صغيري المدلل...
كان كل شيء يشبهُ ذلك الزمن بكل تفاصيله، ما عدا شيئ واحد فقط.. إنها تبكي وهو ساكتٌ بهدوء.. دخلت، وهبّت ريحٌ من بئر الذكريات لتلفح وجودها.. شعرت بالبرودة تسري في أوصالها، وكأنها البرودة ذاتها في غرفة الولادة حينما وضعته.. فتناهى إلى سمعها صوته لأول مرة.. صرخته الأولى، ومن ثم شرع بالبكاء.. ذلك البكاء الذي ملأ حياتها ضجيجاً مؤنساً.. وسرعان ما سكتْ وقد أخذته الممرضة لتلفه بما يدفئه من برد عالمه الجديد، ولتعطيه لوالده فيؤذّن في أذنه..
حينما رأته أول مرة كان صغيراً جداً لدرجة أنها تحيّرت كيف تحمله، وخافت عليه حتى من أصابعها.. ولمّا ضمته إلى صدرها كانت عيناه المغمضتان اللتان تعلوهما غشاوة، غارقتين في انتفاخات وجهه الذي لم يهدأ بعدُ من مخاض القدوم العسير.. أما الآن... فهو أكثر سكوناً وهدوءاً.. حتى أن ملامح وجهه مرسومة بريشة من سكينة.
جلستْ بالقرب منه.. عشرون سنة مرّت، تحسها الآن كرفة جفنٍ.. وكأن كل عذابات أيامها تبخرت أمام بريق عينيه المطفأتين.. مدت يدها إلى لحيته ولامست أصابعها عينيه.. ليته يرمقها بنظرة أخيرة تتزود منهما ما يعينها على ما تبقى من حياة..
عشرون سنة.. وصار حسن شاباً جميل الطلعة.. ولكنه يبقى في ناظريها "حسونة" الصغير المدلل..
عشرون سنة.. تخرّج فيها حسن من هذه الحياة بطلاً.. ويكفيها ذلك..
اتكأت برأسها على رأسه؛ علّها تسمع منه حرفاً.. علّه يخبرها كيف خاض غمار تلك الحرب.. كيف صار بلحظة علي الأكبر، والقاسم، والعباس، دفاعاً عن السيدة زينب.. ولكن! هيهات... فإنها إن أرادت أن تسمع صوت حسن فستسمعه في قلبها فحسب..
اقترب منها أحدهم قائلاً: لقد حان الوقت.. ونحنُ نستأذنك بالخروج..
رفعت نظرها ناحيته: ولمَ؟ أنا أمه.. أنا أول من حمله.. وأنا أول من غسل له.. وأنا أول من ألبسه ثيابه.. وأنا سأكون آخر من يغسله.. وسأعقد أطراف ثوبه الجديد.. لتكون كل عقدة فيه، مربوطة بروحي.. إنه صغيري المدلل (حسونة)..
أمسكت بيد حسن وشدّت عليها: ليساعدني أحدكم..
بقيتْ معه.. كانت أصوات ضحكاته الطفولية البريئة تتناهى إلى سمعها، وهي تلاحقه برذاذ الماء.. تذكرت قدميه الصغيرتين اللتين كانت تنتبه كثيراً وهي تفركهما له خوفاً من جروح اللعب.. الآن.. هي تداري آثار الرصاص..
كانت برودة الماء تتسللُ إلى روحها.. كل شيء كان بارداً في تلك الغرفة ما عدا دموعها.. فسخونتها لسعت وجنتيها حتى خشيتْ إن سقطت دمعة على جسد ولدها أن تحرقه.
فاحت رائحة الكافور.. وجلبت الثوب الأبيض لتلبسه إياه.. لفته جيداً وجلست تتأملُ وجهه.. إنه يغفو. ولا داعي لأن تحدو له..
خرجت من الغرفة ونظرت إليهم قائلة: لقد جهّزت لكم البطل..
مشتْ في مقدمة التشييع تحملُ الراية التي استشهد ابنها من أجل أن تظلّ مرفوعة.. وهي تصرخ: لبيك يا زينب..
---------------------------------------------
قصة والدة الشهيد حسن خليل ملك (ساجد)، مواليد بيت ليف 01/06/1993، استشهد أثناء دفاعه عن المقدسات بتاريخ 09/06/2013.
نسرين إدريس قازان
المصدر: موقع إرث الشهادة.
حينما رأته أول مرة كان صغيراً جداً لدرجة أنها تحيّرت كيف تحمله، وخافت عليه حتى من أصابعها.. ولمّا ضمته إلى صدرها كانت عيناه المغمضتان اللتان تعلوهما غشاوة، غارقتين في انتفاخات وجهه الذي لم يهدأ بعدُ من مخاض القدوم العسير.. أما الآن... فهو أكثر سكوناً وهدوءاً.. حتى أن ملامح وجهه مرسومة بريشة من سكينة.
جلستْ بالقرب منه.. عشرون سنة مرّت، تحسها الآن كرفة جفنٍ.. وكأن كل عذابات أيامها تبخرت أمام بريق عينيه المطفأتين.. مدت يدها إلى لحيته ولامست أصابعها عينيه.. ليته يرمقها بنظرة أخيرة تتزود منهما ما يعينها على ما تبقى من حياة..
عشرون سنة.. وصار حسن شاباً جميل الطلعة.. ولكنه يبقى في ناظريها "حسونة" الصغير المدلل..
عشرون سنة.. تخرّج فيها حسن من هذه الحياة بطلاً.. ويكفيها ذلك..
اتكأت برأسها على رأسه؛ علّها تسمع منه حرفاً.. علّه يخبرها كيف خاض غمار تلك الحرب.. كيف صار بلحظة علي الأكبر، والقاسم، والعباس، دفاعاً عن السيدة زينب.. ولكن! هيهات... فإنها إن أرادت أن تسمع صوت حسن فستسمعه في قلبها فحسب..
اقترب منها أحدهم قائلاً: لقد حان الوقت.. ونحنُ نستأذنك بالخروج..
رفعت نظرها ناحيته: ولمَ؟ أنا أمه.. أنا أول من حمله.. وأنا أول من غسل له.. وأنا أول من ألبسه ثيابه.. وأنا سأكون آخر من يغسله.. وسأعقد أطراف ثوبه الجديد.. لتكون كل عقدة فيه، مربوطة بروحي.. إنه صغيري المدلل (حسونة)..
أمسكت بيد حسن وشدّت عليها: ليساعدني أحدكم..
بقيتْ معه.. كانت أصوات ضحكاته الطفولية البريئة تتناهى إلى سمعها، وهي تلاحقه برذاذ الماء.. تذكرت قدميه الصغيرتين اللتين كانت تنتبه كثيراً وهي تفركهما له خوفاً من جروح اللعب.. الآن.. هي تداري آثار الرصاص..
كانت برودة الماء تتسللُ إلى روحها.. كل شيء كان بارداً في تلك الغرفة ما عدا دموعها.. فسخونتها لسعت وجنتيها حتى خشيتْ إن سقطت دمعة على جسد ولدها أن تحرقه.
فاحت رائحة الكافور.. وجلبت الثوب الأبيض لتلبسه إياه.. لفته جيداً وجلست تتأملُ وجهه.. إنه يغفو. ولا داعي لأن تحدو له..
خرجت من الغرفة ونظرت إليهم قائلة: لقد جهّزت لكم البطل..
مشتْ في مقدمة التشييع تحملُ الراية التي استشهد ابنها من أجل أن تظلّ مرفوعة.. وهي تصرخ: لبيك يا زينب..
---------------------------------------------
قصة والدة الشهيد حسن خليل ملك (ساجد)، مواليد بيت ليف 01/06/1993، استشهد أثناء دفاعه عن المقدسات بتاريخ 09/06/2013.
نسرين إدريس قازان
المصدر: موقع إرث الشهادة.
اترك تعليق