مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

الباب لم يقفل بعد(6)

الباب لم يقفل بعد(6)

الاثنين 14 آب 2006 ألمانيا
... بزغ فجر ذلك اليوم، استيقظ الجميع على صوت الحاج محسن: نصراً مباركاً، الحمد لله على سلامتكم وقبّلهم واحداً واحداً، وناداهم "إلى الصلاة يا عباد الله".
استيقظ الجميع على صوته الذي افتقدوه لثلاثة وثلاثين يوماً.
بعد فراغهم من إقامة الصلاة، جلسوا جميعاً حول جهاز المذياع يستمعون الأخبار إلا الحاج،فقد قام يجمع فراشه وأغراضه، حمل قرآنه، وقال لهم أنا عائد إلى البيت، من يريد أن يرافقني؟
إتجه صوب الباب تبعته الحاجة فقالت لها مروة: انتظرا نصف ساعة ويدخل القرار حيّز التنفيذ.
لم يرجعوا ودّعاهم وانطلقا. ثم تبعهما الأولاد مسرعين. وصلوا إلى البيت، الباب الخارجي مفتوح، تراجع الحاج عن الباب خطوة، سجد سجدة شكر لله.
خنقته العبرة، قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل". وتوجه نحو والدته، خاطب روحها: ها نحن عدنا إلى بيتك يا أمي، عدنا يا أماه لم نقفله ولم أحمل مفتاحه. ثم خطا داخلاً المنزل.
تقدمت أمامه الحاجة لتنظف له مكاناً يجلس فيه، أما هو فتوجه نحو الصالة التي كانت آخر ما يلقي عليه نظرة الوداع. تمتم ربِّ ساعدني لأعيد ترميمها بحق دم الحسين الشهيد عليه السلام.
جال في المكان قليلاً ثم، تحوّل وطلب من الحاجة أن تترك تنظيف الدار له، فدخلت مع من عدن معها ليعملن في الداخل فالمنزل منكوب.
بدأت الحاجة الإشارة إلى الصبايا بكيفية بدئهنّ بالعمل، فقالت لها كنّتها: قبل أن نبدأ أريد أن أسألك: لماذا تذكر عمي والدته، وهل تعرفين سبب ما قاله؟
"يا ابنتي ما قاله كان سبب رفضه الخروج من المنزل وعدم إقفال الباب عندما لجأنا إلى منزل أهلي".
أفصحي أكثر أرجوك لم أفهم.
نشأ عمك يتيم الأب إذ توفي والده وكان له من العمر خمس سنوات، تعهده جده لأمه"الحاج محسن الجوهري" بالرعاية إلى جانب والدته، التي عاكستها الظروف وقهرتها. وعندما كبر الأولاد أي عمك وأخواته الحاجة أم علي، والحاجة أم حسان، وهبها والدها قطعة أرض بنت عليها بيتاً صغيراً كان اللبنة الأولى لما نسكنه اليوم، فقد كانت تسمى هذه المنطقة كروم بعلبك، سميت بعد ذلك بحي الشيخ حبيب آل إبراهيم وهو عالم جليل قدم من جبل عامل وسكن الحي، والمنزل الذي يسكنه أولاده اليوم لا زال هو نفسه، وأشارت إلى المنزل الذي يقابل منزلهم تماماً خلف المسجد. إذ نشأ عمك وترعرع إلى جانب الشيخ حبيب رحمه الله وجده وعمه أي والدي.
عفواً، خرجت عن الموضوع لكن عملت الحاجة رحمها الله بالخياطة والزراعة حتى بنت غرفتين ومطبخاً، ولضيق حالتها المادية أنهت غرفة واحدة، وسكنت فيها مع أولادها.
صادف في تلك السنة حدوث نكبة فلسطين (1948) وخروج الفلسطينيين على أمل العودة الذي وعدهم به العرب ومجلس الأمن.
كانت حصة بعلبك من اللاجئين لا بأس بها، فقررت الحاجة أن تؤجر الغرفة التي تسكنها والأولاد لعائلة فلسطينية، وكان المطبخ مشتركاً.
نشأت علاقة ودٍّ ومحبة وتعاطف مع قضيتهم، وعاشوا عائلة واحدة.
وكانت كنية هذه العائلة "كعوش" ولا زال الأحفاد يعيشون حتى اليوم في مخيم الجليل في بعلبك كما أخبرني عمك، وهم متعلمون.
خلقت هذه العائلة حافزاً غريباً عند الحاجة كي تعلّم أولادها وتجعلهم يحملون شهادات علمية إضافة إلى مهارات أخرى، ولكن أكثر ما كان يؤلمها هو عندما يخبرونها بأنهم يملكون دوراً وأثاثاً وهم من عائلات معروفة هناك.
فكانت كل ليلة قبل أن تنام تبكي لمصابهم وتتوجه لأولادها الثلاثة بالقول: "مهما قست عليكم الحياة ومهما عانيتم من ظلم، لا تخرجوا من دياركم وتأمنوا لحمل مفاتيحها. أوصيك يا محسن، بيتك عرضك لا تتركه، لا تأمن أحداً عليه".
كبر محسن بعون الله ورعايتها وبدأ العمل، كانت أول هدية لأمه وأخواته زيارة المسجد الأقصى في القدس عام 1962.
عرفت الآن يا بنية لماذا لم يقفل الباب؟


--------------------------------

أحداث هذه القصة واقعية بأكملها، الأسماء حقيقية، تحديد الأماكن دقيق. فقط هناك تصرّف في سياق السرد.

حدث ولادة "حوراء" واقعي، والإبنة "وعد زياد الطفيلي" حيّة ترزق، وكلّ ما ورد صحيح.

الصور التي أخذها الطفل "صادق محمد عبد الساتر" حفيد الحاج محسن، استعانت بها جمعية بلجيكية قدمت دعوى إلى مجلس الأمن الدولي بحق إسرائيل حول جرائمها في حرب تموز، وذلك بواسطة ابن خال والدته الذي دُمِّر منزل أهله وإخوته، في حي العسيرة، وقد حضر بعد الحرب وأخذ الفيلم.

المعلومات والوقائع، خطابات السيد حسن نصر الله، وبعض الأحداث، نقلت بالتوثيق عن كتاب "النصر المخضب"، الذي أصدره "المركز العربي للمعلومات (السفير)" بعد الحرب، الطبعة الأولى، تشرين الأول 2006، بيروت.

التعليقات (0)

اترك تعليق