قضايا المرأة في الفكر الإسلامي الحديث: بحث للحاجة عفاف الحكيم في الندوة العلمية والملتقى الذي أقيم في تونس
كلمة الحاجة عفاف الحكيم في الندوة العلمية والملتقى الذي أقامه الاتحاد العالمي للنساء المسلمات بالمشاركة مع رابطة تونس للثقافة والتعدد تحت عنوان: "الريادةالنسائيّة في الإسلام٬ إشكاليّة القراءة في ضوء التحوّلات الثقافيّة والاجتماعيّة". العنوان: قضايا المرأة في الفكر الإسلامي الحديث. المكان: تونس الشقيقة. الزمان: 12و13 أيار 2015
بداية، من البديهي القول بأن ظهور الإسلام كان بشارة كبيرة وسارة، وحياةً جديدة للمرأة في ذلك المقطع من الزمن...
فالدعوة العامة للقرآن الكريم بنيت على حرمة الظلم، والقوانين العملية الخاصة بنيت بحيث تحمي الشخصية الخاصة للمرأة في الحياة الاجتماعية الواسعة؛ باعتبار أنّ الشريعة الإسلامية الغراء، ومن خلال طرحها لأهم وأعلى فريضة بنائية وتنموية يتعبد بها المسلم والمسلمة لله تبارك وتعالى -والتي هي فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر- حمّلت المرأة كما حمّلت الرجل مسؤولية وواجب بناء مجتمعها بكل ما تتسع له كلمة المعروف من خير ومنفعة، وأوجبت عليها دفع المنكرات والسوء عنه بكل ما تشمله كلمة المنكر من ضرر وخطر.
قال تعالى في سورة (التوبة/71): «والمؤمنُونَ والمؤمناتُ بعضُهُم أولياءُ بعضٍ يأمرُونَ بالمعرُوفِ وينهَوْنَ عن المنكَرِ...»
وعليه فإنّ القرآن الكريم في طرحه لهذه الفريضة التي تعتبر نوعاً من الرقابة العامة وتشمل كافة الميادين، لا يعتبر أن على المرأة أن تكون حاضرة في مجال العمل الاجتماعي والسياسي فحسب بل إنّ حضورها هذا هو تكليف شرعي، لأنه تكليف عام وعلى الجميع أن يؤدوه رجالاً ونساء.
وعندما يعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الرجل والمرأة، عندها لا بدَّ لكليهما من تعلُم مقدمات هذا الأمر لا سيما المعارف المطلوبة من أجل القيام بهذا الواجب وأدائه كالوعي السياسي والاجتماعي، فعن رسول الله(ص): "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة".
بهذا المستوى من الوضوح والواقعية خاطب الإسلام المرأة، بحيث لم يُجِزْ لها أن تكون رقماً سالباً في قضايا أمتها ومجتمعها، بل جعلها ملزمة إلزاماً شرعياً إلى جانب دورها الأسري أن تؤدي دورها الإسلامي الأصيل في حماية المجتمع وبنائه في مختلف الميادين الحياتية.
وإلى هذا نجد أيضاً أنّ المرأة كما الرجل معنيّة بكل خطاب جاء في القرآن الكريم والسنّة المطهرة متضمناً للفظ (الإنسان) و(الناس)، أو لفظ (المؤمن) و(المسلم) وما شابهها.
وهي أيضاً كما الرجل جزء من (الجماعة) المسلمة التي توجهت إليها التكاليف والتي طالبها الله تعالى بحمل الدعوة وتبليغها، والتي ساهمت في بناء القوة وحفظت الأمن وحمت العقيدة، وأُوذيت وقدمت النفس والشهداء وهجرت الأحبة والأوطان، فهي لم تُستثنى من علم ولا عبادة ولا جهاد ولا بيعة ولا نهوض بأعباء المجتمع في سياسته واقتصاده وأمنه وحريته وعزته وسائر قضاياه.
قال تعالى في سورة (آل عمران/195): «إنّي لا أُضيعُ عملَ عاملِ منكُم مِنْ ذَكَرٍ أو أُنثى»
وفي سورة (الحديد/12): «يوم ترَى المؤمنِينَ والمُؤمنَاتِ يسعى نورُهُم بين أيدِيهِم»
وفي سورة (الأحزاب/35): «إنّ المسلمِينَ والمسلمَاتِ والمُؤمنِينَ والمُؤمنَاتِ والقانِتِينَ والقَانتَاتِ والصَّادِقينَ والصَّادِقاتِ والصَّابِرينَ والصَّابِراتِ والخَاشِعينَ والخَاشِعاتِ والمتصَدِّقينَ والمتصَدِّقاتِ والصَّائِمينَ والصَّائِماتِ والحَافظِينَ فروجَهُم والحافظاتِ والذَّاكرينَ اللهَ كثيراً والذَّاكراتِ أعدَّ اللهً لَهُم مغفرةً وأجراً عظيماً»
ولا شكّ أنّ هذا الإصرار وهذا التكرار إنما هو لتقرير حقيقة المساواة على طريق التكامل الإنساني ونفي أي تمايز إنساني بين الرجل والمرأة وتأكيد دورهما المشترك في عملية البناء والتنمية. غير أن ما يؤسف له، أنه على الرغم من ظهور هذا الدين العظيم الذي فيه النجاة الدائمة الأبدية، فإن بروز حالتين سيئتين عبر التاريخ قلبتا الأمور وغيرتا مسيرة حياة المرأة: الحالة الأولى: هي ظهور حالة التحجّر التي ساهمت بتداخل الأفكار الباطلة بالحقائق الدينية بحيث عطّل هذا التيار المتسلط الهوية الاجتماعية للمرأة وحرمها من أن تؤدي الدور الواجب المنوط بها والذي أكدت عليه الشريعة الإسلامية، فكان أن أرخى هذا التيار المتحجر بمؤثِّراته الساحقة والمميتة على امتداد أحقاب طويلة ولا زالت بقاياه شاهدة إلى يومنا هذا. أما الحالة الثانية: فتمثلت بدعوات تحرير المرأة، والتي كثرت وتعددت منطلقاتها، ممن اعتبروا أنفسهم المدافعين عن حقوقها؛ فكان منهم من حسب أن أول درجة في سلم الوصول إلى الحرية هو تحرير الجسد، فجرت الدعوة لإطلاقه من عقاله.
ومنهم من قام على المستوى الفكري بمحاولات أخرى لتحرير المرأة من الحجاب، وذلك من قبل مفكرين رأوا في الحجاب عائقاً للمرأة أمام الدخول إلى ميدان العلم، وحيث فات الجميع لزوم السعي لتحرير الإنسان -الإنسان الرجل والإنسان المرأة- شريطة أن يكون هذا السبيل مفتوحاً على الأفق الرحب للقيم الدينية الصافية ومنسجماً مع مصلحة الإنسان في دنياه وآخرته، باعتبار أنّ الرجل غير المتنور والذي يعيش في كهوف التقاليد، أحياناً تحت اسم الدين لا يسمح -إن استطاع- بتحرير المرأة، وكذلك العكس فإن المرأة الغير متنورة ليس بإمكانها أن تربي إنساناً متنوراً واعياً ذكراً كان أم أنثى.
وإنه بتأثير هاتين الحالتين، وصلنا ووصلت الأمور إلى أن تصبح قضية المرأة واحدة من التحديات الكبيرة التي ترفع في وجه الفكر الإسلامي بين وقت وآخر. وحيث يدعي المعترضون وللأسف أن الإسلام لم يعط المرأة حقوقها اللائقة بها، ولم يرفعها إلى حيث الرجل لجهة دورها الاجتماعي وتأثيرها في ساحة الحياة الإنسانية.
وإنه في مقابل هذا وقف المرابطون على ثغور الإسلام الفكرية ليردّوا عن الإسلام المتهم، ويثبتوا أنّ ما قدمه الإسلام للمرأة يفوق كل توقع من دين دخل ساحة الإنسانية من عشرات القرون، مبيّنين أنّ هذا الدين إنما جاء بثورة شاملة غطت كل نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وساوى بين الرجال والنساء إنسانياً، ولم يفضِّل انساناً على آخر إلا بالتقوى والعمل الصالح.
ويبقى أنَّ المدافعين عن الرؤية الإسلامية للمرأة (من أهل الفكر الإسلامي الحديث) انقسموا إلى أقسام، فمنهم من بهرته المذاهب الحديثة وأعشت بصره، بحيث يحاول الدفاع من منطلق المستسلم سلفاً، ومنهم من يحسن الظن بكل ما ورثه عن السلف فيلغي كل شكل من أشكال التطور والتبديل في أحكام المرأة في الفكر الإسلامي.
أمّا المخلصون الواعون فلسان حالهم، أنه من الغريب بمقاييس الاسلام أن تولد مشكلة اسمها مشكلة المرأة وحقوقها، لأن النص الاسلامي الأول هو القرآن الكريم الذي أعطى للمرأة مكانة مساوية للرجل في تشكيل الانسانية وخروجها إلى عالم الوجود عندما قال تعالى في (سورة النساء/1) «يا أيُّها الناسُ اتّقوا ربَّكُم الذي خلقَكُم من نَفسِ وَاحدةِ...»
بهذا الحسم والطرح الواضح خوطبت البشرية وخوطب المسلمون من على صفحات الرسالة الإلهية الخاتمة.
ولكن بعد أن اختلط- كما بيّنا- ماء الوحي القرآني بالفهم الإنساني للنصّ بدأت تتشكل البواكير الأولى لمشكلة المرأة في الفكر الإنساني والإسلامي.
وأنّه على مثل هذه التصورات بيّن بعض المسلمين تصورهم عن المرأة وساء الظن بها فتخلّفت صورتها كما تخلف واقع المسلمين في عصورهم الأخيرة، واختلطت في أذهان الكثيرين صورتان عن المرأة إحداهما رسمها الإسلام بمصادره الثرية، والأخرى تسربت إليه على حين غرّة من ضعف أو غفلة من حماة الفكر ورعاته..
وبالتالي كان طبيعياً أن تولد في الفكر الاسلامي مشكلة المرأة للدفاع عن التصور الإسلامي لها، من خلال ما ثبت كونه موثّقاً إسلامياً تجاه المرأة، ورفض ما لم يثبت وردُّه إلى أهله ومصادره.
المرأة وأدبيات الفكر الإسلامي الحديث إنّ المساحة التي شكّلتها قضية المرأة في الأدبيات الإسلامية المعاصرة من الناحية الكمية تُعدُّ غير قليلة، لكنها للأسف ليست بالمستوى المطلوب إلا ما ندر، فهي: أولاً: يغلب عليها الحالة الدفاعية والانشغال بالرد على الشبهات والإشكاليات التي تثيرها الأقلام والكتابات غير الإسلامية حول المرأة، لأن هذا النمط من الكتابات حتى لو كان مهماً، فإن الأهم من ذلك هو العمل على بلورة الرؤية الإسلامية المعرفية والعملية لقضايا المرأة بهدف تطبيقها والالتزام بها فعلياً في الحياة الاجتماعية بعيداً عن إشكاليات الطرف الآخر التي لا تغير من واقع المرأة شيئاً. ثانياً: يغلب عليها النمط التقليدي الجامد الذي يصيب بالملل والاحباط لما تتصف به هذه الكتابات من التكرار بحيث لا نرى التجديد والعمق والابداع إلا نادراً ومحدوداً. ثالثاً: يغلب عليها التركيز، وبمساحات كبيرة، على الجانب الأخلاقي الذي يرتبط بالسفور والاختلاط وتقليد المرآة الغربية في سلوكها وعاداتها، وهذا الأمر بالتأكيد هام وله ما يبرره، ولكننا لا نرى، إلى جانب هذا، تركيزاً موازياً ومتكافئاً يولي الاهتمام بتنمية المرآة وتطوير مواهبها ودفعها إلى الارتقاء بمستوياتها التربوية والتعليمية والثقافية والسياسية، وبالتالي النهوض بأدوارها الاجتماعية ودفعها نحو التقدم المستمر في حياتها العامة. رابعاً: نجد أنه، وإلى وقت ليس ببعيد، كانت هناك فجوة عميقة ترتبط بجدلية النظرية والتطبيق في مسألة المرآة، باعتبار أن الطرح الإسلامي لهذه المسألة لا يجد طريقه إلى التطبيق بالكيفية التي ينظر له فيها، وإنه ما زالت الموروثات والتقاليد والعادات التي تهيمن على الواقع الاجتماعي للمرأة هي أقوى وأبلغ تأثيراً من التنظير الإسلامي.
ويبقى أنه إذا كانت هذه أبرز الاتجاهات، في الكتابات الإسلامية حول المرأة إلى ما قبل حقبة ثمانينات القرن العشرين. فإن حقبة ما بعد الثمانينات تغيرت وغيّرت معها تلك الوضعيات بحيث تأثرت الكتابات الإسلامية على مستوى حركة الأفكار بظاهرة الإحياء الإسلامي الذي شهد يقظة وانبعاثاً لاسيما على أرض إيران الثورة، وأرض لبنان المقاومة، وأرض فلسطين الانتفاضة، وحيث كان للمرأة المسلمة في هذه البلدان بروزاً هاماً وكبيراً في تلك الأحداث..
إذ في هذه الحقبة ارتفع صوت المرأة الذي كان خافتاً لزمن طويل وظهرت بعض الكتابات النسائية من الوسط الاسلامي اتصفت بالنقد للواقع المحيط بها. وانتقل الفكر الإسلامي المعاصر من الرد على الشبهات إلى موقف الإسلام من الموضوع، لاسيما بعد مراقبة التجربة الإسلامية في إيران التي فتحت آفاقاً واسعة لمشاركة المرأة في مختلف الميادين ومرافق الحياة العامة.
وباستطاعة أي مراقب لوضع المرأة الإيرانية اليوم -كنموذج- في ظل الحكم الإسلامي أن يرى مدى الاحترام الذي وصلت إليه في المجتمع الإسلامي، والدور البارز الذي تقوم به في إدارة البلد وتربية المجتمع؛ إذ يقول قائد المسيرة(دام ظله): "المرأة الإيرانية المسلمة فتحت تاريخاً جديداً أمام أعين النساء في العالم وأثبتت أنه يمكن للمرأة أن تكون امرأة عفيفة ومحجبة وشريفة وتمارس في الوقت ذاته دورها في مركز الأحداث وأصلها، وتحقيق الكثير من الفتوحات والإنجازات الكبرى".
إنها إضاءات بسيطة ومقتضبة حول قضية المرأة في الفكر الإسلامي الحديث، نسأل الله تعالى أن نكون قد وفّينا المطلب حقه.
كل التحيات للشعب التونسي الشقيق، وللمرأة التونسية المقدامة والشجاعة والجديرة بالتفوق على صعيد المساهمة بصنع مستقبل عزيز للأمة...
وكل الشكر للأخت العزيزة حياة أبو كراع ولجمعية رابطة تونس للثقافة والتعدد التي وفرت لنا هذا اللقاء.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته عفاف الحكيم
6-6-2015
اترك تعليق