الأسس الفكريّة للرؤية الغربيّة إلى المرأة
1- المذهب الإنساني
كانت باكورة حركة النهضة في أوروبا، هي التركيز على الإنسان وجعله محورا للنهضة؛ ولهذا فهي حركة متطرفة ظهرت نتيجة لتطرف الكنيسة المسيحيّة في القرون الوسطى. فالمسيحيّة انتشرت وتوسًعت في الغرب عندما كانت الإمبراطوريّة الرومانيّة وتطلعاتها تشارف على الأفول والسقوط. وسيطرت أجواء اليأس والقنوط على الناس.
واستفاد رجال الكنيسة من هذا المناخ للدعوة إلى ضرورة العزلة والتقوى السلبيّة. وكما أشرنا كانت المسيحيّة ترى أنً الإنسان ملوًث بالخطيئة الأصليّة؛ ولهذا السبب هبط آدم من الجنّة. ولا يجد الإنسان أي قارب يحمله إلى ساحل النّجاة والأمن من هذه المصيبة. وتبعا لذلك، فإنً الطبيعة والدنيا الماديّة وحتى جسم الإنسان هي موجودات شريرة وتخلق الشرور، وإنّ الروح بإمكانها النجاة بالابتعاد عن المادة والجسم، ومضافا إلى هذا، فإنّ الكنيسة تعتقد أنّه حتى الإيمان والتقوى ليس لهما تأثير على سعادة الإنسان؛ فالعقل والإرادة البشريّة أيضا غير قادرين على التأثير في سعادة الإنسان؛ لأنهما أسيرا الطبيعة الماديّة الدنيئة؛ وهما عاجزان عن القيام بدور المنقذ للإنسان. فنشاط البشر يعتبر ظاهريا؛ وجميع الوقائع والآمال والتطلعات تتلخّص في موجود متعالٍ ومطلق هو (الله). فالله تعالى أرسل ابنه (عيسى المسيح) ثمّ عرّضه للصلب ليفتدي المؤمنين، والنّاس- بإيمانهم بالصليب- يمكنهم الوصول إلى شاطئ الفوز والنّجاة؛ ولذلك فالإنسان في العصور الوسطى كان يعتبر العالم الواقعي هو عالم ما بعد الطبيعة. وكان يعتبر الحياة محدودة بحياة سماويّة وغير واقعيّة(1). فطبيعي أنّه "قبل ظهور المسيحيّة كان كثير من النّاس يلجأون إلى الصحراء ويعتزلون الحياة للابتعاد عن الدّنيا؛ فالابتعاد عن الدّنيا كان أقرب حلّ توصّلوا إليه"(2). فالإنسان في الغرب توجّه لاعتناق المسيحيّة بسبب اليأس والقنوط من التّعاليم الماديّة لليونان والرومان؛ وكانت الكنيسة تعد الناس بخيرات السّماء وجزاء الآخرة من أجل إنقاذهم.
وقد رافق الابتعاد عن الدّنيا والمادة في الثّقافة المسيحيّة وعلى مدى ألف عام، عادات وتقاليد ومراسم ومراتب كنسيّة والأهم من ذلك؛ فإنّ رجال الكنيسة الذين كانوا يدعون إلى الزهد والرهبنة كانوا عمليّاً طلاب دنيا وجامعي ثروات. فعندما قامت النّهضة في أوروبا استهدفت الرأسماليّة والبورجوازيّة الثقافة المسيحيّة الضعيفة وطرحت شعار العودة إلى الطبيعة الإنسانيّة والتشبّع بملذّات الدّنيا رافضة تأجيل أيّ شيء إلى العالم الآخر والاعتماد على العالم العلويّ؛ كان المذهب الإنسانوي في البداية يريد "الاستفادة السليمة من ملذّات الحياة في ظلّ حضارة متقدّمة باستخدام قانون الاعتدال والوسطيّة" وكان يرفع الشعار الآتي: "كن كاملاً، وكن سليماّ، وكن قويّاَ في الجسم والرّوح، ولا تدع الفرصة تضيع منك عند التّطور والنّمو في هذا العالم الغنيّ"؛ لكن الأحداث أظهرت أنّ المدافعين عن المذهب الإنسانوي، كانوا يريدون عمليّاَ أشياء أكثر، إنّهم ثاروا على الأخلاق المسيحيّة حتّى يجرّبوا اللذات والجمال المّادي، وهم استلهموا الأمل من السماء وكانوا يبحثون عن تطلعاتهم وآمالهم على الأرض وفي غرائزهم الحيوانيّة. وينقل عن أحد المنظّرين قوله "أنت تبحث عن أشياء غير متناهية، أنت تضع سلّمك على السماء وأنا أضعه على الأرض حتى لا أصعد كثيراً وحتى لا أسقط من علٍ"(3).
وهكذا، فإنّ إشباع اللذة كان جزءاً لا يتجزأ من المذهب الإنسانوي. الذي أخذ في البداية يروّج لمفاهيم العشق الأرضي وثقافة العريّ في الرّسم والنّحت، وسيطر تدريجيّا على جميع مناحي الحياة العلميّة والعمليّة في أوروبا الغربيّة، وأصبح أحد الأسس الرئيسيّة الراسخة في الأدب والثقافة الغربيّة الحديثة.
إنّ المذهب الإنسانوي وبكلمة واحدة، يعتبر الإنسان- أيّ الإنسان الماديّ والأرضي- هو الموضوع الوحيد الذي يستحقّ بذل الجهد الفكريّ للعمل والفكر وإنّ الأشياء الأخرى يمكن تحليلها وتقييمها على هذا الأساس.
2- العلمانيّة
إنّ أحد آثار المذهب الإنسانوي، هو الميل نحو تخليص المجتمع والحياة من القيود والقيم الدينيّة. فكما سلف القول، فإنّ الدّين الذي صوّرته المسيحيّة لم يكن يتلاءم مع الحياة الدنيويّة والعمل على إحلال السعادة في هذا العالم. من جهة أخرى، فإنّ المدافعين عن المذهب الإنسانوي كانوا يسعون لفكّ الارتباط نهائيا بالسماء والألوهية. وهكذا، فإنّ الأوروبيون بما اكتسبوه من تجربة من المجتمع المسيحيّ، كانوا ينظرون من زاوية رغباتهم وتطلّعاتهم إلى الحياة العامّة بعيداً عن القيم الدينيّة والإلهيّة. ويطلق مصطلح العلمانيّة على فصل الدّين عن الدّنيا، وعن لعب أيّ دور في تنظيم العلاقات بين المجموعات والفئات الاجتماعيّة.
وطبيعي أنّه يمكن البحث عن جذور العلمانيّة في تعاليم العهد الجديد؛ فالإنجيل يقول بصراحة: "أعط لله ما لله ولقيصر ما لقيصر"(4). ولقد أظهر المؤمنون المسيحيّون في القرون الأولى أٌنّهم باستثناء قضيّة الإيمان والأخلاق الفرديّة، فلا خلاف لهم مع الإمبراطوريّة الرومانيّة ولا يشعرون بأيّ تحدٍ لها. وعندما أدركت الإمبراطوريّة هذا المعنى لم تتوان عن قبول المسيحيّة والاعتراف بها كدين رسميّ للإمبراطوريّة(5).
ولقد وضع المفكّر المسيحيّ الكبير القدّيس أوغسطين الأسس النظريّة لفصل الدّين عن الدّولة في القرن الخامس الميلادي. فهو فصّل في كتابه "مدينة الله" بين المدينة الأرضيّة والمدينة السماويّة، وصرّح قائلاً: إنّ المدينة الأرضيّة -وهي في الواقع الحكومات الدنيويّة- هي مجتمع يعتمد على الطبيعة الترابيّة والدوافع الشهوانيّة وحرص الإنسان وطمعه؛ ومدينة الله هي مجتمع بُنِي على أمل الوصول إلى السّلام السّماوي والفوز الرّوحاني. وهكذا فإنّه كان يعتبر الحكومة الدنيويّة مشروعة طالما كانت تستخدم قدرتها وسلطتها لصالح الكنيسة وضدّ الكفّار والمشركين(6).
وكانت هذه النّظريّة تفصل بين ميدانيّ تدخّل الدّين والدّولة، وترى تناغم الدّين والدّولة أمراً صوريّاً وعرضيّاً، وكانت خلال القرون الوسطى علامة فارقة في ارتباط الكنيسة المسيحيّة والحكومات الدنيويّة. وهكذا فإنّ البابا باعتباره ممثلاً منتخباً من عند الله كان يتوجّب عليه أن يقف إلى جانب الإمبراطور أو الملك باعتباره رمزاً للسلطة الأرضيّة والحضور السماوي والملكوتي، وكان في بعض الأحيان يستخدم قوّته السياسيّة لصالح الدّين. ومنذ القرن العاشر الميلاديّ فصاعداً، وقعت أحداث في أوروبا الغربيّة جرّت الكنيسة عمليّاً إلى ميدان السلطة السياسيّة.
ومع بدء الحروب الصليبيّة وتعبئة الجيوش بقيادة رجال الدّين لمواجهة العالم الإسلامي، برزت تدريجيّاً القوّة الدنيويّة للكنيسة وأصبح الملوك والإقطاعيّون عاجزين عن مواجهة سلطة الكنيسة. ومن جهة أخرى، فقد ضعفت السلطة المركزيّة في أوروبا الغربيّة أكثر من ذي قبل، وكانت القبائل البدويّة وسكان الخيام (البربر) يبحثون عن المراعي والطعام في هذا المكان، وتوجّهوا من الشّمال والغرب إلى أوروبا الوسطى والغربيّة. واستقرّت هذه القبائل في مختلف مناطق أوروبا وشٌكّلت حكومات وطنيّة تدريجيّاً مثل الحكومات الموجودة حاليّاً في أوروبا وذلك إثر الإختلاط بين العنصر البربري والطّوائف المحليّة. وهكذا ألغيت الوحدة الأوروبيّة وبدأ الإحساس بوجود فراغ في السلطة المركزيّة؛ ومن أجل التّنسيق وإقامة سلام واستقرار في أنحاء أوروبا، استفادت الكنيسة من هذه الفرصة وطرحت نفسها على اعتبار أنّها حلقة ارتباط بين الدول الأوروبيّة. وعلى أيّ حال، فإنّ مجموعة من العوامل حالت بين المسيحيّة وبين أن تكون بذاتها مستعدّة للعب هذا الدّور، وبالتالي حالت دون صيرورتها مركزاً للتطورات الاجتماعيّة والسياسيّة.
لكن حضور الكنيسة في أعلى مراتب السّلطة من جهة ووجود فراغ في نظام سياسي وحقوقي منسجم وفعّال في الكنيسة من جهة أخرى، جعل التّعاليم الأخلاقيّة المسيحيّة تختلط مع القوانين الحقوقيّة الرومانيّة والتّقاليد الإقطاعيّة، وبذلك سيطر نظام اجتماعيّ مغلق وجامد على السّلطة باسم الدّين أواخر القرون الوسطى.
بهذا الماضي وبهذه الصّورة التي تركتها المسيحيّة، تهيّأت الأرضيّة في المجتمع الأوروبي لقبول العلمانيّة، ولم تواجه البورجوازيّة أيّة عقبة في الوصول إلى هذا الهدف. وتبعاً لذلك، فإنّ الغرب الجديد أصبح يبحث عن فلسفة وأيدولوجيا مناسبة بعد أن وضع المبادئ والقيم الدينيّة جانباً؛ لكي يملأ الفراغ النّاجم عن غياب الدّين عن العلاقات الاجتماعيّة. فظهور المدارس والأيديولوجيّات المختلفة والحديثة في العصر الجديد، كان سببها بحث الإنسان عن جذور له في الأرض بعد أن قطع علاقته مع السّماء.
ويجب عدم إغفال عامل رئيس آخر، وهو: أنّ البورجوازيّة والإقتصاد الرأسمالي لم يلتزما بأيّ قيمة سوى المنفعة وتنمية رأس المال؛ وحاجتهما بصورة ملحّة إلى الأجواء الاجتماعيّة الحرّة من أجل تنميته. فدراسة تاريخ الاقتصاد الغربيّ خلال قرون مضت، تظهر بوضوح أنّ الرأسماليّة المتوحّشة لم تستخدم من أجل نموّ وزيادة قدراتها اليد العاملة فحسب؛ بل استفادت من جميع الإمكانيات العلميّة والأخلاقيّة والقيميّة ولم تعرف أيَّ حدود لأطماعها(7). ومن البديهيّ أنّ مثل هذا النّظام؛ لن يكون منسجماً مع الدّين والأخلاق وهو يبحث عن آداب وتقاليد تلائمه.
3- النسبيّة
المذهب الإنسانوي علّم الغرب بأنّ وسيلة تحرّر الإنسان وانعتاقه هي "الإنسان" نفسه. وعلى هذا، فإنّه يجب أن يبدأ الإنسان من نفسه دون الاكتراث بأيّ عامل واعتقاد خارجي. وعليه أن يحلّ العقد والمشاكل التي تعترضه في هذا العالم الخالي من الرّوح بيده وبتدبير منه. والسؤال هو من أين يجب أن نبدأ؟ من وجهة نظر المفكّرين الغربييّن، فإنّ ثمة سبيلين لا ثالث لهما: الأول: العقل والفكر؛ والثاني: التجربة والإختبار.
وهكذا، فإنّ العالم الغربي شهد منذ القرن السابع عشر مدرستين فلسفيّتين مهمّتين: الأولى المدرسة العقلانيّة(8) التي كانت تعتقد أنّ الإنسان يحمل في طيّات عقله الأصول الأوليّة للمعرفة وبمساعدة هذه الأصول يمكن التّوصّل إلى حقيقة الإنسان والوجود. والمدرسة الثانية كانت المدرسة التّجريبيّة(9) وكانت هذه المدرسة تؤكّد أنّ العقل لا معرفة له دون مساعدة الأحاسيس وأنّ طريق المعرفة هو أن يلوذ الإنسان إلى التّجارب الحسيّة. ومن البديهيّ أنّ المدرسة العقلانيّة لم تدم أكثر من قرن في الغرب. وكما كان متوقّعاً فإنّ قافلة الحضارة الغربيّة اقتربت خطوة تلو أخرى من الأحاسيس والمنطق التّجريبي، وأخيراً فإنّ الفكر الوضعي تغلغل داخل الثّقافة الغربيّة بشكل ظاهر أو خفيّ. وطبقاً للنّظريّة الوضعيّة فإنّه يمكن فقط القبول بالمعتقدات والعلوم التي انطلقت بصورة مباشرة من الواقع الماديّ المحسوس، ويمكن إثباتها بالأساليب الحسيّة والعلوم التّجريبيّة. وعلى هذا، فكل ما لا يدخل في نطاق المعرفة الحسية والعلوم التجريبية، فلا يمكن الاعتناء والاهتمام به، بل يجب أن يعدّ ضمن الموهومات والتّخيّلات الإنسانيّة. وهذه النّظرة ترسّخت في الغرب؛ بحيث تأثّر بها علم الإجتماع وعلم النّفس والحقوق والعلوم السياسيّة.
وهنا يثار مباشرة التّساؤل التّالي: لماذا تغلغلت المدرسة التّجريبيّة والحسيّة بهذا الشكل في الثّقافة الغربيّة؟
والجواب عن هذا التّساؤل ليس بسيطاً. فالأبحاث تدلّ على أنّ ثمة عوامل مختلفة ساعدت على فرض مثل هذه المسيرة على الحضارة الغربيّة. ومن هذه العوامل، يمكن ذكر ضعف البنية الفلسفيّة للمسيحيّة؛ ونتيجة لذلك انعدم وجود تقاليد عقلانيّة وجذريّة وقويّة. ففي عصر النّهضة، ساد التشتّت والتّفرق وانعدم التّنسيق بين الفكر العقلاني؛ وتبعاً لذلك عدم لحاقهم بركب التّحولات المعقّدة والسريعة للمجتمع الغربيّ وعدم ملاءمتها لمتطلبات العصر.
ويوجد عامل مهم ساعد بصورة مبدئيّة وطبيعيّة على تعزيز المدرسة التّجريبيّة، وهو التّواجد القويّ للبورجوازيّة والاقتصاد الرأسمالي في مجال ومضمار التّحولات الثّقافيّة والاجتماعيّة في أوروبا ودورهما الأساسي في نشر القيم الماديّة وضرب أيّ مقاومة في هذا السّبيل. فالاقتصاد والبورجوازيّة كانتا تهدفان إلى تحقيق النّفع لرأس المال والاستفادة القصوى من الثّروة والحصول على ملذّات الدّنيا والفرص الطبيعيّة، وذلك بالاعتماد على ثقافة المذهب الإنسانوي. وهكذا، فإنّ الفلسفة الحسيّة استطاعت أن تكون أساساً لتبرير هذا الإتجاه، وكذلك فإنّ التّركيز على المعطيات المرئيّة والمادّية كان يوفر أساليب ومعلومات لتحقيق هذا الغرض(10) .
والآن، علينا أن نرى ما جاءت به المدرسة الحسيّة وما هو تأثيرها على ثقافة الغرب؟ إنّ أوّل ثمار المدرسة التّجريبيّة وأهمها، هو فصل الإنسان عن العالم وفصل "القيم" عن "الواقع المعيش"(11). لقد علّمتنا التّجريبيّة أنّ معارفنا مصدرها التّجربة؛ ومن أجل الحصول على العلم الواقعي يجب النّظر بصورة حياديّة إلى التّفاعلات الخارجيّة عن طريق الحسّ. إنّ هذه المعلومة من الخطوة الأولى توجد هوّة عميقة بين الحسّ. إنّ هذه المعلومة من الخطوة الأولى توجد هوّة عميقة بين الإنسان (كعامل للمعرفة) وعالم الوجود (كموضوع للمعرفة) وتفصل بين الأمور الإنسانيّة والأمور الخارجيّة الماديّة. فالمعرفة الدقيقة التي يمكن الاعتماد عليها هي العلم الذي يؤخذ من العالم المرئي، وأنّ الأمور الإنسانيّة والنّفسيّة ليس لها من حيث المبدأ مجال.
والآن ماذا يتضمن قطاع التّجربة من أمور؟ من البديهيّ أنّه لا يمكن التّعرّف على المبادئ والقيم القانونيّة والأخلاقيّة بأدوات الفلسفة التّجريبيّة. وكلّ ما هو فوق الحسّ لا يدخل في نطاق التّجربة. ففي الفكر الجديد وخلافاً لفلسفة أرسطو والفلسفة المسيحيّة، فإنّ القيم لم تنصهر في بوتقة العالم حتّى يمكن الحصول عليها بالبحث العلميّ. فإذا ما انفصلت القيم عن عالم العلم التّجريبي، فأين يمكنها أن تذهب؟ يجيب إيريس مورداك عن هذا التّساؤل بالعبارة المختصرة الآتية: "إنّ القيم التّي تشكّلت في العالم الأعلى بمفهوم ما، فإنّها تسقط في محضر إرادة الإنسان. فالواقع المتعالي لا وجود له وأنّ التّصوّر "الجيّد" لا يمكن التّعريف به؛ اختيار الإنسان وحده هو الذي يمكن أن يملأه"(12).
وعلى هذا، فإنّ على الفرد أن يختار قِيَمَه التي تخصّه ويبحث عن الأخلاق التي تلائمه. وتوجد هوّة بين الواقع والقيم الأخلاقيّة التّابعة ولا يمكن لأيّ منطق أن يردم هذه الهوّة. فالحسن والقبح ينجمان عن الحكم الأخلاقي الفرديّ. وفي قضايا كهذه توجد إمكانيّة واسعة لعدم الاتّفاق في المبادئ. وليس ثمّة قيم وتطلّعات مشتركة بين جميع البشر وكلّ إنسان يعتبر ما يحبّه حسناً. وأمنياته الشخصيّة يجعلها أهدافاً لحياته. وعلى هذا الأساس، فإنّ الأخلاق ونماذج الحياة هي أمورٌ نسبيّة تماماً، والحوار العلميّ في هذه الأمور سوف لن يُفضي إلى نتيجة. فكل شخص يمكنه حسب رغبته أن يُجيب عن هذا السؤال "كيف يجب أن يعيش؟" دون أن يفكّر حول ماهيّة الإنسان والعالم.
وكما نعلم، فإنّ التّأكيد على نسبيّة الأخلاق ستترتّب عليها آثار مهمّة. فأهم آثارها ما ترتّب لصالح البورجوازيّة وإيديولوجيّتها- أي الليبراليّة- تحرير الإنسان من جميع القيود الأخلاقيّة والقيم الإنسانيّة. وكانت الليبراليّة تميل إلى الانعتاق والتّحرّر من الأخلاق والدّين. فبعض المفكّرين الغربيّين سعَوا خلال ثلاثة قرون خلت للبحث عن أسس مستقلّة للأخلاق والقيم؛ ولكن لم تقدّم أيّ واحدة من هاتين المحاولتين نتيجة تستحقّ الذّكر. ويبدو أنّه طبقاً للأسس المادّيّة للثقافة فإنّ هذه المساعي والجهود، سوف لن تصل إلى نتيجة تُذكر. وإن ما سيطر عمليّاً على الثّقافة الأوروبيّة في هذا العصر ويعتبر اليوم آخر مكسب للغرب في الفلسفة الأخلاقيّة هو نظريّة النّزعة العاطفيّة(13)، فنظريّة النّزعة العاطفيّة تقوم على أساس أنّ الأقوال الأخلاقيّة وجميع الأعمال الخيّرة والشريّرة ما هي إلا إظهار لميول قائلها ورغباته، هذه الرّغبات التي ليس لها أيّ أساس ومعيار؛ فالنّزعة العاطفيّة على أوضح وجه تظهر نفوذ النّسبيّة في ثقافة الغرب، هذه النّسبيّة كانت ذات قيمة أوصلت الغرب في العصر الحاضر إلى العدميّة(14).
4- الفردانيّة
قدّمت المعاجم تعريفات حول معنى الفردانيّة (individualism)؛ نظريّة الفردانيّة هي كل نظريّة أو قاعدة أو خطوة تعتبر الإنسان في فرديّته أساساً لأيّ نظام فكري أو قِيَمِي سواء في ذلك القيم السياسيّة وغيرها(15). ولكن مثل هذه التّعريفات مع ما لها من قوّة لا تعبّر عن ماهيّة الفردانيّة ونفوذها الواسع في ثقافة الغرب كما يجب. فالفردانيّة في مفهومها الرّئيس كانت تعتبر أحد الآثار الطبيعيّة للمذهب الإنسانوي والعلمانيّة. فما طُرِح في الغرب بهذا العنوان هو نفس مفهوم البورجوازيّة الفرديّة للإنسان. فحتى أواخر القرون الوسطى، كان طبيعيّاً أن يأخذ الإنسان بالاعتبار أنّه جزء من المجتمع، ومن نظام العوالم الطبيعيّة وما بعد الطبيعة.
مع أنّه كان يعتبر مفهوم المجتمع بمثابة جسم واحدٍ ولو مجازاً(16)؛ ولكن من وجهة نظر المفكّرين اليونان ومسيحييّ القرون الوسطى هذه، فإنّ هذه الاستعارة تكشف عن حقيقة أساسيّة حول تركيبة العالم وموقع الإنسان. فالعلاقة بين الجسد وأعضائه تدلّ على وجود تنسيق هادف ومريح بين المجتمع وأعضائه جاء من قبل الطبيعة أو الله. ومن هذا المفهوم، نستنبط أنّ كل فرد من المجتمع إذا نُظِر إليه وحده ومستقلّاً عن غيره، يعدّ ناقصاً وغير كامل؛ فالموجودات جميعاً كأعضاء الجسد الواحد وهم بمثابة جزء من كلّ أكبر(17).
وجهة نظر فلاسفة الغرب الأقدمين حول الفرد والمجتمع تساعدنا على أن نميّز أهم خصوصيّة في الفردانيّة الجديدة. فمن وجهة نظر أرسطو، المجتمع بناءً على ماهيّته مقدّم على الفرد، وهذا مبدأ بديهي. أمّا بالنسبة إلى الليبراليّة الجديدة، فإنّ عكس ذلك هو الصّحيح. فالإختلاف الأساس بين هاتين النّظرتين يؤثّر على جميع مناحي الحياة الإنسانيّة. من ماهيّة الإنسان إلى علاقته بالمجتمع؛ فأهدافه الإجتماعيّة وقيمه السياسيّة والسياسة العمليّة هي ما ينبغي متابعته(18). وعلى هذا، وخلافاً لتصوّر بعض المثقّفين، فإنّ الفردانيّة لم تكن فكرة سياسيّة أو حقوقيّة؛ بل إنّ لها جذوراً في النّظرة إلى العالم ومعرفة الوجود عند الغرب الجديد. فثمّة علاقة رئيسة بين الفردانيّة والنّسبيّة وقد قيل: سالفاً إنّ حركة النّهضة فصلت الإنسان عن الطّبيعة، وقامت بالفصل بين القيمة والواقع؛ أي بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. وذلك أنّ هذا التّمييز أعطى العلم مسؤولية الكشف عمّا هو كائن للعلم، ولم يسمح للدّين بالتدخل في هذا الميدان، وخصّص دائرة عمل الدّين في تحديد القيم، ولكن بعد ظهور الفردانيّة ادُّعي أنّه لا يمكن لأيّ قوّة خارجيّة أن تفرض مطالبها الفرديّة وأنّ المعيار الحقيقي الوحيد هو الفرد. فالعصر الجديد الذي فصل الإنسان عن الطبيعة، فصل النّاس بعضهم عن بعض أيضاً.
إنّ النّقطة المهمّة هي أنّ المقصود من (الفرد) هنا ليس النّقاط المشتركة بين النّاس؛ بل نقاط الاختلاف والتّمييز بينهم. وهكذا فإنّ الفردانيّة خطَت الخطوة التّالية في إكمال المذهب الإنسانوي محور ومدار العالم بأسره، فإنّ الفرد هنا مع جميع خصوصيّاته الفرديّة هو المعيار والميزان(19).
والآن، لنر ما هي وجهة نظر روّاد الثّقافة الغربيّة الجديدة من هذا (الفرد) الذي يحظى بهذه المنزلة والمرتبة. ففي البداية يجب الانتباه إلى أنّه منذ القرن السابع عشر للميلاد؛ فإنّ فكرة الفرديّة قد اختلطت مع تعبير (الملكيّة) ويتمّ التّصريح بأنّ حياة الفرد (تخصّه) هو، فحياته ملكٌ له ولا تخصّ الله تعالى والمجتمع والحكومة. ويمكنه أن يتعامل معها كما يشاء. إنّ ملكيّة الفرد تنقسم إلى قسمين أساسيين: الأوّل: قوّة الميول والرّغبات الذّاتيّة التي تفور من الدّاخل، والثّاني: قوّة عقل الإنسان وهي بمنزلة الأداة من أجل تأمين رغبات الإنسان وأهدافه.
ومن هذه النّظرة (فالرغبة الإنسانيّة) لها المكانة الأهمّ. والرّغبات والميول الأساسيّة للإنسان قويّة إلى حدّ يتوجّب على الأخلاق والتّطلعات الاجتماعيّة أن تطابق نفسها مع هذه الرّغبات. وعلى هذا الأساس، فإنّ السياسة والأخلاق عليهما أن يقوما على أساس هذه الرّغبات، وبالتّالي هي أمرٌ واقع لا يقبل التّغيير؛ وقد تأصّلت في طبع البشر وعلى الأخلاق والسياسة أن تُكيّفا نفسيهما معها.
أمّا العنصر الثاني للفردانيّة أيّ العقل، فهنا يُستخدم بمعناه الخاصّ. فمن وجهة نظر مفكّري العصر الحديث مثل هوبز وهيوم وبنتام، فإنّ العقل ليس له القدرة على معرفة الأهداف واختيار الجيّد والسيّئ؛ بل على العكس فإنّ الشهوات والرّغبات والتّمنّيات والنّفور والكره هي التي تعطي الرّجل الحياة وتهيّئ الدّافع اللازم للتّحرّك باتّجاه معيّن. ومع قبول هذه الطّريقة والإنطباع من التّحرّك الإنساني فإنّه يمكن استخدام العقل- وكما يقول هيوم- كعبد للشهوات والتّمنّيات. وفي هذا الإطار، يمكن اعتبار العقل أداة فقط. فلا يمكن للعقل أن يقول لنا إنّ هذا الهدف هو أكثر عقلانيّة من الهدف الآخر. إنّ أيّ هدف أو شيئ مطلوب هو جيّد، لأنّه لهذا السبب مقبول ومطلوب. إنّ عمل العقل هو كيف يُرضي الرّغبات ويُنسّق بينها أو طلب ما يحدّده الآخرون(20). وقد رأينا سابقاً أنّ الغرب الجديد وضع (العقل النّظري) جانباً لصالح التجريبيّة، وهنا نشهد أنّ (العقل العملي)، سوف لن يكون له اعتبار وأنّ كلمة العقل والعقلانيّة تأخذ معنى جديداً. فالعقل بمفهومه الجديد هو الخادم الوحيد وأداة الإنسان في إرضاء ميوله ورغباته. وهذا المعنى من العقل يسمّى (العقل الأداتي) أو عقل المعاش- مقابل العقل النّظري والعقل العملي. وعلى هذا، يمكن استنتاج أنّ الفرد في المفهوم الجديد مكوّن من عنصرين (الرغبة الشخصيّة) و(العقل الأداتي).
الحريّة وحقوق الإنسان
إنّ الفردانيّة، بالمفهوم السّابق، يمكن تعريفها بأنّها قمة فكر الغرب وعصارة النّهضة. لقد صرّح المفكّرون الغربيون بأنّ هذا المفهوم من الفردانيّة لا سابق له في سائر الحضارات؛ بل لم يكن معروفاً لدى الغربيّين القدماء أيضاً؛ بل كان يبدو خاطئاً. وعلى كل حال، فإنّه طبقاً لمفهوم الفردانيّة فقد تشكّلت تدريجيّاً مجموعة من الأفكار السياسيّة والحقوقيّة والاقتصاديّة ورست أسس الحضارة الغربيّة الجديدة. فشعارات كالمساواة والحريّة الفرديّة وحقوق الإنسان وحقّ الملكيّة والتّسامح مأخوذة من الأسس السّابقة والنّتائج المستنبطة من الفردانيّة؛ بحيث لا يمكن معرفة هذه المفاهيم، إلّا في ضوء تلك المبادئ.
ومن هذه الرؤية، وبما أنّه لا يوجد في العالم أيّ حقيقة أخلاقيّة ولا توجد أيّ معايير أو أدوات من أجل التّعرّف على القيم، فإنّ القيم الإنسانيّة لا يمكن تعريفها ووصفها باستثناء الميول الفرديّة؛ إذ ليس من حلّ سوى أن يسير كلّ فردٍ بصورة حرّة وراء ميوله ورغباته، ويجب أن لا يحدّه ويمنعه أيّ شيء سوى حقوق الآخرين. هذه الفكرة هي ذلك الشّيء الذي يعرف (بالليبراليّة). فالليبراليّة بوجهها السياسيّ والإقتصادي والحقوقي هي الوجه الواقعي للغرب في العصر الحديث. ومع أنّ الأيديولوجيّات الأخرى، وقفت تعارضها إلّا أنّ هذه المعارضة لم تقلّص من سيطرة الليبراليّة على روح الحضارة الغربيّة.
وهكذا، فإنّ الليبراليّة تعتبر حريّة الإنسان، هي القيمة العامّة الوحيدة من أجل تأمين غرائزه. وانطلاقاً من ذلك يُطرح السّؤال الأساس؛ وهو إذا لم تكن أيّ قيمة عامّة غير قابلة للتّعريف، فكيف يمكن فهم قيمة الحريّة والحقوق الفرديّة؟
الحريّة وحقوق المرأة
إنّنا لا نريد في هذه العجالة نقد ودراسة الأسس المذكورة والنّظريّات السياسيّة والحقوقيّة المنطلقة منها، مع العلم أنّ أُسس الثّقافة الغربيّة تتعرّض للنقد العنيف؛ إذ إنّ التّناقضات الموجودة في الفكر الليبرالي قد برزت للعيان(21)؛ لكن هدفنا من طرح ما تقدّم هو إبراز الخلفيّة التي طرحت على أساسها قضيّة حقوق المرأة وكيف ساعدت هذه الجذور على إنتاج تلك الثمار. ومن هنا سوف ندرس تطوّرات حقوق المرأة والحركات النّسويّة بصورة مفصّلة في البحث حول الحركة النّسويّة. وسوف نرى أنّ مفكّري الغرب، سوى بعض الحالات الخاصّة، لم يتحدّثوا حتّى نهاية القرن التّاسع عشر عن حقوق المرأة. وعلى هذا، فإنّ السّؤال مطروح بشكل جادّ؛ على الرّغم من جهود الغرب الواضحة من القرن السّابع عشر من أجل استيفاء الحقوق المدنيّة والحرّيّات الفرديّة، فلماذا تعرّضت حقوق المرأة إلى هذا الحدّ من الحيف ولماذا حُرِمَت النّساء حتى القرن الماضي أبسط حقوقهنّ؛ أيّ حقّ التّملك؟ إذا كانت الفردانيّة تؤكّد على غرائز ورغبات كلّ إنسان ولا تميّز بين إنسان وآخر فلماذا نُسيَت المرأة؟ ولماذا فُسّرت الثّقافة الحديثة بصورة علنيّة (الفرد) بأنّه الرّجل وقد وضعت استيفاء تحصيل الرّجال وحدهم نصب عينيها؟
أسئلة من هذا القبيل جعلت الباحثين يقومون بأبحاث أعمق في جذور الحضارة الحديثة للغرب. وقد تمخّضت هذه البحوث عن نتائج جديدة. وتفيد نتائج البحوث هذه أنّ الأسس المذكورة سابقاً والنّتائج المترتّبة عليها يجب أن تخضع للتّحليل على ضوء البرجوازيّة في الغرب(22).
ومثلما اُشير سابقاً، فإنّ هذه المبادئ قبل أن تكون حصيلة العقل والبحث عن الحقيقة من قِبَل المفكّرين الجدد، فإنّها نتيجة احتياجات أفرزتها التّطوّرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة لعصر النّهضة. ويكشف لوسين كولدمان وهو أحد المفكّرين المبشّرين بالفكر التّنويري في العصر الحاضر في كتابة "فلسفة التّنوير" عن هذا الارتباط بصورة جيّدة ويدلّل على أنّ المحوريّة والمساواة والحريّة وحقّ الملكيّة والتّسامح، جميعها مطالب الطبقة الوسطى في المدن؛ حيث أخذت هذه القضايا حيّزاً من تفكير المفكّرين الغربيّين الجدد وأخذت منحى نظريّاً وفلسفيّاً عندهم. ويقول: "من أجل فهم الأفكار التّنويريّة الأساسيّة، على الفرد أن يبدأ التّحليل النّشاطي؛ لأنّه كان مهماً جداً بالنّسبة للبورجوازيّة. وكان له التّأثير الكبير في التّكامل الاجتماعيّ والعقليّ. وهذا النّشاط كان يحتاج إلى النّموّ الاقتصادي وأكثر العناصر حيويّة أيّ (exchange) التّبادل"(23)؛ فالتّبادل الحرّ الذي هو أساس الاقتصاد والتّجارة كان بحاجة إلى تعريف للإنسان الذي يرغب في كسب أكبر قدر من الرّبح والحصول على أكبر قدر من الإمكانيّات الماديّة. ففي هذا التّبادل الحر، يجب أن لا يكون أيّ طرف ومرجع يفوق الفرد أن يتدخّل في المسيرة الطبيعيّة للعرض والطّلب، حتى يتمكّن اقتصاد السّوق من تمهيد الأرضيّة لأعلى قدر من الرّبح والفائدة. كما إنّ مسيرة التّبادل بإمكانها التّحقّق فقط في ظلّ ملكيّة الطرفين وحريّة الفرد المطلقة في البيع أو المعاملات. فالحريّة في العلاقات الاجتماعيّة تُعدّ أحد مستلزمات المجتمع البورجوازي، من أجل تنسيق حركة رأسمال المال.
مع ذلك، فإنّ عدم الاهتمام والاكتراث لحقوق المرأة في عصر التّنوير سببه عدم الحاجة البورجوازيّة إلى قدرات المرأة في مجال الاقتصاد والمجتمع. وسنرى في بحث حقوق المرأة، أنّه حتّى القرن العشرين كلّما كان المفكّرون الغربيّون يتحدّثون عن حقوق (الفرد) كانوا يريدون ويقصدون من ذلك (الرّجل). ولقد اعترفت الحضارة الغربيّة بحقوق المرأة واستجابت لندائها في وقت كانت الرّأسماليّة الغربيّة بحاجة إلى القوى العاملة النّسويّة. ويُشير ويل ديورانت المؤرّخ الأمريكيّ المعاصر إلى أنّه في حدود عام 1900 ميلاديّة كانت المرأة تحصل على حقَها بصعوبة؛ في الوقت الذي كان الرّجل مجبراً بقوّة القانون على احترام حقّ المرأة. ويُضيف: إنّ (حريّة المرأة كانت من نتائج الثورة الصّناعيّة). ويتابع قائلاً:
إنّ الثّورة الصناعيّة أدّت بالدرجة الأولى إلى أن تكون المرأة صناعيّة أيضاً. وهذا لم يكن معلوماً لدى الجميع، ولم يكن يحسب أحدٌ له حساباً. فالنّساء كُنّ يَحصلن على أجور أقل؛ وكان أرباب العمل يفضّلون النّساء على الرّجال الذين يطالبون بأجور أعلى. قبل قرنٍ من الزمان أصبح عثور الرّجل في إنكلترا على عمل أمراً صعباً. ولكن الإعلانات كانت تطلب من الرّجال أن يرسلوا نساءهم وأطفالهم إلى المصانع. وكانت أوّل خطوة من أجل تحرير جدّاتنا قانون عام 1882. وبموجب هذا القانون بدأت النّساء البريطانيّات بالحصول على امتيازات لا سابق لها. وكان بإمكانهنّ الاحتفاظ بالمال الذي يَحصلنَ عليه. لقد سنّ أصحاب المصانع الأعضاء في مجلس العموم البريطانيّ هذا القانون الأخلاقي المسيحيّ، حتّى يتمكّنوا من جرّ النّساء إلى المصانع. ومنذ تلك السّنوات وحتّى ذلك العام، فإنّ الحصول على الرّبح الذي لا يُقاوم قد خلّصهنّ من العمل كعبيد في البيوت؛ ولكن ورّطهنّ في العمل بالطّريقة نفسها، في المحلّات التّجاريّة والمصانع(24).
المصدر:
سبحاني، محمد تقي: شخصيّة المرأة (دراسة في النّموذج الحضاري الإسلامي)، سلسلة الدّراسات الحضاريّة، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، تعريب علي بيضون- شاكر كسراني، بيروت، 2013 م.
الهوامش:
(1) لمزيد من الإطّلاع انظر: خوسيه ارتكاي كاست، إنسان وبحران ترجمة للفارسيّة: أحمد تدين، الفصلين الثامن والتّاسع.
(2) هرمن رندال، سير تكامل عقل نوين، ج 2، ص 135.
(3) المصدر نفسه.
(4) انظر: إنجيل متّى 22: 21.
(5) أصدر قسطنطين عام 313 ميلاديّة وثيقة ميلانو وأعطى للمسيحيين الذين كانوا حتّى ذلك الوقت تحت ضغط الإمبراطوريّة حريّة إقامة المراسم الدينيّة بصورة كاملة. وفي عهد حكومة تيودسيوس المتوفّى عام 395 ميلاديّة صارت المسيحيّة الدّين القانونيّ الوحيد للإمبراطوريّة. (هنري لوكاس، تاريخ تمدن، ج 1، ص 229).
(6) بهاء الدّين بازاركاد، تاريخ فلسفة سياسى، ج 1، ص 248- 242.
(7) لمزيد من الإطّلاع على هذا الموضوع، انظر: دفتر مجامع مفدماتي فرهنكستان علوم إسلامي، حكومت جهانى محور كسترش يا محو انقلاب اسلامى.
(8) من أشهر المفكّرين العقلانيّين ديكارت الفرنسي، ولايب نتز الألماني واسبينوزا الهولنديّ.
(9) من أشهر المفكّرين التّجريبيين في القرن السابع عشر: هوبز، وهيوم، وباركلي، وهم جميعاً من بريطانيا.
(10) لقد اتّبعنا في التّحليل المذكور أعلاه منهج بعض الباحثين ووضعنا التّجريبيّة مقابل العقلانيّة ورأينا أنّ مصير الغرب هو غلبة الأوّل على الثّاني. ولكن بعضاً يعتقد أنّ أسس العقلانيّة النّهضويّة ستنتهي في النّهاية بالتجريبيّة ولا يتوقّع لها مصيراً سوى ما حصل. ومن وجهة نظرهم فإنّه يتوجّب تحليل التّحوّلات الفكريّة للقرن الثامن عشر والتّاسع عشر استمراراً لعقلانيّة القرن السابع عشر. (انظر كنموذج: لوسين كولدمان فلسفة روشنكرى) ترجمة: شيوا كاوياني، ص 50؛ اتين جيلسون، نقد تفكر فلسفي غرب، ترجمة: أحمد احمدي. وكما سنرى في بحث الفرديّة فإنّ التّحليلين لا يختلفان عن بعضهما اختلافاًّ أساسيّاً.
(11) انظر شرحاً مختصراً في الكتاب الآتي: آنتوني آربلاستر، ظهور وسقوط ليبرالسيم غرب، الفصل الثّاني.
(12) المصدر نفسه، ص 22.
(13) لمزيد من الإطلاع انظر: ألسدير مكنتاير، بايان فضيلت، وبخاصّة الفصلين 6 و 7.
(14) لوسين كولدمان، فلسفة روشنكرى،ص 63- 64.
(15) آلن بيرو، معجم العلوم الإجتماعيّة، ترجمة: باقر ساروخاني، ص 170؛ مدخل دائرة معارف العلوم الإجتماعيّة، ص 350.
(16) إشارة إلى الاستعارة التي استخدمها الشّاعر الإيراني سعدي الشّيرازي في شعره: أبناء آدم هم جسد واحد إنّهم في الخلق من جوهرة واحدة.
(17) آنتوني آربلاستر، ظهور وسقوط ليبراليسم غرب، ص 29 و 30. فالمؤلّف من أجل توضيح ادعائه يقوم بمقارنة بين وجهة نظر أرسطو ووجهة نظر مفكّري الغرب الليبراليين ويقول: "إنّ وجهة نظر أرسطو حول أنّ الإنسان قائمٌ بذاته وحده واضح تماماً. ومن وجهة نظره فإنّ الإنسان العاديّ ليس قائماً بذاته فالذي هو قائم بذاته (وليس بحاجة إلى السلطة والدّولة) مثل الله ولا يمكن أن يكون جزءاً من المجتمع. وعلى هذا، فإنّ حكم الفرد لنفسه لا يعتبر أمنية؛ لأنّه لا يمكن تحقيقه وهو أمنية صرفة.
(18) المصدر نفسه، ص 31.
(19) لقد قارن بعضٌ هذه النّظرة الفرديّة للنهضة برأي السوفسطائيين في اليونان القديمة. فشعار السوفسطائيين كان جملة "الإنسان معيار كلّ شيء". (انظر: فريدريك كابلستن، تاريخ فلسفة، ترجمة: مجتبى مينوى، ج 1، ص 126).
(20) آنتوني آبلانستر، ضهور وسقوط ليبراليسم غرب، ص 50- 51.
(21) انظر مثلاً: مايكل ساندل، ليبراليسم ومنتقدان آن، ترجمة: أحمد تدين.
(22) لا نريد من هذا القول: إنّ التّحوّلات الاقتصاديّة هي أساس التّحوّلات الثقافيّة؛ بل إنّ هدفنا هو بيان الإرتباط بين ثقافة الغرب الجديدة والإقتصاد البورجوازي. وفي تحليل أعمق يمكن القول إنّ ظهور الاقتصاد الحديث متأثّر بتغيير في المعتقدات والرّغبات العامّة للمواطنين قبل النّهضة. وعلى سبيل المثال، فإنّ ماكس فيبر أظهر أنّ المذهب البروتستانتي كان له تأثير كبير على ظهور ونموّ الرأسماليّة الجديدة. (انظر: ماكس فيبر، أخلاق البروتستانتيّة وروح الرأسماليّة).
(23) لوسين كولدمان، فلسفة روشنكرى، ص 52.
(24) ويل دورانت، لذات فلسفه، ص 151.
اترك تعليق