الباب لم يقفل(2)
15 تموز 2006 ألمانيا
.... تحوّلت عن جهاز التلفاز الذي تسمّرت أمامه منذ ثلاثة أيام، وقفت خلف النافذة، أزاحت الستائر الرقيقة وحدقت تنظر إلى الشارع الهادىء.
كان جواً صافياً رطباً، مرّ بائع الحليب الطازج، قرع الجرس، سمعت لكنها لا تدري لماذا تسمّرت في مكانها ولم تفتح له، وضع قوارير الحليب أمام الباب مشى وهي تراقبه فقط.
ابتسمت زهرات زنبق بيضاء فاتحةً ثغرها للشمس لتخطّ شفاهها بأشعتها، لاويةً عطفَيْها غنجاً على شتلات تجاورها في حوض تحت النافذة.
آه........
آهةُ حُزنٍ لَوَتْ ضلوعها، مزّقت أحشاءها، فجّرت دمعاتها الحارقة.
شتان بين صباحات "بعلبك" وصباحات "شتوتغارت".
... أما زالت شمسك تشرق بهيةً، يا مدينة الشمس؟
... أما زال صوت مؤذن مسجد الشيخ حبيب يصدح كعادته عند الفجر؟
... أما زال شبانك يتجهون عند الفجر إلى المساجد؟
أخبريني بعلبك عن عناق أعمدة قلعتك للشمس عند الشروق.
هل ما زالت ياسمينة دارنا تقطر فضةً لألاءةً عند الصباح؟
كيف يلهو أطفالك؟ هل يخرجون إلى مرجة رأس العين عند الغروب؟
آه بعلبك...! لو لم يكونوا، لما كنتِ.
... أشرقت شمس بعلبك نشوى تبعث ضياءً اختزنته من قمر شعَّ ليلاً يمدّ النفوس بالقوة والصمود. تبدلت معها الأحوال لم يعد هناك من خائف.
استيقظ الجميع باكراً، أدّوا صلاة الفجر وجلسوا يتبادلون الأحاديث على وقع زقزقة عصافير عشّشت في شجرة صنوبر عالية إتكأت على سور الدار مقابل المسجد.
لم تَطُل الجلسة كالعادة، أصرّ الحاج على إيصال فاطمة وسارة والأولاد إلى منزل فاطمة باكراً، لأن الأمور تنذر بالتصعيد، ومهما استهدف حي رأس العين لن يكون مثل حي الشيخ حبيب.
بدأ يوم السبت شبه عادي، كلٌّ توجه إلى عمله، المدينة في حركة عادية تحولت بعد الظهر إلى مدينة شبه خالية تغطيها سحب سوداء تتصاعد من مبانٍ صفّقت جدرانها واستلقت تلتحف أسقفها.
كلّما همّ الحاج بالخروج، تصرخ الحاجة، رحم الله والديك، أقبّل قدميك اجلس.
بينما كانت ترجوه الدخول إذا بالباب الخارجي يفتح بقوة غريبة مع دوي انفجار قوي واندفع داخل الدار الشبان الثلاثة محمد علي، محمد حسن ومحمد حسين صارخين: ضربوا الحي.
توجّه محمد علي مسرعاً ليساعد زوجته بالنزول من الطابق الثاني، لم يكد يصعد الدرج الأول حتى سمع صراخها ساعدني يا علي، الضرب قريب. وصل، الباب مكسور، الزجاج غطى الأرض وهي واقفة وسط المنزل تحمل طفلها الذي لم يكمل أشهره الثلاثة، أخذ الصبي منها، أسرعي إلبسي حجابك، وتوجّها نحو الدرج.
تذكّرت الحليب للطفل عادت لتحضره وكانت الغارة الرابعة. لم تحضر شيئاً وعادت تهرول مذعورة، وصلوا إلى منزل الأهل.
الكل يلوذ ببعضه، والتعليمات تتضارب فواحدة تقول: أخرجوا إلى الحديقة، والثانية: لنقف في الممر الداخلي، أما الحاجة فتقول: كل الأماكن خطرة فالضرب قريب والظاهر أنهم يريدون تدمير الحي.
صرخت زوجة حسن أنا لا أريد أن أرى الصاروخ الذي سأموت بسببه. صرخت الحاجة: سلّمي أمرك لربك، هنيئاً لمن يقتل شهيداً مظلوماً.
كان ذلك اليوم يوم حيّ الشيخ حبيب آل إبراهيم بامتياز. كلّما خبا صوت الطيران، ظنوا بأنهم غادروا الأجواء، وما هي إلا ثوانٍ ويهزّ الأرجاء دويّ انفجار آخر.
بعد أن اطمأنوا لخلوّ الجو من الطيران نهضوا لينظفوا ما تناثر من أثاث وتكسّر من زجاج.
أثار جرس الهاتف أعصاب الجميع (الأقارب والأحبة يطمئنون على سلامتهم)، فالكلّ منهمك في العمل، إلا الشبان فقد خرجوا للمساعدة في إنقاذ مَنْ سلم مكان الإستهداف. ما يقارب المئتي متر من منزل الحاج يقع أول منزل مدمّر (منزل أبو سليم) بجانبه مبانٍ سوِّيت بالأرض وأخرى تضررت، تتجه شرقاً منزل (السيد أبو هشام) واحصِ وأنت تتقدم صعوداً على الشارع الرئيسي نحو الشرق مبانٍ أصبحت أطلالاً، ساحات استحدثت وسط الحي وصولاً إلى منزل الشيخ محمد يزبك.
غيّر الدخان لون الشفق عند الغروب، فأصبح بنّياً مائلاً نحو السواد، وغاصت بعلبك في سوادٍ قاتم.
حضرت تلك الليلة مروة يرافقها زوجها والأولاد.
عندما رأتها الوالدة صرخت: إلى أين يا مروة؟!؟
نريد إبعاد زوجات أخويك عن المنزل، وتأتين أنت بأولادك!
هل جننت؟
- لا يا أمي، إني بكامل قواي، وبكت.
هنا استدركت الحاجة وسألتها: هل كان القصف قريباً منكم؟
لا يا أمي، لكن شباناً أتوا إلينا، طلبوا منا الخروج السريع والابتعاد عن الحي. فردّت مستهزئة: خرجتم من حي العسيرة إلى حي الشيخ حبيب.
مهما حدث يا أمي فإنني أشعر بالأمان هنا. مهما حصل أنا باقية هنا فليخرجوا هم.
أطبق الليل بثقله على مَنْ تبقى في الحيّ، تخرق سكونه أصوات طائرات التجسس التي لم تفارق الأجواء، إذ كانت ترصد كل حركة على الأرض.
أقفر الحي من جميع أهله، كان من بقي لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.
جلس الجميع في غرفة الجلوس على ضوء شمعة خافت يطفئونه بين الفينة والأخرى.
تفقدت الحاجة ساجدة الجميع، صرخت يا علي، أين أبوك؟
هدّأها قائلاً: إنّه يصلي في الدار.
- ألم ينقضِ وقت الصلاة؟!
- أتركيه ذلك أفضل من الجلوس هنا؛... يجب أن نترك بعلبك إلى أيّ مكان آخر.
وقتذاك قال علي لزوجته: أخرجي أنت والصبي مع أهلك إلى دار عمتك في طرابلس. وأنت يا حسن دَعْ زوجتك تذهب مع والدتها وأخواتها إلى حمص، ونبقى أنا وأنت مع أهلنا هنا.
هنا قالت الإثنتان: لا والله، لن نخرج وحدنا.
انقسمت العائلة، النساء والأطفال في الغرفة، والرجال خارجاً في باحة الدار.
قرب الوقت من السَحَر، والجميع لم ينم فالطائرات الحربية غطت بعلبك تقوم بغارات وهمية من وقت لآخر.
بزغ فجر الأحد، لم تصدح مئذنة المسجد معلنةً حلوله، الكهرباء مقطوعة ولم يبقَ أحد في الحيّ.
أدّى الحاج والشبان الصلاة،، دخل الحاج ألقى عليهم تحية الصباح، وقف أمامهم وقفةَ حائرٍ غير مقتنع بما سيقوله، لكن حماية الأطفال والنساء واجبة.
يا جماعة، أقسم عليكم، احملوا ما تيسّر واذهبوا إلى دار عمي الحاج "أبو رستم"، علّه يكون أكثر أمناً، أقلّه لم يتضرر كمنزلنا. سأطلب من الشبان مساعدتكم.
إحملوا الفرش والوسادات، لا تنسوا الأدوية وحليب الأطفال، وما تبقى من خبز وطعام.
خرجوا على دفعات، في أثناء هدنة صغيرة. كان آخر مَنْ سيغادر الحاج محسن والحاجة ساجدة حسب ما قرّر الشبان.
عادوا وجدوهما جالسَيْن في باحة الدار جلسة لا توحي بالتأهب للخروج.
السلام عليكم هيا ماذا تريدان أن تحملا معكما؟
أجابه الوالد: لا شيء.
ردّ علي مستغرباً: لا شيء!! إحملا فقط وسادتيكما والأدوية. ولكن لم يتحرك أحد.
دخل، حمل الوسادتين والأغطية وكيس الأدوية الخاصة بهما، خرج وكانت المفاجأة.
الوالد رفض الخروج بشكل قاطع. سألته زوجته: لماذا غيّرت رأيك، ألم تكن صاحب الفكرة؟
أجابها: نعم. أنا صاحب الفكرة، لكن خروج الأطفال والنساء فقط.
قال علي حينها: إطمئن يا والدي لن نترك البيت سنتناوب على البقاء هنا أنا وإخوتي.
لا، لن أخرج. خذوا والدتكم واتركوني.
توسّلت إليه زوجته، أرجوك إرحم نفسك، وارحمنا.
بعد نقاش طويل نزل عند رغبتهم. رفع طرفه إليهم قائلاً: اقتلعتموني.
حملت الحاجة بعض الحاجات وخرجت، الحاج مسمّر أمام باب يفتح على صالة كبيرة يربو طولها على الخمسة عشر متراً وعرضها على الخمسة أمتار أشبه بديوان عربي كبير وقد فرشت على طرازه.
الزجاج غطى الأرض، الستائر ممزقة، الحيطان ملطّخة بالسواد، تناثرت بقايا لوحات وآيات قرآنية كانت معلقة على الجدران.
تقدمت الحاجة وقفت إلى جانبه بهدوء، تناهى إلى سَمْعها بعض ما كان يتمتم به الحاج: "السلام عليك يا بقية الله الأعظم، السلام عليك يا أبا عبد الله الحسين".
التفت، نادى الشبان قائلاً تعالَوا إلى جانبي، تحلّقوا حوله والوالدة قال: تعلمون أنّ هدف بناء هذه الصالة بمساحتها الكبيرة كان إقامة ذكر آل البيت عليهم السلام، وقد دَرَجْنا على ذلك لخمس عشرة سنة خلت يومياً الساعة الثامنة صباحاً، أوصيكم وأضع وصيتي في عنق مَنْ يبقى منا، أن تبقى هذه الصالة لذكرهم عليه السلام وأن تعيدوا بناءها كما هي ولو دمّرت بالكامل.
هنا قالت الحاجة: نسأل الله أن يطيل في عمرك وتبقى أنت مَنْ يقيم ذكرهم عليه السلام، أرجوك لا تشعل قلبي بأفكارك فنارها تحرقني.
وضعت الحاجة من يدها ما كانت تحمله أرضاً عانقته ونظرا بعيون دامعة إلى الصالة.
تقدّم علي حضنهما، أرجعهما إلى الخلف واستدار ليقفل باب الصالة.
انتفض الحاج صارخاً: لا......... لا تقفل الباب يا علي...!!
تراجعت الحاجة خطوة، سألته: لماذا، وكيف سنترك أبوابنا مفتوحة؟! الأثاث غير مهم، الباب أهمّ.
الحيّ خالٍ، ولا نعرف كم ستطول غيبتنا، وماذا سيحدث.
عاد وكرّر: لا لن تفعل. ووضع المفتاح في الباب.
خـرجوا.
وكان النزوح الأول من حي الشيخ حبيب آل إبراهيم.
وصمت عن الكلام.
وأخيراً اجتمعوا في دار الجد.
كان هدير شبح الموت هناك أقوى، الجدران تصفّق بشكل مرعب، الظلمة موحشة، فالحيّ بلا كهرباء وبلا ماء.
لم تكد تهدأ قلوبهم المرعوبة حتى عادت الغارات والقصف بالصواريخ.
الجميع يتكهّن وعلي يقول لهم، اتقوا الله، اصبروا، اقرأوا الشهادة، سارة حضنت ولديها، مروة وزوجها حضنا أولادهما يتوسلون الله.
وانجلى الغبار عن دمار كبير في حيّ "آل اللقيس" الذي يقع غرب المنزل وعلى مقربة منه.
تفقدوا بعضهم، هنّأوا بعضهم بالسلامة وقام كل واحد بالتقاط ما وقع قربه من بقايا وشظايا تطايرت من جرّاء القصف.
.. جنّ الليل، ألقى رداءه على وجه الأرض، هجر النوم أجفانهم، خياله يلوح وأجنحته السوداء تخيّم عليهم، يتفقّدون بعضهم بعضاً وكل يسأل ألا تريدون أن تناموا؟!...
أما الحاج فاتخذ من شرفة المنزل الشرقية مقابل الشارع مجلساً، يحمل المصحف بيد وباليد الأخرى يسلّط ضوء هاتفه الجوال على صفحاته ويقرأ.
كان ذلك دأبه في الليل والنهار، قراءة قرآن، دعاء، صلاة وعندما يتعب ينام قليلاً ليزداد قوة. أما أكله فبعد جهد جهيد كان يأكل قليلاً مع إصرار الحاجة لأن لديه دواء دائماً.
اعتاد الجميع على طريقة الحياة العارضة، وتذكّروا الحديث الشريف الذي كان الوالد يكرّره على مسامعهم دائماً، "إخشوشنوا فإنّ النعم لا تدوم". فقدت بعض النعم مع إمتحان الصمود والمقاومة.
كانوا نِعْمَ الصَّامدين المقاومين، حتى أنّ الشبان وجدوا في ذلك بعض المتعة، مع ما كانوا يكابدونه.
نفدت المياه من الحيّ، الشبكة العامة دُمِّرت، خزان "اللجوج" الذي يغذّي الحيّ دُمِّر، الكهرباء مقطوعة وبذلك لا يمكن سحب المياه من الآبار، هكذا برز سبب ليموّه علي على طلعاته المتكررة، الغامضة.
فبدايةً كان يخرج بحجّة إلقاء نظرة على البيت وريّ المزروعات، وبعدها تفقّد أحوال أخواته في حيّ رأس العين، فأضاف إلى ذلك الذهاب إلى نبع "اللجوج" الواقع على طرف بعلبك الشرقي لجهة جُرْد نحلة لإحضار مياه للشرب. تلك كانت الحجة الظاهرة ولكن....
كان يومياً يحمل مستوعبات المياه ويغيب.... ثم يعود فَرِحَاً بأخبار شتى.
أنسى خروج الشبان الدائم الحاجة ساجدة همومها وأصبحت كلّ يوم تحترق بنار الإنتظار وأصبحوا يخرجون جميعهم يومياً بحجة مساعدة علي.
ذات يوم ظنّت الحاجة ساجدة أنها ستضع حدّاً لحجة الخروج تلك ففي أثناء جلوسها ذلك اليوم مع جارتها الحاجة أم علي الجمّال أخبرتها الحاجة بأنها كتبت سورة "قريش" على رقعة ورمتها في خزانات المياه، فبإذن الله لن تفرغ وستسلم من القصف.
عند قدوم الشبان أخبرتهم الحاجة بذلك، لكن لم تكن حجة مقنعة لمنعهم من الخروج، فأصبحوا يبتدعون حججاً أخرى.
إنه اليوم الثامن عشر من شهر تموز، سادس أيام الحرب، واليوم الرابع من نزوحهم عن دارهم.
أشرقت شمس الصباح على غير عادتها اليوم، غمامة خفيفة بيضاء حجبت بعض نورها فانعكس ذلك ضجراً وحيرة في النفوس.
جاء الصباح بعد ليلٍ مُظلمٍ طويل، أنهك قواهم من السهر المستمر، وكان أكثر مَنْ عانى في تلك الليلة مروة وزوجها، فولداهما قَضَيا الليل يبكيان ويفتقدان بيتهما والنوم على وسادتيهما. فحضن الوالد واحداً، وحضنت الوالدة الآخر وبدآ بقراءة ما حفظاه من آيات القرآن الكريم، علّ الولدين يسكنان، وينامان.
انتبهت مروة فوعدتهما بأنه عند خروج أخيها علي ستوصيه بإحضار الوسادات والألعاب من البيت.
استغلّ علي هدنةً واضحةً يومها، وقرّر أن يذهب إلى الصيدلية لإحضار الدواء لوالده. توجّهت إلى الجميع بالسؤال: هل يريد أحد منكم أي دواء من الصيدلية فعلي سيخرج، هبّت مروة: نعم أنا، لكن ما أريده ليس دواءً.
- ماذا؟ أسرعي قولي. قالت الوالدة.
محمد أعياه السهر ولم يستطع الذهاب معك، فأرجوك يا حبيبي إذا طالت الهدنة واستطعت الوصول إلى حيّ العسيرة، أرجوك أحضر لي أغراضاً للأولاد والوسادتين من غرفة نومهما. هاك المفتاح. وناولته مفتاح منزلها.
ودّع والديه، سألهما الدعاء وخرج.
خرج، فتح السيارة أدار المحرك ثم أوقفه ليفكّر كيف سيتجه، خطر بباله أن يسأل جارهم أبا علي إذا كانوا يحتاجون شيئاً، فولدهم الوحيد مع المقاومين في الجنوب، وهم يستحقّون العَوْن.
ركب السيارة واتّجه نحو السوق فالصيدلية الوحيدة في الحيّ متضرّرة ومقفلة. لم يوفَّق بصيدلية تعمل، فقرر الإتجاه نحو الشراونة علّه يجد أحداً فذلك الحيّ يعدّ آمناً إلى حدٍّ ما.
وُفِّق بصيدلية تعمل لكنّه لم يجد الدواء، نَصَحَه الصيدلي بأن يذهب إلى دورس فلا بدّ أن يجده هناك.
خرج، وقف أمام الصيدلية يتساءل، هل أتجه جنوباً من ناحية القلعة أم أعود من حيث أتيت أحضر الأغراض لمروة؟
ربِّ يسِّر، لأستغلّ هذه الهدنة وأذهب إلى حيّ العسيرة، وأتجه شرقاً.
ما إن وصل إلى تقاطع ما يسمى بحيّ آل ياغي، آل عثمان، آل الجمّال، آل رعد، حتى شعر بأنّ الأرض اهتزت، غطت الشارع سحابة بيضاء، وبدأت تتناثر الحجارة والشظايا، ترجّل مسرعاً من السيارة لاذ بأحد المحال وإذا بدَويّ صاروخ قوي، ولشدة ما سبق صوت الإنفجار من آثار كان كلّ مَنْ بقي في الحيّ يظن أن الصاروخ استهدفه.
انجلى الغبار، خرج مَنْ صمد ليستكشف المكان المستهدف، كان شبان المقاومة المرابطون على الطرقات أول الواصلين، أقاموا حاجزاً عند تقاطع مسجد الإمام علي عليه السلام ليمنعوا الوصول إلى ذلك المكان من حي الشيخ حبيب وحي رأس العين وحي آل ياغي.
ترك علي السيارة في مكانها، اتجه سيراً نحو العسيرة، سأل شبان الحاجز فأخبروه. تمتم لو لم تتلكأ يا علي لفزت بالشهادة. وصار يلهج بدعاء إلهي إلهي أسألك رضاك والجنة.
شرفة منزل الحاج "أبو رستم" مغطاة بطبقة من الأتربة والأحجار بمختلف الأحجام والأشكال. خرجوا بعد هدوء العاصفة، كلّ يمسك حجراً ويتكهّن. نظر محمد مازحاً سأبحث بين الأحجار وأكتشف إذا كانت البناية التي نسكنها استهدفت، هنا صرخت مروة لا.... لا تقلها فعلي ذهب لإحضار الأغراض لنا من هناك.
سمعت الحاجة ساجدة، ذلك لكن بعض ما سمعته فهمت منه أنّ بيت مروة قصف وعلي هناك.
خرجت صارخةً، ماذا أصاب علي يا مروة؟!
هل كان من الضروري إحضار أغراض للأولاد؟!
للوهلة الأولى بدأت تبكي لكنها استدركت ورفعت يديها نحو السماء "يا ربّ، يا رادّ يوسف إلى يعقوب ردّ عليَّ ولدي عليّ".
طلبه صهره على هاتفه الجوال فلم يردّ، فاصفرّ وجهه، أعاد الكرّة لم يردّ. علي ترك هاتفه في السيارة.
بينما كان يحاول ثانيةً رنّ جرس هاتفه، فإذا هي فاطمة تسأله صارخة: ماذا جرى عندكم؟ ماذا أصابكم؟ أقسمت عليك، علي في البيت أم معكم؟
لا، علي ذهب إلى الصيدلية وهو بخير.
حاولت فاطمة الإتصال به، فلم يردّ. فعاودت الإتصال بأهلها. ماذا جرى عندكم. أخبروني. الحيّ مغطّى بالدخان والغبار ولا نرى أو نميّز أيَّ مَعْلَمٍ من هنا.
لا تشغلي بالك لم يحدث لنا شيء. رمت السماعة من يدها صفقت راحاً براح قائلةً أخوك اختفى يا فاطمة!!؟...
أختها سارة بجانبها تبكي، الأولاد مذهولون. وإذا بسيارة تتوقف أمام الباب، ركض الأولاد ثم عادوا مسرعين صارخين: "خالو علي إجا، خالو علي".
لم تنتظرا دخوله، خرجتا واحدة تعانقه والأخرى تقبّل يديه، أبعدهما قائلاً، أدْخِلوا الأولاد لقد عاد الطيران الحربي.
ماذا أصابكم، وبدأت فاطمة تعدّهم واحداً واحداً، وهو يرد بإجابات مقتضبة، ثم قال لقد اطمأننت عنكم سأذهب وأشتري الدواء لوالدي فقد خرجت من البيت لأجل ذلك، أرجوك يا فاطمة أعطيني وسادتين لعلي وحسن أولاد أختك مروة فقد طلبت مني أن أحضر لهما وسادتيهما من المنزل ولكن... لم يستغرق ذهابه إلى دورس وقتاً طويلاً، أحضر الدواء وعاد ليجد الوالدة جالسة على الأرض تدعو، الوالد يقرأ القرآن على كرسيه الثابت على الشرفة، زوجته تحتضن طفلها، مروة وزوجة حسن تهدّئانهما. سمعن صوت السيارة فتنهّد الجميع، الحمد لله يا رب.
دخل مبتسماً كعادته يتمهل في مشيته، ضاماً الوسادتين إلى صدره.
ركض علي، ركض حسن، وسادتي وسادتي.
أمسك علي واحدة ثم رماها أرضاً، أعاد الكرّة أخوه، فقال لهما علي الذنب ذنبي كان من المفترض أن لا أحضر لكما شيئاً، وتظاهر بالغضب.
نظرت مروة مستغربة، قالت: صحيح يا علي من أين أتيت بهاتين الوسادتين فإنهما ليستا لنا.
تنهّد، جلس على أقرب كرسي، وبدأ، القصة يا مروة أنني لم أجدها في البيت فوجئت بأغراضك عند أميرة في الطابق الأرضي!!!!
صرخت: كيف؟!...
لا تغضبي يا مروة فأغراض سمر وأم علي وبيت خالك كلها عند أميرة. أما أغراض أميرة وآل خير الدين، فـ... وأومأ بيده إلى الأرض.
فَهِمَ الجميع لكنهم لم يتقبّلوا الأمر. واستغرق في الوصف.
أما خالي فحظه جيد جداً، لكم تضجّر من صعود الدرج عند عودته من العمل. فنزل البيت لملاقاته شعوراً معه.
نظر علي إلى والدته، الجميع، الكل يسمع دون تعليق. فقالت الحاجة المال والبيوت كلها فدى الإسلام والسيد، الحمد لله على سلامتكم يا أمي والله يعوّض عليكم القرش بألف.
--يتبع--
اترك تعليق