مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

من سيرة وحياة الشهيدة السعيدة أم ياسر الموسوي: بين الزائرات والدروس

من سيرة وحياة الشهيدة السعيدة أم ياسر الموسوي: بين الزائرات والدروس

الوقت الباقي ظل طويلا فارغا.. وحده حضور السيّد قادر على ملئه، بأحاديثه وقصصه، وتتكشف صحراء روحها عن العطش إلى ما يقول، كل ما يقول، عن العلاقة بالرب الرحيم، وسيرة أهل البيت، والقصص الفريدة المؤثرة، الوصايا والتعاليم، و.. و..
- من أين جئت بكل هذا يا ابن عمي؟! وكيف يكون لك هذا السحر؟! كيف تعرف كل هذا ؟! ومن أين لك القدرة على نقله بكل هذا الوضوح.. وكيف يكون لك كل هذا التأثير!؟ وكأن كلامك يدخل إلى روحي دون المرور بمسامعي.
صحراؤها في عطش، وبها نهم إلى تلك المعرفة، والسيّد لا يبخل، ويأنس بذلك منها، بقدرتها على الاستيعاب والتأثر وبطلبها للمزيد.
ترى نفسها تتغير مع كل حديث، تقرأ من الكتب الموجودة في مكتبة المنزل، وتسأل السيّد، وما أكثر الأسئلة! صحراؤها تحضر وعطشها يزداد، ما انفكت تقارن بين حديثه وبين بعض ما كان يرد في أحاديث النساء اللواتي ما كففن عن زيارتها كل صباح، حديث ممل لم تجد فيه متعة ولا قيمة، وهي تقارن آسفة بين حديث عن الملابس وحديث عن أمير المؤمنين وزهرائه ذات النور والخلق الرفيع. بين الغيبة، وبين العشق الذي يقطر من كلماته عن المطلق وعن جميل صنعه.
تحاول مع النساء أن تغيّر نوع الحديث، أن تنقله إلى مكان آخر، لكنها لا تجد استجابة، إلا مجاملة هنا وهزّ رؤوس هناك، النساء الزائرات طيبات عطوفات، لكن أغلبهن لا يستمتعن بهذا الحديث، وكأنّ هذا الحديث يثير الكثير من الأسئلة، أسئلة لا يردن إثارتها، أو إنّ أجوبتها تستدعي الكثير من التغيير، تفتح أمامهن أبواباً لا يردن فتحها. وهي تستغرب كيف أن بعضهن لا يفتحن الباب، كيف يرضين الجلوس في العتمة؟ كيف؟!.. ألا يسألن عن الجدوى، عن مبررات حقيقيّة لوجودهن؟! ألا يردن الأفضل؟! ألا يردن استثمار ما لديهن من إمكانات؟! وهذا الوقت الثمين الذي هو أغلى ما لديهن، لكم هو واسع شاسع؟! ألا يفكرن باستثماره؟ ألا تعتمل في ذهنهن تلك الأسئلة التي لا تكف عن التخاطر في ذهنها باستمرار لجوج؟ أين ضاعت أسألتهن، وفي أي بئر أخفينها؟!.
- شيء عجيب.. ما عندهن أسئلة.
تقول سهام مستغربة، وهي التي تولد في ذهنها الصغير عشرات الأسئلة كل يوم، وهن هنا منذ سنوات. كيف انقضى وقتهن في مدينة تزخر بالعلم وبالغربة، الأسئلة وكل ذلك العطش أليس لديهن منه؟ لماذا تتجه أحاديثهن هذا الاتجاه العجيب؟ حتى هن لا يستمتعن به، وكأن الواحدة منهن تنتظر الأخرى لتتم حديثها لتتحدث هي عن نفسها، أو عن أمر لا يعني سواها.
تستغرب سام وهي تحدث منيرة عن بعض تلك النسوة:
- ليش هيك؟
- ما عندن شغلي وعملي.. بخلصو شغل البيت وين بدن يروحو؟؟.. بملو.
- إي.. عشانهن بملو لازم يكون الحكي مفيد.. بعلّم.
هل زرن أمير المؤمنين كما زارته هي؟!
منذ الأشهر الأولى أقرت جازمة أن هذا ليس ما تريد، ما تريده هو مزيد من المعرفة، معرفة في أي اتجاه ممكن، أن تعرف. كل جارحة في سهام تريد ذلك، فكيف لها أن تقارن بين اهتماماتها واهتمامات زائراتها من النساء، حديثهن وحديث السيّد عباس، هذا السيّد الذي تراه سهام يعرف كل شيء، وقادر تماماً على إيصال أي فكرة تخطر.
لذلك كانت تنتظر تلك الجلسات بشغف، وتحاول أن تستبقيه، وهو يرى ذلك في عينيها وفي الأسئلة، وقرر منحها المزيد من الوقت، ولكنها لم تكتفِ:
- مش عندك طلاب بالمدرسة اللبنانيّة بعدن جداد وعم تعطيهن دروس.
- إي.
- اعتبرنا أنا ومنيرة طلاباً من طلابك.
وهكذا كان، سعيدة هي، أكثر سعادة من أي وقت مضى، ورائع أستاذها وهي ترى هذه الصورة الجديدة، صورة الأستاذ الجاد، وتخاف اهتزازها أو المسّ بها. وتصنع من نفسها تلميذة غاية في الجديّة والأدب، تلتهم دروسه التهاماً، تصغي وتستمع إلى ما يقول حرفاً بحرف، تدوّن وتتابع، وتراجع الدروس مرة ومرتين، وتحضّر للدرس القادم وتساعد منيرة في فهم الدرس، وتُدهش السيّد مرة أخرى فيقول:
- مش معقولة أنتِ
- ...
أربكتها الصدمة وصارت تبحث على عجل عن خطأ ارتكبته فلم تجد، صمتت وهي تنظر إليه، وتابع السيّد كلامه بدهشة واضحة:
- أنت من أحسن بعض طلابي..
- عن جد؟
- جد... أنا ما كنت متوقع هيك.
وانتهت المعضلة عرفت سهام الطريق، في البدء كانت حائرة غير راضية عن أيامها والآن عرفت واستقرت فرحة، لطالما كانت تردد:
- أريد أن أفعل شيئاً.. أي شيء.
كل تلك الطاقة لم تكن تدري أين تضعها، وحين عرفت أصبحت المرأة الأولى التي تدرّس فقهاً وأصولاً وعقيدة ونحواً.
وأصبح الدرس درسين.. قالت لزائراتها أنها لا تستطيع استقبالهن سوى يوم الخميس، أزعجهن ذلك، ولكنها حياتها التي أمسكت بخيوطها ونظمت ساعتها، الخميس لاستقبال الزائرات وتنظيف كامل المنزل، الجمعة تقوم هي بالزيارات، وللمناسبات الاجتماعية وزيارة أمير المؤمنين(ع)، وباقي الأيام للدرس وشؤون المنزل، وأصبح الدرس عند السيّد درسين، ثم أعجبت بالفكرة زوجة أحد المشايخ، فانضمت إلى الدرس. فيما تبرع زوجها الشيخ، بتدريسهن مادة إضافيّة.  ثلاثة دروس، بعد الدرسين عند السيّد يذهبن إلى منزل الشيخ لتلقي الدرس الثالث.


المصدر: قصة الوصول: مشاهد من حياة امرأة مثال (سلسلة المرأة المقاومة) (تروي قصة وحياة الشهيدة أم ياسر زوجة الشهيد السيد عباس الموسوي): عبد القدوس الأمين، إعداد مركز دراسات المرأة والأسرة والطفل في جمعيّة الرابطة اللبنانيّة الثقافيّة، ط1، دار الولاء، بيروت، لبنان. 

كتاب الوصول: .

التعليقات (0)

اترك تعليق