مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

اليوم عرسه

اليوم عرسه

وقفتْ على الشرفة تنظرُ إليه آتياً من بعيد، وكأنه ظلٌّ يدفعه الهواء المتمرد على أغصان نيسان المزهرة.. وصل إليها، وكان وجهه كالسماء المكفهرة، تحوم في جبهته غيوم غاضبة تحملُ من البروق والرعود والمطر ما تحمل، نظرَتْ إلى عينيه اللتين فضح احمرارهما كم عصرتا من دمعٍ فوق جثمان الشهيد محمد العبيد الذي كتب على كفنه" يا مهدي"، وقد سمعته وهو يحمل الجثمان على كتفه كيف صرخ "الله معك يا شهيد.. الله معك يا خيي.. أنا لاحقك مش مطوّل.."
أخذَتْ بيده، في محاولة لتهدئة روّعه، وجلسا معاً في الشرفة. كان نيسانُ قد تجلببَ بثوب الشتاء، تاركاً زهر الربيع لحبّات المطر تقطفه عن أفنانه، نظر مهدي إلى منزله، وتبسّم ابتسامة ذابلة، قطفت روح أمه التي اعتصر قلبها، فبادرت إلى قول: إذاً حسمتَ أن يكون يوم ولادة السيدة الزهراء عليها السلام يوم زفافك يا مهدي؟
نظر إليها بحنوّ وقد عرف ما ترمي إليه، فهي تدركُ عمق البئر الذي سقطَ فيها الآن، وتحاول أن تنتشلهُ من برودته، فردّ عليها: هذا البيتُ الذي بنيته لأتزوج، اسكنيه أنتِ، فأنت ساعدتني كثيراً في بنائه"، لم تنتظرْ منه هكذا ردّ، فبعد ستُّ سنوات من الخطوبة، من التعبِ والانتظار، تحلمُ أن تزغّرد في عرسه، فأجابته: "هذا بيتك.. وأنا أريد أن أفرح بك عريساً، ستمتلئ الباحة أمام البيت بالمدعوين وستعلو الزغاريد".. ولكن مهدي الذي رمى ببصره مكاناً لم تدركه عيني أمه، قال بصوت رخيم "يا أمي، أنا أريدُ بيتاً في الجنة، وزوجة في الجنة، بالقرب من محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله". ونظر إليها مبتسماً وقد أخذتها الدهشةُ من قوله، ثم قام وبحث بين أغراضه وأخرج شيئاً ما مدّه إليها "خذي ظرف القهوة هذا من يد شهيد، وتذكريني".. أخذ بيدها وراح يقبلها إصبعاً إصبعا، ثم انحنى إلى قدميها، فأخذته بين ذراعيها، وتذكرته طفلاً صغيراً في القماط كيف كانت تحملُ قدميه الصغيرتين وتوسعهما تقبيلاً. نظرت إليه، وسارعت إلى الارتماء عند قدميه، فرفعها قائلاً: " أماه.. هكذا تحمليني ما لا أقوَ عليه من الخطايا".. فردّت عليه " لا يا ولدي.. أنت جدك رسول الله صلى الله عليه وآله، فيحق لي تقبيل قدميك.."
ركع على ركبتيه ونظر في عينيها الدامعتين، أمسك بكتفيها وضمها إليه بحنان: " أدعِ لي.. ولكن بشرط أن لا تقولي يا راد يوسف إلى يعقوب ردّ إلى ولدي.. بل تمني لي الشهادة وتأكدي أن السيدة زينب عليها السلام ستواسيك وتصبّرك، وتذكري مصابها الجليل وسبيها وأسرها، لذا أطلبي منها الصبر.."
عندما وضع مهدي ثيابه العسكرية في الحقيبة، استغربت.. فقد أخذ الثياب الجديدة، ولمّا سألته عن سبب ذلك أجابها: "أريد أن أقابل ربي بثياب جديدة"، وقف في الشرفة ونظر إليها مبتسماً، وأشار بيده إلى مكان قرب البيت، وقال لها: ليكن في هذا المكان من روضة الشهداء قبري، وأريد منك كل صباح أن تشربي القهوة على الشرفة وتنظري إليه"..
شعرت أمه بأن البرق والرعد ضربا قلبها المتصدع ألماً، ولم تعرف حين غادرها مهدي إلى عمله، هل هو الذي ذهب أم أن روحه غادرت إلى غير رجعة..
كانت تريدُ أن تفرح به، وهذا حقُ كل أمٍ.. فكيف بمن انتظرتْ ستُ سنوات؟ ضجّت الباحة أمام المنزل بالناس، وأطلقت بعض النسوة الزغاريد، كان ذلك النهار، يوم ولادة السيدة الزهراء عليها السلام، اليوم الذي حدده مهدي موعداً لزفافه، يومها رنَّ هاتف والد مهدي، وجاء صوتٌ ممزوجٌ بفرحة وبشرى، قال: السلام عليكم يا حاج، أريد أن أبشرّك لقد استلمتُ أثاث منزل مهدي، فمن سيستلمه مني؟ "..
ردّ الأبُ وضجيج الناس حوله يعلو: أعطِ الأثاث لمن يستحقه.. مهدي لم يعد بحاجة إليه.. اليوم عرسه"..
ارتبك الرجل، وسأل: ولكن كيف يا حاج؟! لم أفهم!
أجابه : زوجناه اليوم بحور العين...
كان ذلك بعد عشرة أيام من استشهاد الشهيد محمد العبيد، قام مهدي بزيارة مقام السيدة زينب عليه السلام، وقال لرفاقه: "أنا سأزيّن الحارة، وسأكون أول شهيد فيها.."
كان كل شيء يشي بأن مهدي سيرتفع شهيداً.. ضحكته.. كلماته.. حتى عندما غفتْ عينه استيقظ وهو يصرخ "لبيك يا زينب..".. حينها كان صوت الرصاص والقذائف يشتدُّ.. ركض حاملاً سلاحه فناداه رفيقه: "سيّد مسلم.."، التفت مهدي ناحيته، فمد له رفيقه زجاجة ماء ليشرب. نظر مهدي إلى الماء، وقال لرفيقه: لا.. إذا رجعتُ من المعركة أشرب، وإذا لم أعد، فأكون قد رزقت الشهادة عطشاناً كمولاي الإمام الحسين عليه السلام.."
لم يرجع مهدي.. كانت روحه تترك الجسد البالي ولسانه يعيد: يا زهراء.. يا زينب.. يا حسين..
تشرق الشمسُ كل صباح على وجهٍ صار قبلته قبرٌ.. يتعرّش الحنين إليه على الجدران.. ومطر نيسان علق على أطراف الأغصان.. لن يحرقه حر صيف.. ولن ييبس إذا ما داهمه الخريف.. لأنه فصلٌ لن يتكرر مرتين.. إنه فصل عشاق الشهادة..
 
----------------------------
قصة الشهيد مهدي محمد ناصر (السيد مسلم)، مواليد08/09/1988، استشهد أثناء دفاعه عن المقدسات بتاريخ 29/04/2013.
نسرين إدريس قازان


المصدر: إرث الشهادة.

التعليقات (0)

اترك تعليق