يأتي بيتي، لا ينفق عليّ، لا يعاملني معاملة حسنة، لا ينام معي، لا يهتم بأبنائي، هجرني، وما شابه ذلك.
والأزواج الذين طبّقوا هذه الآية بمعاييرها الإلهيّة استطاعوا أن يحفظوا الاستقرار، والحبّ، والوئام في الأسرة بين الزّوجات وبين الأبناء.
«فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً»(7)، أي إن عرفتم أنّكم لن تستطيعوا توفير هذا الجانب من العدل للزّوجات، فاكتفوا بواحدة.
فهل هناك قانون يرقى لجمال هذه الأخلاق الرّبّانيّة والتي لو طبّقت لمرّت كلّ الزّيجات المتعدّدة بسلام، ولم تحتج إلى قانون يمنع الزّواج المتعدّد، ويقنّنه، ويستأذن المرأة فيه، وغيرها من القوانين في الأحوال الشخصيّة.
وهنا نتساءل: هل وضع الفقهاء شروطا لمن يريد الزّواج بأكثر من واحدة انطلاقا من هذه الآية، مثل توفر القدرة الماديّة، والمستلزمات المعيشيّة، والحياتيّة، والضّروريّة، وتعهدات بعدم الهجر والإساءة للزّوجات الأخريات، وعقوبة لمن يخالف ذلك؟
وهل يمكن للقانون أن يضع شروطا انطلاقاً من ذلك؟
أترك الإجابة فيه لمعدات المحور الفقهيّ في الموضوع، وتسليط الضوء على الأحكام الفقهيّة المتعلّقة به.
فإنّ اكتملت الصورة (الأخلاقيّة والفقهيّة) لآداب وأحكام الزّواج المتعدّد، فقد وضعنا مرجع الحل لمشاكله بفاعليّة أكبر من القانون «وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا»(8).
ولا علاقة للعدل في هذه الآية بالعدل المذكور في الآية السابقة، ومن الخطأ فهمها بهذا النحو وأخذها حجّة للدّلالة على منع الزّواج المتعدّد، فالعدالة المستحيلة هنا هي الحبّ، والميل القلبيّ، بينما العدالة السابقة مطلوبة وضروريّة.
وكما لا يصح ذلك، لا يصح -أيضا- أخذ الرجل هذه الآية كحجة له في الجور، وعدم العدالة في النّفقة، والحقوق، والمعاملة، والهجران للزّوجة الأولى، أو الأخريات بحجّة أنّ القرآن قال: إنّ العدالة مستحيلة!!
فكلا الفهمين خاطئان.
والصحيح هو «فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ»(9)، وهي مأساة عصرنا، فبعض النساء لا هي متزوّجة، ولا هي مطلّقة!
ومقصود الآية، أي حتى لو لم تتساوَ محبّتكم، وميلكم القلبيّ لهنّ جميعا، فلا تميلوا لبعضهنّ ميلا شديدا وتذروا الأخرى كالمعلّقة.
هل اتضحت الصورة لنا الآن بأنّ كلّ مشاكل الزّواج المتعدّد اليوم ليست نابعة منه بذاته بقدر ما هي نابعة من غياب هذه الآداب الأخلاقيّة الإلهيّة الرّفيعة.
هل جئنا بجديد فيما قلناه؟
ربما لا، ولكن الهدف هنا أنّ نلفت الانتباه، ونحذّر من أنّ مجتمعًا يخلو من الوازع الأخلاقيّ والدّينيّ لن يحلّ القانون مشكلة الأسريّة، وأنّ تفعيل الحلّ الأخلاقيّ سيغني كثيرًا عن عقم القانون وعجزه أحيانا.
وأعتقد أنّنا رجالا ونساء بحاجة لتنظيم دورات حول أخلاقيّات وأحكام الزّواج المتعدّد، وليس مشروعيّته المؤكّدة، والتي يؤمن بها كلّ مسلم ومسلمة.
٣- الأخلاق والحقوق الماليّة للمرأة:
«وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا»(10).
نحلةً يعني: هبة، وعطيّة، أو كاملا بدون نقصان، وكلا الحالتين تكريم للمرأة، ولا يأخذ منها إلا بطيب نفسها، حتى لا تكون الحياة الزّوجيّة ذات مقاييس ماديّة جافّة وإنّما تكون مكانا للتّلاقي العاطفيّ، والرّضا النّفسيّ، ولشدة احترام الإسلام لحاجة المرأة مثل احتياجها للمال في الزّواج لم يحدّد مبلغا معيّنا ثابتا للمهر في كلّ زمان، وإنّما تركه لمقتضيات الزمان ولكن حبّ تخفيضها.
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا»(11).
لقد نزلت هذه الآية لتحريم بعض عادات الجاهليّة، فقد كان من عاداتهم أن يحتفظوا بالزّوجات الغنيّات، ولا يعاملونهنّ كزوجات، وإنّما لمجرد وراثتهنّ بعد الموت، أو مَن مَهَروا نساءهم مهورًا كبيرة، فيحبسوهنّ، ولا يطلقوهنّ، ويؤذونهنّ حتى يقبلن بالطّلاق، ويتنازلن عن المهر مقابل الحصول على الطلاق!(12).
«وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا*وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا»(13).
وهذه -أيضا- جاءت: لتحريم بعض عادات الجاهليّة الظّالمة بحقّ المرأة، أي لا تأخذوا صداق الزّوجة الأولى مقابل طلاقكم لها؛ لتتزوّجوا به زوجة أخرى، فهو إثم وبهتان، وقد كان من عادات الجاهليّة أن يتّهم الزّوجُ الزّوجة بالفاحشة؛ حتى يسترجع ما أعطاها!!.
فكيف تفعلون ذلك ببعضكم البعض وقد كانت بينكم روابط، وعلائق، عِشرَة ولستما غريبين عن بعضكما، وقد أعطيتموهنّ المواثيق والعهود الغليظة أن تؤدّوا لهنّ حقوقهنّ كاملة.
«الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ»(14)، أي حتى الطّوائف الأخرى من غير المسلمات، فتزوجوا بهنّ وفق القوانين الإسلاميّة، وابتعدوا عن الفسق، والفجور، والزّنا، والعلاقات المحرّمة.
فهل تعتقدون أنّنا عندما نستعرض هذه الآيات نحلّق في زمن الجاهليّة بعيدًا عن عالمنا اليوم؟
كلا، فما زال بعض الأزواج يمارس هذه العادات الجاهليّة ضدّ المرأة، وتشكّل القضايا الماليّة جزءًا كبيرًا من القضايا المرفوعة أمام المحاكم، ومن أمثلتها:
١- زوج يتخلّى عن نفقة زوجته، وعياله، ويمتنع عن العمل، لأنّ زوجته موظّفة، ويطالبها بتحمّل جميع نفقات الأسرة، بل ينفق مالها على أصدقائه، ولهوهم، ولعبهم!.
٢- زوج يساوم زوجته على طلاقها مقابل تنازلها عن كلّ ما تملكه، أو يخيّرها بين أولادها، ومالها، وسكنها!
٣- زوج يأخذ مال زوجته بالحيلة؛ ليتزوج به من امرأة أخرى!
٤- زوج يمتنع عن توفير متطلّبات زوجته الماديّة مقابل رضاه بعيبها الخلقيّ، واستمرار زواجهما!
٥- زوج يقطع الكهرباء في شدّة الحرّ عن زوجته وعياله، ويمتنع عن النفقة، لأنّ زوجته فكّرت أن تشكوه للمحكمة حتى يدفعها لسحب القضيّة!
٦- زوج يمنع زوجته من العمل رغم مؤهلها، ورغم ضعف الحالة الماديّة!
٧- وهناك الزّوج والأب الذي يستولي على مهر بناته، أو راتب زوجته، ويتحكّم في رصيدها وبطاقتها المصرفيّة!
٨- زوج يميّز في النفقة والمال بين زوجاته وعياله!
وغيرها العديد من القضايا المالية التي تهدد كيان الأسرة، ويكون الطّرف الأضعف فيها دائما هي المرأة.
وتأتي الآيات القرآنية، ومعاييرها الأخلاقية وتحرّم كلّ ذلك، وتدللّ المرأة، وتكرّمها، وتجعل الرّجل مسؤولا عن نفقتها بقدر سعته «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ»(15)، وتحرم أخذ مهرها، ومالها دون رضاها.
وسنعرض فيما سيأتي لطرق حلّ الخلافات، والمشاكل الماليّة بين الزّوجين، لكن نجاحها يحتاج إلى الابتعاد عن هذه العادات والممارسات الجاهليّة بحقّ المرأة.
٤- أخلاق الخلافات والمنازعات:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا»(16).
وقال الامام علي(ع): "بحسن العشرة تدوم المودة"(17).
«الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا»(18).
النّشوز هو: التّمرّد، والعصيان، فهنا يرتّب القرآن وسائل التّعامل مع هذه المرأة؛ لإعادتها إلى طريق الصّواب، وتبدأ بالوعظ، والنّصيحة، والكلام الرّفيق والمؤثّر، والموعظة الحسنة، والنّقاش والحوار المقنع والهادئ، وهو الوسيلة الأولى في أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر (الوعظ باللسان).
فإن لم ينجح هذا الأسلوب، فانتقلوا للهجر في المضاجع -وليس هجر البيوت، وتركها معلّقة كما يفعل بعض الأزواج-، فذلك له أثر نفسيّ وعاطفيّ على الزّوجة بحيث يجعلها تراجع سلوكها.
والهجر في المضاجع يعني: أن يعطيها ظهره في الفراش، أو يقلل الكلام معها (وهو الوسيلة الثانية)، وهو أسلوب من الرّدع، والإنكار العاطفي والنّفسيّ.
فإن لم ينجح هذا الأسلوب، فانتلقوا للضرب الخفيف الذي لا يُدمي، ولا يجرح، ولا يكسر، ولا يبلغ حدّ السواد، هذا هو النكران والرّدع باليد للمرأة الناشز، وهو (الوسيلة الثالثّة) للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهنا لا بدّ أن نقفز للذّهن بعض الأسئلة، وهي:
كيف يدعو القرآن الكريم لضرب النساء، والعنف الجسدي؟
أليس ذلك هو السبب في مشكلة العنف الأسري التي تعاني من المرأة اليوم؟
هل يتلاءم ذلك مع عصرنا، وحقوق المرأة، بل وحقوق الإنسان؟
وقبل أن نجيب، نقول: ليس ما سنقوله هنا تشجيع على العنف ضدّ النّساء، وسنتعرض في المحور الأخير لمشكلة العنف الأسريّ في المجتمع البحراني، وإنّما هو طرح لتفسير الآية، ورفع للتهمة والإشكال الذي يتبادر إلى الذهن عند قراءتها:
أولا: نقول: إنّ النّبيّ(ص) في حديثه في وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -عموما- ذكر ثلاث
وسائل، وهي:
- الإنكار باليد.
- فإن لم يستطع فباللسان.
- فإن لم يستطع فبالقلب، وذلك أضعف بالإيمان.
فما ذكر هنا من وسائل لعلاج نشوز المراة لا تختلف عما ذكره الشارع المقدّس من وسائل في مواجهة المنكر في المجتمع -عموما-، وفي تربية الأبناء، فهل يختلف اثنان في أن النشوز منكر يحتاج إلى مواجهة بهذه الوسائل، لأنه خطر يهدّد الأسرة والمجتمع؟
ثم هل الوسائل التي دعا إليها النبيّ(ص) وبيّنها أهل البيت(ع)، والفقهاء دعوة للعنف الجسديّ، والنّفسيّ؟!
لم تأتِ الآيات بشيء مخالف لوسائل الأمر بالمعروف والنهيّ عن المنكر المُتسالم عليها في علاج الظواهر السلوكية المنحرفة.
ثانيًا: بخلاف الترتيب الذي ذكره النبيّ(ص) لمواجهة المنكر، والذي يبدأ باليد، ثمّ باللسان، ثمّ بالقلب نجد هذه الآية توجّه للبدء باللّسان، ثم الأسلوب العاطفيّ والقلبيّ، ثم اليد وذلك رفقا بالمرأة، ومراعاة لطبيعتها.
ثالثًا: لكم أن تتخيلوا معي من هي هذه المرأة التي وصل نشوزها، وتمرّدها، وعصيانها، ورفضها الرّجوع إلى جادّة الصواب إلى الحدّ الذي لم يعد ينفع معها الوعظ، والتحذير، والنّصيحة، ولم يردعها الهجران العاطفيّ والجنسيّ لها من قبل زوجها، ولا الإعراض العاطفيّ -وبتعبيرنا العام راكبة رأسها- أعماها الشيطان والدنيا عن الرّجوع إلى الصواب، فلم يعد يفلح معها إلا الضرب الذي ينبّهها من غفلتها، وآخر العلاج الكَيّ؟!
ألا نردّد نحن ذلك عندما يطفح الكيل، وتعيا الحيلة في كبح جماح عصيان وانحراف بعض الفتيات والنّساء خاصّة ونحن نشاهد، أو نسمع عن امرأة تركت زوجها وأولادها، وأجبرت زوجها على طلاقها؛ لتتزوّج بعشيقها.
أو امرأة تبذّر مال زوجها، وتحمّله ما لا طاقة له به، وتذيقه كلّ عبارات السباب والإذلال والإهانة، وتفرض ديكتاتوريّتها، وتسلطها في الأسرة.
وفتاة تعشق عامل البرّادة الأجنبيّ، وتخطّط للهروب معه، وتصرّ على الزّواج من غير الكفء.
وأخرى طائشة تنتقل من علاقة محرّمة لأخرى، ولا يردعها شيء، وغيرها من مآسي عصرنا، فهل ننكر وجود هذه الأصناف من الفتيات والنّساء؟
قد يقول قائل: فليحاوروهنّ، ويتلمسوا سبب انحرافهنّ، ويوظّفوا مهارات التّواصل، والخطاب، وعلم النّفس، والبرمجة، وغيرها بدلا من ضربهنّ.
نقول: هذا بالضبط ما دعت إليه الآية في الوسائل الأولى، ولم تدعُ للضرب إلا إذا استفحل الأمر، وتجاوز الحدّ.
ثم يقول تعالى: «فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا»(19)، أي لا تستمرّوا في العقاب والضرب، ليصبح عادة مستمرة عندكم في التّعامل معهنّ، فتظلمونهنّ حتى لو تراجعن عن الخطأ. فالضرب كان لمرة واحدة للتأديب فقط وليس للانتقام والعنف.
«وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا» (20).
وهنا يعرض الإسلام محكمة الصلح العائليّة كبيئة عاطفيّة أفضل من البيئات الأخرى كالمحاكم الجنائيّة، فالحكمان ممّن تربطهما رابطة النّسب والقرابة بالزّوجين يمكنهما تحريك المشاعر.
وهنا كلمة للأزواج الذين يرفضون أن ترفع الزّوجة مظلمتها للعائلة وأن تكتم الأمر مهما استفحل الأذى وتعذر الحلّ؛ بحجة الحفاظ على أسرار الزّوجيّة، وهو في الحقيقة يريد إخفاء عيوبه وأخطائه، ويخشى النّاس، ولا يخشى الله سبحانه.
«وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا»(21).
فالنّشوز من الرّجل يعني تكبّر وطغيان واستعلاء على المرأة وعدوان عليها، أو كراهية لها، وإعراض عنها، وتجاهلها، أو قلّة محادثته لها، أو عدم مجالستها، والحلول التي تطرحها الآية هنا هي:
- التّصالح.
- التراضي.
- التّفاهم.
- التّنازل.
- والصّلح وهو أفضل من النّزاع والشّقاق والصراع.
وما دعا إليه القرآن الكريم تدعو له الدّورات الحديثة؛ لتأهيل الأزواج تحت عنوان: (فن التّنازل في الحياة الزّوجيّة)، أو تحت شعار: (إن لم يكن ما تريد، فأرد ما يكون) وسنتعرض له لاحقا.
والصلح خير وأفضل، لكنّ النّفوس مجبولة على حبّ الذّات، وعدم التّنازل عن أقل شيء من حقوقها، ولكن لو تركنا تلك الصّفة، وسعينا للإصلاح كان ذلك أفضل؛ لإنهاء الخلافات «وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا»(22).
فإذا كان الانفصال هو الحلّ الوحيد، فليتّخذوا هذا القرار الشّجاع دون رهبة وخوف من المستقبل، فلا يعدمان الأمل في توفيق الله تعالى لما هو أفضل لهما.
أخلاق التعامل مع المرأة كما توضحها الرواي الشريفة:
قال رسول الله(ص): "خير الرجال من أمتي الذين لا يتطاولون على أهليهم، ويحنون عليهم، ولا يظلمونهم"(23).
وشجع الإمام الباقر(ع) على تحمّل الإساءة، لأنّ ردّ الإساءة بالإساءة يوسع دائرة الخلاقات والتشنجات، حيث قال(ع): "من احتمل من امرأته ولو كلمة واحدة أعتق الله رقبته من النار وأوجب له الجنة"(24).
وشجّع رسول الله(ص) الرّجل على الصّبر على سوء أخلاق الزّوجة، فقال: "من صبر على سوء خُلُق امرأتِهِ أعطاه الله من الأجر ما أعطى أيّوب على بلائه"(25).
والصبر على الإساءة من الزّوجة أمر غير متعارف عليه لولا أنّه من توجيهات رسول الله(ص)، فيكون محبوبا ومرغوبا من قبل الزّوج المتديّن، وليس فيه أية إهانة لكرامته، فيصبر عن رضا وقناعة.
والاقتداء برسول الله(ص) في تعامله مع زوجاته يخفّف الكثير من التّشنّجات، وكذلك الاقتداء بسيرة أهل البيت(ع)، فقد قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(ع): "كانت لأبي(ع) امرأة، وكانت تؤذيه، وكان يغفر لها"(26). ونهى رسول الله(ص) عن استخدام العنف مع الزّوجة، فقال: "أيُّ رجل لطم امرأته لطمة أمر الله عز وجل مالك خازن النّيران، فيلطمه على حرّ وجهه سبعين لطمة في نار جهنم"(27).
وأوصى الإمام عليّ بن الحسين(ع) بها، فقال: "وأما حق رعيتك بملك النكاح، فأن تعلم أن الله جعلها سكنا، ومستراحا، وأنسا، وواقية، وكذلك كل واحد منكما يجب أن يحمد الله على صاحبه، ويعلم أن ذلك نعمة منه عليه، ووجب أن يحسن صحبة نعمة الله، ويكرمها ويرفق بها وإن كان حقّك عليها أغلظ، وطاعتك بها ألزم فيما أحببت وكرهت ما لم تكن معصية، فإنّ لها حقّ الرّحمة والمؤانسة، وموضع السّكون إليها قضاء اللّذة التي لا بدّ من قضائها، وذلك عظيم..."(28).
وقد ركزّ النبي الأكرم وأهل بيته(ع) على إدامة علاقات الحبّ والمودّة داخل الأسرة، وجاءت توصياتهم موجّهة إلى كلّ من الرّجل والمرأة، فقد قال رسول الله(ص): "خيركم خيركم لنسائه، وأنا خيركم لنسائي"(29).
وقال الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع): "رحم الله عبدا أحسن فيما بينه وبين زوجته"(30).
وقال رسول الله(ص): "من اتخذ زوجة، فليكرمها"(31).
وقال(ص): "أوصاني جبرئيل(ع) بالمرأة حتى ظننت أنه لا ينبغي طلاقها إلّا من فاحشة مبنية"(32).
فأقوال أهل البيت(ع)، وتوصياتهم في الإحسان إلى المرأة وتكريمها، عامل مساعد من عوامل إدامة المودّة، والرّحمة، والحبّ.
في المقابل، أوصى الرسول الأكرم(ص) وأهل البيت(ع) المرأة بما يؤدّي إلى إدامة المودّة، والرّحمة، والحبّ إن التزمت بها، ومنها طاعة الزّوج، فقد قال رسول الله(ص): "إذا صلّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وأحصنت فرجها، وأطاعت بعلها، فلتدخل من أيّ أبواب الجنّة شاءت"(33).
ولقد جاء رجل إلى رسول الله(ص)، فقال: إنّ لي زوجة إذا دخلت تلقّتني، وإذا خرجت شيّعتني، وإذا رأتني مهموما قالت: ما يهمّك؟ إن كنت تهتمّ لرزقك، فقد تكفّل به غيرك، وإن كنت تهتمّ بأمر آخرتك فزادك الله همّا، فقال رسول الله(ص): "بشّرها بالجنّة، وقل لها: إنّك عاملة من عمّال الله، ولك في كل يوم أجر سبعين شهيدا، -وفي رواية- إنّ لله عزّ وجلّ عمّالا وهذه من عمّاله، لها نصف أجر الشهيد"(34).
وحدّد الإمام عليّ بن الحسين(ع) العوامل التي تعمّق المودّة، والرّحمة، والحبّ داخل الأاسرة، فقال: "لا غنى بالزّوج عن ثلاثة أشياء فيما بينه وبين زوجته، وهي: الموافقة: ليجتلب بها موافقتها ومحبّتها وهواها. وحسن خلقه معها واستعماله استمالة قلبها بالهيئة الحسنة في عينها. وتوسعته عليها. ولا غنى بالزّوجة فيما بينها وبين زوجها الموافق لها عن ثلاث خصال، وهي: صيانة نفسها عن كلّ دنس، حتى يطمئن قلبه إلى الثقة بها في حال المحبوب، والمكروه، وحياطته؛ ليكون ذلك عاطفا عليها عند زلّة تكون منها، وإظهار العشق له بالخلابة، والهيئة الحسنة لها في عينه"(35).
وعلاقات المودّة، والرّحمة، والحبّ ضروريّة في جميع مراحل الحياة، وخصوصا في مرحلة الحمل والرضاعة، لأنّ الزّوجة بحاجة إلى الاطمئنان، والاستقرار العاطفيّ، وإن ذلك له تأثير على الجنين، وعلى الأمّ، فقد أجاب الإمام جعفر بن محمّد الصّادق(ع) على سؤال إسحاق بن عمّار عن حقّ المرأة على زوجها، فقال(ع): "يشبع بطنها، ويكسو جثتها، وإن جهلت غفر لها"(36).
وأجاب رسول الله(ص) على سؤال خولة بنت الأسود حول حق المرأة، فقال: حقّك عليه أن يطعمك ممّا يأكل، ويكسوك ممّا يلبس، ولا يلطم ولا يصيح في وجهك"(37).
ومن حقّها مداراة الزّوج لها، وحسن صحبته لها، فقد قال أمير المؤمنين(ع) في وصيّته لمحمّد بن الحنفيّة: "إنّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فدارها على كلّ حال، وأحسن الصّحبة لها، فيصفو عيشك"(38).
ومن حقّ الزوجة، وباقي أفراد العائلة هو إشباع حاجاتهم الماديّة بقدر سعته.
فلو تأملنا في كلّ تلك الآداب في الآيات، والرّوايات السابقة: لوجدناها تمسّ أهم منابع المشاكل الأسريّة اليوم التي تصل لأروقة المحاكم، والمراكز الأسريّة، كما ولو التزمنا بهذه الآداب؛ لوجدنا الضمانة الكبرى لمنع حدوث تلك المشاكل، ولكان ذلك وقاية منها بلا شكّ.
فالفقر، وتعدّد الزّوجات، وسوء خلق الزّوج والزّوجة، والعصيان، والنّشوز، وصدور الخطأ، والجهل، والاختلافات الماليّة، والخلاف، والشّقاق كلّها لها آداب وحلول إسلاميّة أخلاقيّة للتّعامل معها؛ لتمنعها من التّفاقم، ولتحفظ كيان الأسرة.
بل حتى الخيانة الزّوجيّة -التي يصعب عندنا استمرار الحياة الزّوجيّة بعدها، أو معها- لها أحكام وضوابط أخلاقيّة في التّعامل معها، لكنّ جهلنا بهذه الآداب الإلهية الرّفيعة هو الذي أدّى لتفاقم هذه المشاكل، وتعليقنا الأمل على القانون، بينما نحن المسلمين في غنى عنه -أي عن القانون الوضعيّ- بما شرّعه القرآن الكريم، والسّنّة المطهّرة.
ولكن لا غنى لنا عن الاطّلاع على ما جاءت به الدّورات التّأهيليّة الحديثة للأزواج والزّوجات؛ لوقاية الأسرة من تفاقم المشاكل ونتائجها المدمّرة، وهذا ما سنعرض له في محورنا التالي في القسم الثاني من البحث.
_____________________
(١)سورة النساء، الآية:١.
(٢)تفسير الأمثل ج٣ ص٧٦/١٩٩٢، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الطبعة الأولى.
(٣)سورة الروم، الآية:٢١.
(٤)سورة النساء، الآية:١.
(5) سورة النساء، آية: 3
(6)تفسير الأمثل ج٣ ص٨٢/١٩٩٢، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الطبعة الأولى.
(7)سورة النساء، الآية:٣.
(8)سورة النساء، الآية:١٢٩.
(9)سورة النساء، الآية:١٢٩.
(10)سورة النساء، الآية:٤.
(11)سورة النساء، الآية:١٩.
(12)تفسير الأمثل ج٣ ص١٤٤/١٩٩٢، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الطبعة الأولى.
(13)سورة النساء، الآيتان:٢٠-٢١.
(14)سورة المائدة، الآية:٥.
(15)سورة النساء، الآية:٣٤.
(16)سورة النساء، الآية:١٩.
(17)ميزان الحكمة ٣/١٩٨٠، محمد الري شهري، الطبعة الأولى، تحقيق ونشر: دار الحديث.
(18)سورة النساء، الآية:٣٤.
(19)سورة النساء، الآية:٣٤.
(20)سورة النساء، الآية:٣٥.
(21)سورة النساء، الآية:١٢٨.
(22)سورة النساء، الآية:١٣٠.
(23)مكارم الأخلاق، ص٢١٦، الشيخ الطبرسيّ، الطبعة السادسة ١٣٩٢-١٩٧٢م، منشورات الشريف الرضي.
(24)مكارم الأخلاق، ص٢١٦، الشيخ الطبرسيّ، الطبعة السادسة ١٣٩٢-١٩٧٢م، منشورات الشريف الرضي.
(25)مكارم الأخلاق، ص٢١٦، الشيخ الطبرسيّ، الطبعة السادسة ١٣٩٢-١٩٧٢م، منشورات الشريف الرضي.
(26)جامع أحاديث الشيعة٢٠/٢٥٣، السيد البروجرديّ، سنة الطبع: ١٤٠٩ﻫ، مهر، قم-إيران.
(27)مستدرك الوسائل١٤/٢٥٠، الميرزا النوري، الطبعة الثانية١٤٠٨ﻫ - ١٩٨٨م، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت(ع) لإحياء التراث، بيروت-لبنان.
(28)رسالة الحقوق للإمام زين العابدين.
(29)الحر العاملي: محمد بن الحسن/وسائل الشيعة-حديث رقم٢٥٣٤٠.
(30)المصدر السابق-حديث رقم٢٥٣٣٤.
(31)مستدرك الوسائل، للنوري٢: ٥٥٠-المكتبة الإسلامية طهران١٣٨٣ﻫ.
(32)المجلسي: محمد باقر/بحار الأنوار ج١٠٠ ص٢٥٣.
(33)مكارم الأخلاق، للطبرسيّ: ٢٠١، منشورات الشريف الرضي- قم ١٤١٠ﻫ ط٢.
(34)من لا يحضره الفقيه-الشيخ الصدوق ج٣ ص٣٨٩ ح٤٣٦٩.
(35)تحف العقول -ابن شعبة الحراني- عليه الرحمة- ص٣٢٣.
(36)من لا يحضره الفقيه٣: ٢٧٩/٢باب حق المرأة على الزوج.
(37)مكارم الأخلاق٢١٨.
(38)مكارم الأخلاق٢١٨.
المصدر: البعد الأخلاقي في أحكام المرأة في الشريعة الاسلامية ودوره في حل المشاكل الأسرية، أ. أمينة حسن سلمان الهندي- أ. صفية يوسف رضي، مجلة أسرتنا عدد١- صادرة عن العتبة الحسينية المقدسة.
اترك تعليق