مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

زوجة الشهيد عباس كريمي تروي قصة زواجها

زوجة الشهيد عباس كريمي تروي قصة زواجها

في كاشان، العرف السائد أن تذهب الأم بادئ الأمر لطلب يد العروس، ثمّ تصحب ابنها، وبعد ذلك تذهب وبقيّة العائلة. لم أكن أسمح بالحديث عن موضوع خطبتي ابتداءً من الخطوة الأولى، وأحيانًا لم يكن يصل الأمر حتّى إلى المرحلة الأولى، فبمجرّد أن يطرقوا باب منزلنا ويقولوا: "جئنا لأمر الخير".
كنت أجيبهم: "لقد اشتبهتم".
فيقولون: "سمعنا أنّ في هذا البيت فتاة في عمر الزواج".
وكنت أجيبهم: "ما سمعتموه غير صحيح".
فكانوا يتعجبّون ويسألون: "إذن من أنتِ؟".
فأقول لهم: "أنا ابنة جيرانهم".
أحيانًا كان بعضهم يأتي إلى منزلنا مرارًا، ويصرّ على والدتي فكانت تقول له: "صدِّقني لا كلام لديّ، ولكن ابنتي لم تقبل".
حتّى أنّني ما كنت أقبل أن يروني. أنا البنت الوحيدة في البيت مع أربعة أخوة, وربما لهذا السبب لم يكن والدي يجبرني على قبول أيّ واحد من المتقدّمين لخطبتي، وحتّى عندما يكون مقتنعًا بالخاطب، إلّا أنّه كان يحدّثني ويناقشني ليقنعني، ولكن في النهاية كان يرضخ للأمر وينقل "رفضي" للخاطب.
كان والداي يحدّثانني دائمًا ويرغبان في أن أغيّر رأيي، وأرضخ كيفما كان وبأيّ طريقة، إلّا أنّ جوابي كان واحدًا: "ما لم أحصل على شهادة الثانويّة فلا تكلّموني بالأمرِ".
إلّا أنّهما كانا يقومان بما يحلو لهما، فكانا يسمحان للخطيب بالمجيء إلى بيتنا، وفي المقابل كنت أعمل ما يحلو لي وأقوم بالرفض...
لم تكن العائلة لتجاري الحاجَّ عبّاس، هم أصلًا لم يروه حتّى يعرفوه، كان في الجبهة على الدوام، وعندما كان يعود إلى كاشان في إجازة ليوم أو يومين، كان يمضي جُلّ وقته مع الحرس في المدينة.
أصيب بجرحٍ بليغٍ في قدمه خلال عمليّات "والفتح المبين"، وكان هناك احتمال لبترها. لازم المستشفى عدة أيّام، بعدها نقلوه إلى المنزل، وأُجبر على البقاء في المدينة لفترة.
كانت عائلته تقول: "في النهاية لن نجد أفضل من هذه الفرصة".
اتّفقوا على إلهائه عن التفكير بالجبهة بأيّ طريقة، فاقترحت والدته أن تزوّجه.
انتشرت قضية تزويج عبّاس بين أصدقائه أيضًا. وقد تزوج أحدهم في ذلك الوقت، وأثناء عرسه قال لعبّاس: "زوجتي تعرف صديقةً لها، تتحدّث دائمًا عن أخلاقها وسجاياها، وأظنّ أنّها خُلقت لك أنت".
أصرّ على إعطائه عنوان الفتاة، وقال له: "لن تخسر شيئًا. ابعث بوالدتك، لترى ماذا يحصل".
في إحدى الليالي، عندما أعادت والدته طرح موضوع الزواج عليه، تذكّر عبّاس العنوان الذي أخذه من صديقه. أخرج ورقة العنوان من جيبه وأعطى والدته إيّاها. نظرت إليه بدهشة وقالت له: "ما هذا!؟".
أجابها: "هذا ما تريدين".
نظرت إلى الورقة وفهمت الموضوع، فغمرها السرور والغبطة ولم ترغب أن ينقضي ذلك اليوم. وضعت العباءة على رأسها وخرجت قاصدةً العنوان.
نادت إحدى النساء من الجيران: "زهرا، زهرا". كنت في الغرفة، نظرت من النافذة، لأرى ماذا يجري في الخارج، رأيتها تقف مع امرأة لا نعرفها، عرفتُ أنني وقعتُ في أيديهما. فذهبت بسرعة إلى الداخل.
في أوّل الأمر، حاولت أمّي قطع الطريق على والدة عبّاس من البداية، وقالت لها: "سيّدتي، ابنتي عنيدة وصعبة المراس، لا تريد الزواج بأيّ وجه من الوجوه".
ولكنّ والدة عبّاس لم تكن لتقبل بهذه السهولة وتقفل عائدةً، أوعزت إلى إحدى جاراتنا واستعانت بها، حيث أصرّت كثيرًا، وفي نهاية المطاف أدخلتهما أمّي إلى البيت. ما إن دخلتا إلى باحة البيت حتّى نادتني جارتنا، وأحبّت أن تكمل معروفها. ولعلّ والدة عبّاس كانت الوحيدة من اللواتي دخلن بيتنا لخطبتي وحظين برؤيتي. أدخلتهما والدتي إلى غرفة أخرى غير التي كنتُ فيها، ووقفت أسترق السمع. كانت والدة عبّاس تتحدّث عن خصوصيّاتهم وسجايا ابنها، وكانت تتكلّم بطريقة يُفهم منها أنها مرتاحة وفرِحة بي.
وقد فهمت السبب فيما بعد، عندما علمتْ أنّي عنيدة، قالت في نفسها: "هذه ممكن أن تكون مناسبة لعبّاس في الصدّ والممانعة، حتمًا ستقيّده داخل المدينة بنحوٍ ما، وبالتالي لن يستطيع الذهاب إلى الجبهة، أو إنّه سيقلّل من ذهابه بالحدّ الأدنى".
قبل أن تغادرا، قالت والدة عبّاس إنّها ستأتي مرّة ثانية، لتراني. أتت والدتي وقالت لي ذلك، أجبتها: "أبدًا".
كانت مرتاحة كثيرًا إلى حدّ أنّها تركت عنوان بيتها لدينا، وقالت: "عبّاس ابني يعمل في الحرس بكاشان ويمكنك السؤال عنه، والتحقّق من ذلك".
كان عبّاس يفكّر بالحاجّ "أحمد متوسّليان" وبالحاجّ "همت"، وبالذين كانت على عهدتهم مسؤوليّة عمليات "فيلق محمد رسول الله 27" . في ذلك الوقت، كانت أحواله وأيّامه شبيهة بحال طائرٍ مسجون داخل قفص، فإذا تعافت قدمه لن يبقى يومًا واحدًا في كاشان.
كان عبّاس كتومًا جدًا فلا يخبر أحدًا بما يجول في خاطره، حتّى لو كان ذلك الشخص والدته.
عندما رجعت والدته إلى البيت، لم يكن يمنعها شيء من الكلام. انهمكت بالحديث عن أوصاف الفتاة وأحوالها. كان عبّاس ينظر إليها ويستمع في ظاهر الأمر, لكنّ قلبه كان في مكان آخر, فحتّى هذه اللحظة، لم يكن قد أخذ قصة الخطوبة على محمل الجدّ، فمن نظراته تشعر بلا مبالاته. وبقيت هذه اللامبالاة إلى أن ذكرت والدته في طيّات كلامها اسم البنت. ما إن سمع عبّاس اسم البنت "زهرا" حتّى أظهر اهتمامًا بحديث والدته، وسألها بطريقة غير اعتيادية: "ماذا قلتِ ما اسمها؟".
أجابته: "زهراء".
شعر عبّاس، للحظة، أنّ حالة الانقباض التي اجتاحته نتيجة بعده عن الجبهة قد انتهت، وأحسّ أن أبواب السماء المغلقة قد فُتحت أمامه...
أحبّ والدي أن يدخل من الباب الذي يريحني وأطمئنّ إليه، قال: "هو من رجال الحرس القدوة. وكلّ من سألناه لم يكن لديه كلام سوى ما ذكرت".
سكت قليلًا ثمّ أضاف: "في الخلاصة، هو ذلك النموذج الذي تريدينه".
قلت له: "أنا أرتاح لمثل هؤلاء الشباب، لكن ليس بقصد الزواج".
لو كُنتُ أعرف عبّاسا من البداية، لربّما قلتُ نعم منذ اللّحظة الأولى. بعد وقتٍ من شهادته، ذكر رفاقه خواطر عنه، وفهمت أنّها حدثت أوائل الحرب، في كردستان، فكم استنقذ أشخاصًا شديدي المراس من صفوف أعداء الثورة، وأمّا في الأخلاق فقد كان شخصًا مثقلًا بالورع والتقوى.
في المرة الثانية، عندما أتت والدته إلى منزلنا كان عبّاس برفقتها. وقفا أمام الباب، جاءت أمّي إليّ وسألتني: "ماذا نفعل؟".
قلت لها: "لا شيء! قولي لهما أن يرجعا".
قالت: "هذا تصرّف سيّئ يا ابنتي. أتريدين أن تُذهبي ماء وجهنا، هكذا عند الباب وأمام الجيران؟".

أذعنتُ للأمر، ولكن قلت بجدٍّ وإصرار: "تدخل والدته، أمّا هو فلا".
اغتنمت والدتي ما اعتبرته فرصة، وأسرعت إلى الباب. كان هناك بقّالٌ بالقرب من بيتنا. فيما بعد عبّاس قال لي: "في ذلك اليوم كان البقال جالسًا، أمام دكّانه، وعندما رجعت عن الباب كان ينظر إليّ بحيث اعتراني حينها، الكثير من الخجل والحياء. وكنت أقول في نفسي: صبرًا، فيما بعد حسابك عندي".
في ذلك الوقت، كنت فعلًا على تلك الحال، ولم أعتبر ذلك عيبًا البتّة! حتّى عندما وافقت في الجلسة التالية على مجيء عبّاس ووالده، كنت أقول في نفسي: "ما دمتُ لن أوافق فلأدعهم يشعرون بالارتياح".

جاؤوا وكان الوقت ليلًا وجلبوا معهم علبة حلوى. دخلت إلى الغرفة حتّى لا أُغضب والدي وجلست معهم قليلًا، وكان قصدي هو ما ذكرته.
في تلك الدقائق قام والدي وقدّم للضيوف الحلوى. عندما وصل إلى عبّاس امتنع عن تناول شيء من الضيافة. ألّحّ عليه أكثر من مرّة ، لكن عندما وجد أنّ عبّاسًا لا يستجيب، سأله: "أتحبّ المجاملة؟".

أجاب عبّاس بثقة تامّة وبمحبّة: "لا أبدًا، لا أجامل وهذا بيتي!".
قلت في نفسي: "حسنًا، لمّا يدخل البيت بعد، وأصبح البيت بيته".
في تلك الليلة، كانت نظرة عبّاس إليّ مختلفة عن نظرتي إليه، فقد بدا بوضوحٍ أنّه مرتاح ومطمئنّ، أمّا أنا فلم أكن أصلًا أشعر بشيءٍ من الارتياح, ولذلك خرجت من الغرفة بسرعة...
أصبحت مرّة أخرى في مواجهة أبي، قال: "إذا كان لديك مشكلة ما، أمر ما، حسنًا قولي، تكلّمي وأخبريني حتّى أفهم".
أجبته: "أنا لا أريد الزواج أصلاً".
قال لي: "إنّه شابّ جيّد، وما تريدينه موجود لديه". وأضاف: "أظنّ أنّه لم يتسنّ لك رؤية عبّاس بشكل جيّد. ما رأيك لو آخذك إلى مكانٍ آخر وترينه بشكل أوضح؟".
وقد أكثر والدي من الحديث والنصيحة إلى حدّ جعلني في النهاية أوافق على رؤيته مرّة أخرى. ولكنّي لم أرد اللقاء به وجهًا لوجه. ووافقني أبي على ذلك أيضًا، واقترح أن يكون اللقاء في الدكان، حيث كان لدينا محلّ لبيع الحقائب.
إلى خلف مكان عرض الحقائب، حيث تتدلّى بطريقة تريحني بالوقوف خلفها، حضر عبّاس في الوقت المعلوم. استقبله أبي ورحّب به بحرارة وسأله عن أحواله، ثمّ أجلسه على كرسيّ في الجهة المقابلة لي تمامًا. شاهدته جيدًا من بين الفرجات التي بين الحقائب المتدليّة.
فيما بعد قال لي عبّاس: "حين جئتِ إلى الدكّان. من الواضح أنّها كانت خطة، وهي من تدبيرك".
وكان يقول: "منذ البداية عرفت أين تجلسين وكنت تنظرين إليّ".
طلبت من والدي أن يحدّثه بشكلٍ صريح حول دراستي، وأن يأخذ منه كلامًا قاطعًا، ويضع عليه شرطًا أن لا يمنعني من متابعة الدراسة.
لقد أخبروه عنّي وعن عنادي ولكنّه لم يهتمّ، وكان يقول: "توكّلت على الله. وكأنّه قد أُلهِم إليّ أن أقوم بهذه المصاهرة".
ولهذا السبب لم يكن ليتكلّف كثيرًا أو ليبذل جهدًا إضافيًّا. بعض النّاس توقّعوا أنّه بعد الزواج، سيؤدّي وجودي معه إلى التقليل من ذهابه إلى الجبهة, إلّا أنّ عبّاسا كان يقول وبضرسٍ  قاطع: "ما دامت هناك حرب ولديّ القدرة الاستطاعة، فلن أتوقّف عن الذهاب إلى الجبهة".
بالمناسبة، أنا أيضًا كنت أتوقّع منه ذلك، وكنت مسرورة، لأنّه يفكّر بهذه الطريقة.
في ذلك اليوم، عندما تحدّث والدي معه حول الدراسة، وشرطي بعدم ترك التحصيل العلمي، كنت أترقّب ردّه بحساسيّة. وقد كنت سمعت أنّ الكثير من الرجال، في بداية الأمر، يقبلون أيّ شرط وعندما يتمّ لهم الأمر ينسون كلّ شيء. كنت قد حضّرت نفسي, لكي أسمع جوابه أنّه بإمكاني متابعة درسها، ولكنّه قال:
"لا مشكلة في الدراسة ما دامت لا تضرّ بحياتنا"...
لعلّكم قد واجهتم مثل هذا الأمر، فأحيانًا قد يظهر أنّكم لا تقبلون أمرًا ما بسهولة، وبدايته تكون صعبة جدًّا، لكنّ النهاية تكون مختلفة تمامًا من خلال سماع كلمة صادقة، أو عند رؤية حدثٍ بسيط...
فصِدق عبّاس، في تلك اللحظات، نقلني من ضفّة إلى ضفّة أخرى. فكلامه أثّر في قلبي كثيرًا. في ذلك اليوم، ولكي يكون قراري محكمًا، استخرت الله فجاءت الآية: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
مع هذه الآية لم يعد من مجال للرفض. حتّى لا أنسى، هناك نكتة أساسيّة في الآية، وبالطبع هي مرتبطة أكثر بعبّاس وروحيّته، وقد أدركتها -فيما بعد- من عبّاس نفسه، فبناءً على فئة من الروايات واستنادًا إلى التفاسير، فإنّ الوجود المقدّس للسيِّدة فاطمة الزهراء عليها السلام هو محور هذه الآية.

ففي مراسم الخطبة ، عندما كان الحديث حول المهر وما شابه، قال عبّاس براحةٍ تامّة، كما في المرّات السابقة: "لا شيء لديَّ غير التوكّل على الله تعالى".
حتّى البارحة لم أكن قد حسمت أمري في الزواج, أمّا الآن فينبغي أن أبحث الأمر وأنهيه جديًّا مع أهلي، وعلى الأقلّ ينبغي أن أرضيهما. كان المهر في المحصلة 16000 تومان. في البداية عرض أبي أن يكون لي حصّة في بيت، وكان يعنيه كثيرًا أن أذهب إلى بيتي. لكنّ عائلة عبّاس قالت: "الآن لا نستطيع".
قال أبي: "قدّموا شيئًا، ليتمكّنا من شراء بيت فيما بعد إن شاء الله".
في 12/ تشرين الأول/ 1982 هـ.ش ذهبنا لشراء لوازم الخطبة. اشترت والدة عبّاس عقدًا، قدّمه عبّاس إليّ ليلة العقد هديّة. وأنا اشتريت له هديّة ساعة. فغدًا سيقيمون مراسم خطبة العقد في بيتنا. كانت مراسم العقد بهذه البساطة التي توقّعتها. دعونا أقرباءنا من الدرجة الأولى وبعض أقرباء الدرجة الثانية. ومن ثمّ شيئًا فشيئًا عرف الكثير من الجيران والمعارف بزواجنا.
في تلك الليلة ارتديت ثوبًا أبيض اللون، استعرته من زوجة أخي. وارتدى عبّاس بنطالًا وقميصًا عاديّين، وقد أرخى القميص فوق البنطال.
بعد إجراء العقد، أوصل عبّاس والديه إلى البيت، ثمّ رجع إلى بيتنا.
صباح اليوم التالي ذهبنا إلى "دار السلام" وهي روضة شهداء كاشان. كان يعرف الكثير من الشهداء.
وذكر لي خواطر عنهم. كنت قد سمعت الكثير عن الحرب والإخوة في المعارك، إلّا أنّ حديث عبّاس كان شيئًا آخر، وبدا شيئًا جديدًا وغضًّا. أساسًا، تغيّر كلّ شيءٍ في حياتي من لحظة إيقاع عقد الزواج، وأصبح له طعمٌ آخر. وامتلأ قلبي في تلك السويعات القليلة بكلّ محبّة وعشق، يمكن لامرأة أن تكنّهما لزوجها.
في ذلك اليوم، وقبل أن نذهب إلى دار السلام، تحدّثنا في البيت ما يقرب من ساعة. تكلّمنا كثيرًا. وقد سألته: "ما نوع المرأة التي تحبّ أن تكون شريكتك في الحياة؟".
أجاب: "كنت دائمًا أسال الله أن يجعل نصيبي امرأةً، تستطيع أن تعيش معي حياة متواضعة جدًّا".
سألته: "وكيف ترى الحياة المتواضعة؟".
أجاب: "تكون متواضعة بالاكتفاء بأدنى وسائل العيش، قدح وملعقتين وطنجرة".
ابتسمتُ. استقرّ في مكانه وسألني: "لماذا ابتسمتِ؟".
قلت: "لأنّه لديّ نفس الرؤية التي لديك".
سأل: "كيف ذلك؟".
أجبته: "قليلًا ما كنت أفكّر بالزواج، لكن في الحين التي كنت أفكر فيه، كنت أطلب من الله تعالى أن يرزقني إنسانًا لديه الأخلاق والإيمان, وكنت أحدّث نفسي أنّه إذا ما حصل ذلك، فسأكون منسجمة معه مهما كانت ظروف حياتنا، حتّى لو لم يكن لدينا سوى بضعة أوانٍ، ملعقتين وقدح وطنجرة".

وعلمت حينها، أنّه ذلك الشخص الذي تمنيتُ أن يكون من نصيبي. وكانت كلماته تلك لافتة جدًّا بالنسبة إليّ: "ملعقتان وقدح وطنجرة"، لأنّي كنت فيما سبق أحدّث نفسي بهذه الكلمات نفسها، حيث كانت لديّ هذه العقيدة ذاتها.
اليوم الأوّل من حياتنا الزوجيّة، لم يكن أكثر من نصف نهار، فقد ذهب إلى طهران قرابة الظهر، ورجع إلى البيت بعد أسبوع، بقي يومًا واحدًا، ثمّ عاد وذهب أسبوعين، ثمّ ذهب ثلاثة أسابيع، وهكذا.
واستمرّ على هذه الحال حتّى شهر آذار. وكان يطول غيابه أحيانًا شهر أو أكثر. ولكنّ بقاءه معي لم يكن ليصل إلى أكثر من يومين.
في كثير من الأوقات التي كان ينوي فيها البقاء ليوم، كانت تتحوّل إلى نصف نهار. حتمًا كان لديه عمل في مثل تلك الأوقات. وحتّى لو لم يكن لديه عمل، لم يكن يبقى أكثر من يوم.

كان دومًا يخبرنا بقدومه. لم يكن في بيتنا هاتف، فكان يتّصل بوالدته، وكانت هي من تخبرني بقدومه. عندما كان يأتي، كان يذهب لرؤية أمّه، ومن ثمّ يأتي لرؤيتي.

لم أكن أعرف طبيعة المهمّة التي كان مضطلعًا بها، ولكن الذي كنت أعلمه أنّها كانت خطيرة وكبيرة.

عندما كان يأتي إلى كاشان لرؤيتي, كلّما سنحت له الفرصة، كنت أشعر أنّني مدينة له كثيرًا. وقد كانت أخلاقه أيضًا بنحوٍ زاد من إحساسي بهذه المديونيّة.

عندما ذهب في المرّة الثانية، استمرّ غيابه أسبوعين أو ثلاثة. ولمّا عاد طأطأ رأسه قائلًا:
"المعذرة".
 
كان يبدو من مظهره أنّه كان يقولها من صميم قلبه. أصابني الهلع وسألت:
"مِمَّ تعتذر؟".

قال: "لأنّني تركتك وحيدةً طوال هذه المدّة".

كان هذا دأبه مع والديّ. وكان يعتذر منهما, لأنّه لا يستطيع زيارة ابنتهما كثيرًا، وهما أيضًا أصبحا مولَعين بعبّاس بقدر ما كنت مولعةً به. وقد ازداد حبّهما وتعلّقهما به جرّاء هذا السلوك الذي كانا يشاهدانه منه.

وكأنّ هذا الأدب والتواضع أصبح جزءًا من شخصيّته. ذات مرّة وبينما كنّا خارجين معًا، كنّا نفتّش في أحد الشوارع عن عنوان أحدهم. قلت له:
"اسأل أولئك الصبيَة".

فقال فورًا: "ماذا؟".

تعجّبت، فقد كانت عبارتي واضحةً، لا لبس فيها. قلت:
"ألا تريد أن تهتدي إلى العنوان؟".

قال: "نعم".
قلت: "حسنًا، اسأل أولئك الصبية".

قال: "هؤلاء ليسوا صبية، هم يعتبرون أنفسهم رجالًا, لو تعلمين ماذا يفعل في الجبهة من هم في مثل سنّ هؤلاء".

بعدها، وباحترامٍ فائق، نادى تلك المجموعة نفسها التي وصفتها بالصبية، وسألهم عن العنوان.
 
كثير من أقربائنا لم يحضروا عقد قراننا. ولم يكن عبّاس قد رآهم قبلًا أو تعرّف إليهم. في بعض الأوقات، حين كنّا نخرج بالسيّارة، وأرى بعض الأقرباء في الطريق، كنت أقول لعبّاس:
"هذا صهر عمّي" كان يوقف السيّارة فورًا، يترجّل منها، يتقدّم ويسلّم عليه باحترام، ويسأله عن أحواله.

على أيّ حال، شكّلت قلّة إجازات عبّاس بالنسبة إليّ معضلةً رئيسة. كنت أودّ حلّ هذه المعضلة بأيّ طريقةٍ كانت.

لا أذكر تمامًا كم كان مضى على زواجنا حينما طرحت أمام العائلة، موضوع ذهابي مع عبّاس إلى المناطق الحدوديّة  والعيش هناك، وأذكر جيّدًا أنّ أبي كان يعارض هذا الموضوع بشدّة. كان يقول: "الحياة في المناطق الحدوديّة صعبة جدًّا، خاصّةً بالنسبة إلى الغرباء. وأنا لا احتمل أن تعيش ابنتي مثل هذه الصعاب".
ولكنّي حيث كنت أودّ من كلّ قلبي أن أقضي مع عبّاس أوقاتٍ أكثر، لم أعد أفكّر بالصعاب وأمثالها. وعلى الرغم من معارضة والدي لذهابي، صمّمت على الذهاب, إلّا أنّني كنت أعلم أنّ الأمر في النهاية يعود إلى عبّاس. كان عبّاس أيضًا، يودّ أخذي معه إلى هناك. كنت أظنّ أنّه ما من مشكلة أمامنا، لكن عندما علم عبّاس بعدم موافقة والدي، قال: "فلننتظر ريثما يوافق".
صبرنا إلى شهر بهمن من تلك السنة. وكنت أطرح موضوع ذهابي، من وقت لآخر. ذات مرّة، ولعلّه من أجل أن يحلّ هذه المسألة نهائيًّا، قال أخي: "تعلمين يا زهراء أنّ أبي يتحسّس جدًّا من أمر ذهابك ، فلماذا تصرّين كلّ هذا الإصرار؟".
بعدها طلب منّي بنحوٍ حاسم أن أبقى في كاشان، وأن أتابع حياتي كما في الأشهر الماضية.
قلت: "أبقى يا أخي، ولكن بشرط".
قال: "ما هو؟".
قلت: "إذا ضمنت وأبي أنّ عبّاسًا سوف يعود حيًّا بعد كلّ ذهاب له إلى الجبهة، فسوف أبقى في كاشان عشر سنوات بالنحو الذي تقولون".
كان هذا الدليل وهذا الشرط كالماء الذي أخمد النار، فلم يعد أمامهما من شيء ليقولاه.
في أوّل مكالمة هاتفيّة، أخبرت عبّاسًا بالأمر. شكر الله، وقال: "إذن، سأهيّئ بيتًا في هذه الناحية، واستعدّي أنت للمجيء ما أمكن لك ذلك".
 

_____________________________
الإسم: عبّاس كريمي.
تاريخ الولادة: 1958م - محافظة كاشان.
تاريخ الشهادة: آذار 1985 م.



المصدر: هاجر تنتظر، تأليف: سعيد عاكف، أصغر فاكور: مركز نون للتأليف والترجمة، جمعية المعارف الإسلاميّة الثقافية، الطبعة: 2014م – 1435هـ.

التعليقات (0)

اترك تعليق