مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

كلمة المستشار العلمي والأكاديمي في جامعة المعارف الدكتور طلال عتريسي

قضايا الحركة النسويّة في لبنان: تحيّز ثقافي غربي (مقاربة نقديّة اجتماعيّة): كلمة المستشار العلمي والأكاديمي في جامعة المعارف الدكتور طلال عتريسي

قضايا الحركة النسويّة في لبنان: تحيّز ثقافي غربي (مقاربة نقديّة اجتماعيّة)
كلمة المستشار العلمي والأكاديمي في جامعة المعارف
الدكتور طلال عتريسي


تحولت قضية المرأة منذ بضع سنوات إلى قضية مهيمنة في خطاب وأدبيات الكثير من الجمعيات والأحزاب والحركات الاجتماعية والنسائية في لبنان وبلدان عدة عربية وإسلامية. لقد ارتكز هذا الخطاب إلى مجموعة من المرتكزات يمكن أن نعرضها على الشكل التالي:  
الركيزة الأولى، كانت في تحويل المرأة إلى قضية عالمية مستقلة مثل قضايا الفقر، والتلوث، والسلم، والتمييز العنصري، والديمقراطية... وسواها من قضايا يفترض أن يجتمع العالم حولها باعتبارها قضية مشتركة بين الشعوب والمجتمعات كافة.  
 الركيزة الثانية في هذه القضية (العالمية العابرة للحدود)هي المواثيق والاتفاقيات التي صدرت عن الأمم المتحدة والتي بات على الدول الموقعة عليها أن تكون ملزمة بتطبيق ما وقعت عليه أمام مؤسسات الأمم المتحدة المعنية. وأن تكون ملزمة بتقديم تقارير دورية عن مدى التقدم بتطبيقها أمام لجان مختصة، مثل الاتفاقية التاريخية للقضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1979.
ما يعني بحسب هذه المواثيق أنّ قضية المرأة ومشكلاتها لم تعد قضية محلية أو أسرية، أو مجتمعية، ولم يعد حل هذه المشكلات وتلك القضايا يتم وفق خصوصيات هذا المجتمع الثقافية أو ذاك، بل بات ما صدر عن الأمم المتحدة من قرارات هو الحل، وكذلك ما جاء في المواثيق التي أصدرتها المنظمة الدولية. "إن تمكين المرأة هو تمكين للإنسانية جمعاء".
أما الركيزة الثالثة فكانت في إيلاء التعاون مع المنظمات غير الحكومية (المجتمع المدني) أهمية قصوى، بحيث تحولت هذه المنظمات إلى قوة طليعية في الترويج لتلك المفاهيم، تحت حماية المنظمة الدولية التي قدمت لها الدعم المالي والمعنوي والقانوني. وقد جاء في مقدمة كتاب "إعلان ومنهج عمل بيجين" الذي صدر عن الأمم المتحدة: "أن الأمم المتحدة ستزيد من الروابط الوثيقة وعلاقات العمل التي تربطها بالفعل بمجتمع المنظمات غير الحكومية على الصعيدين العالمي والوطني.. كما أشادت تلك المقدمة بمؤسسات المجتمع المدني التي أدت دوراً مهماً في التحضير لمؤتمر بيجين 1995" (إعلان ومنهج عمل بيجين، منشورات الأمم المتحدة، نيويورك 2002 ص 10-11). 
الركيزة الرابعة وهي الأهم، هي في المفاهيم التي استخدمت للتبرير الإيديولوجي، والثقافي والإنساني لهذا المشروع. وهذه هي القوة الناعمة التي ستستند إليها المنظمات والجمعيات في تقديم المرأة من منظور واحد ثلاثي الأبعاد، باعتبارها: "قضية" و"أولوية" و"ضحية". بحيث سيكون ما تقوم به تلك الجمعيات مثابة إنقاذ للمرأة من منظور هذه الثلاثية. هكذا يمكن أن نلاحظ ذلك الربط بين "المرأة الضحية" من جهة، وبين مفاهيم مثل المجتمع المتخلف، والثقافة الذكورية، والعادات والتقاليد، والسلطة الأبوية، وقوانين الأحوال الشخصية... كما سيتم الربط من جهة ثانية بين الخلاص من وضع "الضحية" غير الإنساني، وبين ما أتت به قرارات الأمم المتحدة في مؤتمراتها ومواثيقها الدولية حول المرأة. لتصبح هذه المواثيق (وليس أي مرجعية أخرى دينية، أو أخلاقية، أو ثقافية)، هي المثال والنموذج الذي يفترض أن نقيس عليه مدى التقدم الذي أحرزته قضية المرأة في بلداننا العربية والإسلامية.    
الركيزة الخامسة هي عملية الدمج بين واقع سيء حقيقي تعيشه بعض النساء يجب الاعتراف به، ولا بد من تغييره، وبين مشروع تغيير ثقافي يريد أن يفرض نفسه بديلاً عن ثقافة شعوب ومجتمعات متجذرة منذ مئات السنين. مثل الربط الذي يحصل على سبيل المثال بين الظلم غير المقبول الذي قد تتعرض له المرأة في المحاكم الشرعية، وبين الدعوات إلى إلغاء نظام الأحوال الشخصية. أو الربط بين عدم المساواة في الأجر بين النساء والرجال، وبين النظام الذكوري المتخلف.. أو الربط بين تسلط بعض الرجال على زوجاتهن، والإساءة إليهن وحتى تعنيفهن، وبين إلغاء النظام الأسري برمته وتغيير بنيته التقليدية التاريخية. أو الربط بين التعنيف الجنسي مثلاً، وبين الدعوة إلى اعتبار المغايرة الجنسية نفسها، منظور تقليدي لممارسة اجتماعية ثقافية، وليست أصلاً طبيعياً ثابتاً، ما يعني بحسب تلك الدعوات قبول ممارسة اجتماعية مغايرة هي "المثلية الجنسية". 
لقد تم الربط على مستوى آخر بين هذا المشروع للتغيير الثقافي، وبين التقدم والتحرر والحداثة. بحيث بات الدفاع عن تلك المفاهيم والممارسات التي تدعو إليها الجمعيات المحلية والمنظمات الدولية، مثابة تأكيد على انتمائنا إلى عصر التقدم والتحرر والحداثة (القرن الحادي والعشرون)، مثل الجندر، والنسوية، والكوتا، والعنف الأسري، والمجتمع  الذكوري، وتمكين المرأة... وقد جاء في مقدمة كتاب إعلان بيجين الصادر عن الأمم  المتحدة: "إن الحركة الداعية إلى المساواة بين الجنسين على اتساع العالم هي أحد التطورات الدالة على عصرنا" (ص 8). ما يعني أن أي اعتراض أو نقاش أو حتى تردد في قبول تلك المفاهيم مثابة نكوص وتراجع عن العصر، واتهام بالعودة إلى عصور الانحطاط والتخلف. 


هل قضية المرأة هي فعلاً قضية عالمية واحدة؟
عندما نقدّم المرأة قضية إنسانية عالمية تعّبر عن جميع نساء العالم وتلتزم قضاياهن من دون استثناء، كما فعلت الأمم المتحدة في مؤتمراتها، فهذا يعني كأن هذه القضية باتت خارج الزمان والمكان. والمقصود بخارج الزمان والمكان أنّ قضية المرأة هي قضية مشتركة ومتشابهة بين نساء العالم كافة من دون أي اعتبار للمؤثرات أو للخصوصيات الجغرافية والاجتماعية والثقافية. فإذا كان الأمر فعلاً هو كذلك، لوجب علينا أن نعتبر أنّ النظريات التي تقول بتأثير البيئة والمناخ، والثقافة والدين والعادات، والتقاليد على السلوك وعلى القيم هي نظريات خاطئة وغير صحيحة. 
ولو كان الأمر صحيحاً وكانت قضية المرأة واحدة على مستوى العالم، لوجب علينا أن نعتبر قضية المرأة في الصومال، وقضية المرأة في الولايات المتحدة أو في أوروبا، قضية واحدة، (النضال من أجل المساواة في الأجر، والتحرر الجسدي، وتطبيقات الجندر، والتصدي للهيمنة الذكورية، وتغيير عقلية المجتمع وثقافته المتخلفة...) أو أن المرأة في اليمن، أو في البحرين، أو في العراق، أو في باكستان، لها القضية نفسها مع المرأة في أحدى الولايات الأميركية، أو في فرنسا، أو إيطاليا. فهل يمكن القول بمثل هذا التشابه بين قضايا النساء؟
وهل يمكن من منظور هذه الرؤية المشتركة لقضية المرأة أن نعتبر أنّ المرأة الفلسطينية في الأراضي المحتلة، أو حتى في الشتات، لها القضية نفسها مع المرأة الإسرائيلية في المستوطنات التي تحتل الأرض الفلسطينية، وتعتقل النساء وتقتل الأطفال أو تزج بهم مع أمهاتهم في السجون. هل يمكن في مثل هذه النماذج من المقارنة أن نعتبر قضية المرأة هي قضية واحدة؟ 
إن الدعوة إلى جعل النساء قضية واحدة على مستوى العالم، هي دعوة تنافي الواقع، وليس لها أي أساس علمي، أو اجتماعي، أو ثقافي، على الرغم من كل مؤتمرات الأمم المتحدة ومواثيقها المفروضة.
فالمرأة مثل أي إنسان آخر تعيش في مجتمع يختلف في عاداته وثقافته وتقاليده وأنظمته وقوانينه عن المجتمعات الأخرى. وهي قد تتعرض للظلم والاضطهاد والتضييق على حريتها مثل الرجل، هذا ما يحصل على سبيل المثال في المجتمعات الديكتاتورية أو الاستبدادية التي لا تميز "جندرياً" بين الرجل والمرأة. لا بل يمكن أن يكون الرجل أكثر عرضة للاضطهاد وحتى إلى التضييق والاعتقال في مثل هذه الحالات. ما يعني أنّ قضية المرأة ليست واحدة، وستختلف من مجتمع إلى آخر، كما ستختلف حتى في داخل المجتمع الواحد. فقد تكون قضية المرأة على سبيل المثال، في بلد ما، هي عدم توفر فرص حصولها على التعليم، أو على الرعاية الصحية، أو على الماء الصالح للشرب، لأسباب قد يكون لها علاقة بالفقر أكثر مما لها علاقة بالتمييز "الجندري". وقد تكون قضية النساء في مجتمع آخر هي المساواة في الأجر والوظيفة، أو في حرية ارتداء الحجاب (كما هو الحال في بعض البلدان الأوروبية) أو في البطالة، أو في التمييز العنصري، وغير ذلك الكثير...
إن اعتبار قضية المرأة قضية واحدة يعني مثلاً أن على رئيسة وزراء بريطانيا، تيريزا ماي، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وكوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، ومعها هيلاري كلينتون، وتسيبي ليفني الإسرائيلية، أن يسرن معاً في تظاهرات مشتركة مع نساء اليمن والعراق والصومال وموريتانيا... للمطالبة بحقوق النساء.! فهل يمكن أن تحصل مثل هذه المسيرة المشتركة؟ وهل تصح أصلاً مثل هذه المقارنة بعيداً من الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية لكل بلد من البلدان التي تعيش فيها كل واحدة من هذه النماذج من النساء؟
إن مثل هذه الأسئلة يمكن أن تطرح أيضاً حتى على الفروقات بين النساء في البلدان الإسلامية نفسها، فوضع المرأة في إيران على سبيل المثال، يختلف كثيراً عن وضعها في السعودية من حيث المشاركة والحضور في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. كذلك الأمر بالنسبة إلى وضع المرأة في تونس، أو في لبنان، مقارنة مع وضعها في بلدان عربية أخرى.      
إن قضية النساء إذاً ليست واحدة. هذه نقطة انطلاق مبدئية وأساسية في التعامل مع قضية المرأة وفي النظر إليها. وهي نقطة انطلاق خاطئة ومضللة في الأدبيات النسوية.  


احترام التعدد الثقافي:
تدعو الأمم المتحدة في مواثيقها الدولية، وفي شرعتها العامة، إلى احترام التعدد الثقافي وحرية الاعتقاد الديني، وتعتبر أنّ هذا حق من حقوق الإنسان.
فما هو التعدد الثقافي، وماذا يعني؟

التعدد يعني أنّ هناك أكثر من نموذج ثقافي على مستوى العالم، وأنّ هذه النماذج تختلف من ثقافة إلى أخرى، وأنّ الشعوب لديها ثقافات متعددة وليست واحدة، كذلك الأمر بالنسبة إلى الأديان. والثقافة هي خلاصة ما تعتقده الشعوب على المستوى الديني، وما تمارسه من عادات، وما  تحمله من قيم اجتماعية وأخلاقية وأسرية. والتعدد يعني أنّ هذا الكل الديني والقيمي والسلوكي الذي يشكل الثقافة يختلف من شعب إلى آخر. وأنّ الأمم المتحدة، كما تقر بذلك، تحترم هذا التعدد وتعتبره حقاً للإنسان، ولا يجوز بالتالي استناداً إلى هذا الحق، الاستخفاف بأي ثقافة ولا محاولة إلغائها، أو اللجوء إلى أي وسيلة من وسائل الضغط أو الإكراه لتغييرها أو القضاء عليها.  
لكن عندما يتعلق الأمر بالمرأة، سوف نلاحظ أنّ هذه المواثيق تتجاهل هذا التعدد، وتذهب إلى طلب، بل إلى فرض، توحيد الرؤية الثقافية التي تطرحها هي، حول العادات والأفكار، بغض النظر عن هوية المجتمعات الثقافية. بحيث يصبح لزاماً على هذه المجتمعات أن تتخلى عن خصوصياتها الثقافية، وأن تغيّر عاداتها ورؤاها الاجتماعية، لكي تنسجم مع ما خرجت به الأمم المتحدة من قرارات حول المرأة. هذا التجاوز لخصوصية المجتمعات والدعوة إلى رؤية عالمية واحدة لقضية المرأة، يعني أننا نجعل هذه القضية خارج الزمان والمكان. ويعني أن الأمم المتحدة تضرب عرض الحائط بالتعدد الثقافي الذي اعتبرته حقاً إنسانياً لا ينازع. 


"المرأة الضحية":
تأكيداً على هذا التحيز ضد التعدد الثقافي في ما يتعلق بقضية المرأة يمكن أن نلاحظ أن الصورة التي قدمتها المواثيق والقرارات الدولية عن المرأة هي صورة "الضحية". وقد باتت هذه الصورة حاضرة دائماً في أي مؤتمر تعقده المنظمات الدولية، أو الجمعيات وكثير من الحركات النسائية في بلداننا. فهي تتعرض للتعنيف وللظلم الذكوري، ولعدم المساواة  في الأجر.. وسوى ذلك مما يتم استحضاره لتأكيد واقع "الضحية". ولكن هل فعلاً هذه الصورة هي صورة عالمية؟ وهل هي حقيقية أصلاً؟
يمكن أن نسجل ملاحظتين في هذا المجال: 
1. إذا كانت المرأة "ضحية" في كل زمان ومكان في عالمنا المعاصر، فهذا يعني أنها كذلك في بلدان العالم ومجتمعاته كافة، وأنى توجهنا وكيفما تطلعنا لن نجد أمامنا سوى نموذج واحد هو "المرأة الضحية". وإذا افترضنا ذلك، فهذا يعني أيضاً أن الأسباب التي جعلت المرأة "ضحية" هي نفسها في بلدان العالم ومجتمعاته كافة، ويجب بالتالي معالجتها بخطة واحدة وبتوصيات مشتركة وموحدة. وهذا ما ذهبت إليه عملياً مواثيق الأمم المتحدة التي خرجت بها في مؤتمراتها الدولية منذ ثلاثة عقود إلى اليوم.
لكن التدقيق في اختلاف الواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي بين بلدان العالم ومجتمعاته، يؤكد لنا أنّ واقع المرأة ليس واحداً كما تقدمه الأمم المتحدة المرأة. وأنّ "الضحية" ليست كذلك في أي مجتمع وأي ثقافة، استناداً إلى ما سبق وذكرناه من الأمثلة السابقة عن الفروقات بين قضايا النساء في البلدان المختلفة. كما أنّ واقع المرأة في الغرب على سبيل المثال، لا تنطبق عليه مواصفات الضحية التي وردت في المواثيق والقرارات الدولية، (مثل التسلط الذكوري، وعدم المساواة في الأجر، وحرية الجسد، وسواها...). ما يعني أنّ المقصود بهذه "الضحية" التي يجب إنقاذها هي المرأة في البلدان غير الغربية، وتحديداً في البلدان والمجتمعات العربية والإسلامية. 
2. لم تقتصر مواثيق الأمم المتحدة على تشخيص واقع "الضحية" فقط، بل تحول هذا التشخيص إلى مشاريع لتغيير الأنظمة والقوانين والتصورات الثقافية والأدوار المجتمعية تجاه كل من الرجل والمرأة والأسرة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، التي اعتبرت مسؤولة عن واقع هذه "الضحية". وقد أعلنت هذه المشاريع صراحة أنها تريد تغيير الثقافات المتعلقة بهذه الأدوار التي تشكلت عبر مئات السنين، خلافاً للحق الإنساني في التعدد الثقافي. وسوف تقوم الجمعيات وهيئات المجتمع المدني بحملات منظمة ودؤوبة لتغيير مناهج التعليم في المدارس، بهدف تشكيل وعي جديد وثقافة جديدة تجاه أدوار كل من الرجل والمرأة.
إن التوقف عند اختلاف قضية المرأة بين مجتمع وآخر، لا يبدو كافياً، على الرغم من أهميته وضرورته العلمية والمنهجية. فثمة سؤال لا يقل أهمية عن ذلك الاختلاف، لا بد أن نطرحه مهما رفعت قضية المرأة إلى المصاف الإنساني (تمكين المرأة هو تمكين للإنسانية جمعاء، الأمم المتحدة) وهذا السؤال هو: مع أي نموذج مرجعي (ثقافي، أو أخلاقي، أو قانوني، أو ديني) يجب أن نعقد المقارنة، عندما نقرر أن وضع المرأة سيء، أو هي "ضحية" في مجتمعاتنا، وعندما نقرر أن ننتقل بهذا الوضع إلى ما هو أفضل؟ أي ما هو السيء وما هو الأفضل؟ كيف نحدد معايير هذا السيء وهذا الأفضل؟
لقد اعتمدت الجمعيات النسائية الناشطة في لبنان وفي بلدان عربية أخرى، مرجعية الأمم المتحدة وقراراتها مثل اتفاقية سيداو، ووثائق مؤتمر بكين (بيجين)، عندما اعتبرت على سبيل المثال، أنّ الأمومة هي دور "نمطي"، أنتجته ثقافة المجتمع، وليس أنوثة المرأة وطبيعتها الفيزيولوجية والعاطفية والسيكولوجية. وأن المساواة المطلوبة بين الرجل والمرأة تفترض تغيير هذا الدور النمطي، من خلال تغيير الثقافة المجتمعية التي أنتجته. وهذا ما تقوم به الجمعيات المدنية لتغيير مناهج التعليم في ما يتعلق بصورة المرأة وصورة الرجل.
كما اعتبرت هذه الجمعيات المثلية الجنسية "حق في الاختلاف"، (التنوع الهوياتي والجنساني) ودافعت عن "كل أشكال الأسرة" (الأسرة من الجنس نفسه)... والسؤال هو إلى أي مرجعية استندت الأمم المتحدة، ومن بعدها الجمعيات النسائية، في رفضها على سبيل المثال لنمطية الدور الأمومي؟ وفي الدعوة إلى تغييره؟ وأي مرجعية ثقافية كانت خلف قبول المثلية، باعتبارها "حق في الاختلاف"، أو خلف الدعوة إلى نموذج الأسرة من الجنس نفسه (رجلين أو امرأتين) وتجاوز شكل الأسرة "التقليدي" الذي عرفته البشرية منذ ملايين السنين؟  
إن المرجع هنا هو بكل تأكيد النموذج الثقافي والمجتمعي الغربي، الذي بدأ الانتقال على المستويات التربوية والتعليمية وحتى القانونية إلى تغيير الصورة النمطية للعائلة من عائلة من جنسين إلى عائلة من جنس واحد.
إن الترويج لهذا النموذج الغربي في المجتمعات العربية والإسلامية، هو تهميش مباشر لثقافات شعوب بأكملها، لها رؤيتها وثقافتها الخاصة تجاه الأسرة وتجاه المرأة وتجاه الأمومة، التي تختلف وربما تتناقض مع مثل هذه الرؤية في الثقافة الغربية. هذه الثقافة (العربية والإسلامية) تتمسك بالشكل الوحيد والتقليدي للأسرة، وترفض المثلية، وتقدس الدور الأمومي، وتعتبره طريقاً إلى الجنة التي يسعى المؤمن إلى الفوز بها. إن ما يحصل على هذا الصعيد هو عودة إلى رسالة الغرب الحضارية المزعومة في "تمدين" الشعوب "المتخلفة" التي برر بها حملاته العسكرية لاحتلال شعوب العالم في القرن التاسع عشر. إنها عملياً عودة إلى الماضي وليست دعوة إلى المستقبل.   
ماذا لو اقترحنا أن ننظر إلى المرأة من مرجعية ثقافية أخرى (دينية، أو أخلاقية)، تعتبر عري النساء على سبيل المثال، أو استباحة أجسادهن في الحياة العامة والاستهلاكية، هو الذي جعل المرأة "ضحية"، يجب الانتصار لها وتغيير "الثقافة المتوحشة" (مقابل الثقافة الذكورية) التي أدت إلى هذا الوضع اللاأخلاقي واللاإنساني تجاه المرأة؟ مَن يستطيع أن يمنعنا من التفكير بهذه الطريقة، أو أن يقول لنا أنّ ما نفكر فيه هو خطأ إذا كان المعيار هو الثقافة التي ننتمي إليها، والتي تنظر من خلالها إلى المرأة وإلى أدوارها الإنسانية والاجتماعية، والتي تقول الأمم المتحدة نفسها أنها تحترمها وتحترم معها حرية الاعتقاد الديني؟ 
يمكننا استناداً إلى هذه المرجعية الدينية الأخلاقية أن نطلب من الأمم المتحدة أن تصدر المواثيق والبرامج والمشاريع لتغيير هذه الصورة النمطية الاستهلاكية الجسدية "المتوحشة" واللاإنسانية عن المرأة. أي أن على الأمم المتحدة، والجمعيات النسائية التي تعمل في ظلها، أن تقبل وتحترم بلا أي تردد أو مواربة، أدوار المرأة بما هي نتاج ثقافة المجتمع الذي تعيش فيه وتنتمي إليه. وأن على الأمم المتحدة ألا تفرض على الشعوب نظراً لثقافاتها المختلفة نموذجاً واحداً هو نموذج ما يجري من تحولات في واقع المرأة في الغرب، وما يصدر هناك من قوانين أو تشريعات. 
كيف يمكن من منظور علمي القبول بنظرة تقدم المرأة، كـ"كائن محايد" و"سلبي"، و"ضحية"، يتعرض إلى العنف، والتمييز، والإكراه، والتعدي..من دون أن يكون لهذا "الكائن" أي دور، أو أي رد فعل، أو أي تأثير في ما يجري من حوله. فما هو مؤكد أن وضع المرأة الثقافي، أو الاجتماعي، أو الأخلاقي، يؤثر سلباً أو إيجاباً على نظرتها إلى نفسها، وعلى دورها، وعلى علاقاتها الاجتماعية والأسرية. ما يعني أنّ المرأة على سبيل المثال، قد تكون في ظروف معينة، مثل الرجل، شريكة في حصول العنف داخل الأسرة، أو غير جديرة بتربية أبنائها، وقد تكون مسؤولة عن ظلم الأبناء والإساءة اليهم، وقد تكون في بعض الحالات مسؤولة عن ظلم الرجل، وقد تكون عدوانية... ما يعني في الإطار العلمي أنّ وضع المرأة ليس شأناً أنثوياً خاصاً مستقلاً ومعزولاً، بل هو نتاج عملية من التفاعل في العلاقات بينها وبين ذاتها، ومع أسرتها، ومع المجتمع، ومع الثقافة والأنظمة والتشريعات الدينية والقانونية. ولا يمكن أن ننتزع المرأة من هذا الكل المركب والمتداخل من حيث التأثير، وأن نكتفي بالقول أنها ضحية فقط وأنها قضية مستقلة.  
قامت الحركات والجمعيات النسائية التي التزمت مواثيق ومقررات الأمم المتحدة تجاه المرأة، بالربط بين واقع المرأة "الضحية" وبين تغيير ثقافة ما اعتبرته "المجتمع المتخلف" وقوانينه وتشريعاته وعاداته.
ولم تعر تلك الحركات والجمعيات أي اهتمام لخصوصية المجتمعات المختلفة التي تنتمي غليها النساء. كان الجندر أحد أبرز الأطروحات الفكرية التي ستتحول إلى برامج تعليمية وتدريبية للنساء والرجال، من أجل تغيير ثقافة "المجتمع المتخلف".  
 بدأ الجندر كمفهوم ثقافي يرفض التمييز بين الرجل والمرأة على أساس الجنس (الذكورة والأنوثة) ويعتبر أن هذا التمييز هو تمييز اجتماعي وظالم بحق المرأة، لأنه يمنع المساواة بين الجنسين. وقد تم الربط بين هذا التمييز وبين ثقافة المجتمع التي أنتجته. ولذا يجب، بحسب منظور الجندر تغيير هذه الثقافة، وتغيير الأدوار النمطية التي تقدم المرأة في صورة الأم على سبيل المثال، أو تقدمها على المستوى الجنسي أنها بحاجة للرجل. بهذا المعنى بات من غير المقبول بالنسبة إلى الجندر أن يرى الطفل في أي كتاب من كتب القراءة أو التربية، في أي بلد عربي أو إسلامي صورة للأم وهي تحتضن طفلها، أو تطبخ لأولادها... فهذه صور نمطية تعكس الأدوار التقليدية بين الرجل والمرأة. ولذا يجب أن تلغى مثل هذه الصور أو أن يضاف إليها صورة للرجل وهو يقوم بالأمور نفسها في البيت. كذلك الأمر بالنسبة لصورة الرجل "التقليدية" في مكان العمل أو في نوع العمل. الجندر لا يقبل الصورة النمطية التي تميز بين أي عمل للرجل وأي عمل للمرأة.
تطورت فكرة الجندر تدريجاً من الدفاع عن المساواة بين الرجل والمرأة، إلى اعتبار العلاقات بين الجنسين مثابة علاقات نمطية، تكرس تبعية المرأة والهيمنة الذكورية، ولا تعترف بحق الإنسان بالتصرف بجسده وبتحقيق إشباعاته كما يشاء. لذا وصلت أطروحة الجندر إلى الدفاع عن الأسرة من الجنس نفسه (رجلين أو امرأتين) وعن العلاقات بين شخصين من الجنس نفسه بذريعة أن التغاير الجنسي (الذكورة والأنوثة) ليس دافعاً طبيعياً ثابتاً، بل هو ممارسة نمطية اجتماعية، يمكن تغييرها إذا تغيرت الثقافة الاجتماعية. 
كانت "اتفاقية سيداو" للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة الأساس الذي ستستند إليه أطروحات الجندر ومشاريع تغيير الأفكار والعادات الثقافية والمجتمعية. 


ما هي سيداو؟ 
عملت الأمم المتحدة من خلال الشرعة الدولية لحقوق الإنسان على تأكيد مبدأ المساواة وحق كل إنسان في التمتع بالحقوق والحريات دون تمييز بما في ذلك التمييز على أساس الجنس، كما عملت على ترجمة هذا المبدأ من خلال عدد من الاتفاقيات الخاصة بقضايا النساء ومنها:
 الاتفاقية الخاصة بالحقوق السياسية للمرأة عام 1952.
 الاتفاقية الدولية بشأن جنسية المرأة المتزوجة عام 1957 .
 اتفاقية الرضا بالزواج والحد الأدنى لسن الزواج عام 1962.

تم التوصل إلى صياغة الإعلان العالمي للقضاء على التمييز ضد المرأة عام 1967، ولكنه بقي إعلانا غير ملزم ولم يضع الدول أمام التزامات واجبة التنفيذ، كونه لم يتخذ شكل الاتفاقية فكانت "سيداو" أو اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة المعروفة باتفاقية كوبنهاغن أو شرعة حقوق المرأة والتي تبنتها الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 18 كانون أول/ ديسمبر 1979 وقد دخلت حيز التنفيذ في 3\9\1981 وصارت جزءا من القانون الدولي لحقوق الإنسان.
 استندت "اتفاقية سيداو" إلى مبدأ المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات. لكن خصوصية هذه الاتفاقية التي استدعت التوقف عندها والتي أثارت اعتراض الكثير من الدول التي لم توقع عليها أنها "ستكون ملزمة للدول الأطراف"، التي يجب عليها أن تقدم تقارير دورية إلى لجنة تعينها الأمم المتحدة تبين فيها مدى التقدم في تطبيق هذه الاتفاقية. لكن هذه التحفظات لم تكن موضع تفهم، أو قبول، كما يفترض "التعدد الثقافي"، بل اعتبرت تلك التحفظات أنها تتناقض وموضوع الاتفاقية والغرض منها، وهو القضاء على التمييز ضد المرأة، "فهي كل لا يتجزأ، ولا يمكن تحقيق المساواة الحقيقية لناحية التعليم والعمل والمشاركة في الحياة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، والمرأة تخضع لولاية الرجل في العائلة وتعتبر ناقصة الأهلية في العلاقات الأسرية". 
لا تترك الاتفاقية الدول الموقّعة  تعمل كما تشاء، بل تتعامل الاتفاقية مع نفسها باعتبارها قانوناً دولياً يستوجب الإخلال به اللجوء إلى المحكمة الدولية!!! (المادة/ 29، حول التحكيم بين الدول والرجوع إلى محكمة العدل الدولية). كما طلبت المادة 18 من الدول الأطراف "أن تقدم إلى الأمين العام للأمم المتحدة للنظر من قبل اللجنة تقريراً عاماً عما اتخذته من تدابير تشريعية وقضائية وإدارية وغيرها من أجل إنفاذ أحكام هذه الاتفاقية وعن التقدم المحرز في هذا الصدد"..
ودعت (المادة 2) من اتفاقية "سيداو" جميع الحكومات إلى إدماج مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في دساتيرها الوطنية أو تشريعاتها المناسبة الأخرى، وكفالة التحقيق العملي لهذا المبدأ من خلال التشريع وغيره من الوسائل المناسبة، منها، تغيير أو إبطال القائم من القوانين والأنظمة والأعراف والممارسات التي تشكل تمييزاً ضد المرأة. 
 كما حددت "سيداو" في المادة (5) مختلف المجالات التي يجدر بالدول العمل عليها للقضاء على التمييز، وهي تشمل الأدوار الجندرية والتنميط والأعراف. (أي التغيير الثقافي). 
لذا على الدول الأطراف أن تتخذ جميع التدابير المناسبة لتحقيق ما يلي:
 تغيير الأنماط الاجتماعية والثقافية لسلوك الرجل والمرأة، بهدف تحقيق القضاء على التحيزات والعادات العرفية وكل الممارسات الأخرى القائمة على الاعتقاد بكون أي من الجنسين أدنى أو أعلى من الآخر، أو على أدوار نمطية للرجل والمرأة... (موقع المجلس النسائي الديمقراطي اللبناني)
  وجاء في المادة 10من الاتفاقية نفسها:

ج- القضاء على أي مفهوم نمطي عن دور الرجل ودور المرأة في جميع مراحل التعليم بجميع أشكاله، عن طريق تشجيع التعليم المختلط، وغيره من أنواع التعليم التي تساعد في تحقيق هذا الهدف، ولا سيما عن طريق تنقيح كتب الدراسة والبرامج المدرسية وتكييف أساليب التعليم...
إذا تريد هذه الاتفاقيات الدولية تغيير الأنماط الاجتماعية والثقافية، والقضاء على التحيزات وعلى العادات العرفية، وعلى الأدوار النمطية للرجل والمرأة.. من أجل تطبيق ما صدر من  مواثيق عن الأمم المتحدة ومؤتمراتها حول المرأة. لكن هذه العادات، وهذه الأدوار المقصودة  ليست في بلاد الغرب بل هي في البلاد الأخرى غير الغربية.

تربط "اتفاقية سيداو" أيضاً بشكل غريب ولافت، المساواة بين الرجل والمرأة، بالسلام الدولي وبرفاهية العالم... ويبدو أن المقصود من هذا الربط مع السلام الدولي إضفاء أهمية عالمية على الاتفاقية التي تقول:

"وإيمانا منها بأن التنمية التامة والكاملة لأي بلد، ورفاهية العالم، وقضية السلم، تتطلب جميعا مشاركة المرأة، على قدم المساواة مع الرجل، أقصى مشاركة ممكنة في جميع الميادين..." 
فما هو المقصود برفاهية العالم؟ وكيف يمكن أن تحقق المساواة بين الرجل والمرأة هذه الرفاهية إذا كانت الشركات الكبرى تنهب الاقتصاد العالمي والفقراء يزدادون فقراً ويزدادون عدداً؟  
وكيف يمكن للمساواة أن تحقق السلم العالمي، إذا كانت مشاركة المرأة السياسية ليست سوى انعكاس أو تطبيق لسياسة بلادها تجاه هذه القضية أو تلك.. كما تؤكد التجربة أن مشاركة المرأة لم تغير شيئاً في الوقع السياسي العالمي ولم تجلب السلام المنشود.

ففي التجربة الغربية حيث المساواة واضحة في المشاركة بين الرجل والمرأة، لم تجلب هذه المشاركة للنساء في سياسات بلادهن (وزيرة خارجية، أو وزيرة دفاع، أو رئيسة حكومة...) السلام العالمي. وحتى مع مشاركة النساء على قدم المساواة مع الرجل لم تتوقف الحروب، ولم تدع النساء إلى سياسات أكثر رحمة أو أكثر عدلاً أو حناناً، بل قامت المرأة بالتحريض على الحرب والقتل مثل يفعل الرجل تماماً. ما ينفي أي علاقة بين مشاركة المرأة على قدم المساواة مع الرجل وبين السلم العالمي. فـ "كوندوليزا رايس" وزيرة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس جورج بوش الابن، كانت تريد من "إسرائيل" استمرار العدوان على لبنان عام 2006 انسجاماً مع سياسات بلادها، علماً بأن هذا العدوان لم يوفر النساء ولا الأطفال، ولا حتى البنى التحتية، أو الجسور والطرقات... كانت هذه الإمرأة تريد أن تستمر آلة القتل من دون توقف. فما الذي أضيف إلى السلم العالمي عندما أصبحت امرأة وزيرة للخارجية في الولايات المتحدة؟ 
إن السلم العالمي المفترض لا علاقة له البتة بوصول امرأة إلى المواقع التي وصل إليها الرجل. نحن هنا أمام عملية تضليل لتبرير أهمية الجندر (المساواة، ورفض الأدوار النمطية) لأن السلم العالمي يخضع من حيث شروط تحققه لسياسات الدول وليس للاختلاف في الأدوار بين الرجل والمرأة. 
ينطبق الأمر على "تسيبي ليفني" وزيرة الخارجية الإسرائيلية. ماذا فعلت هذه الإمرأة ليس للسلم العالمي، بل للسلم في فلسطين التي ترزح تحت احتلال تنتمي إليه هذه الإمرأة؟ كيف يستطيع الجندر (مشاركة المرأة على قدم المساواة مع الرجل) أن يجرؤ على الإدعاء أن هذه المشاركة ستحقق السلم العالمي؟ من سيصدق هذه التفاهات التي تكذبها ممارسات النساء عندما لا يفعلن سوى التقيد بما تمليه عليهن سياسات رؤسائهن من الرجال أو حتى من النساء؟ لم تغير هذه المشاركة شيئا على الإطلاق. لأن الحرب أو السلم لا علاقة لها بمشاركة المرأة على قدم المساواة مع الرجل، أو بعدم حصول هذه المشاركة. سياسات الحرب والسلم لها علاقة بمصالح الدول وبأهدافها في التوسع والعدوان، أو بالتعاون وتحقيق السلام. وهل يستطيع دعاة هذه الفرضية (ربط المساواة بالسلم العالمي) أن يقدموا لنا نموذجاً على كيفية تحقق هذا الأمر؟
وهل حصلت الحرب العالمية الأولى ثم الحرب الثانية لأن المرأة لم تكن شريكة على قدم المساواة مع الرجل في المواقع والأدوار؟ وهل توقفت الحرب لاحقاً وتم توقيع اتفاقيات سلام لأن المرأة باتت شريكاً مع الرجل؟ وهل عاش العالم الحرب الباردة طوال خمسين عاماً بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وتم تهديد السلم العالمي بنشوب الحرب مرات عدة، لأن المرأة لم تكن تشارك على قدم المساواة مع الرجل؟ وهل ذهبت الولايات المتحدة إلى الحرب في فيتنام، وشنتها على العراق، وعلى أفغانستان، لأن المساواة كانت غائبة بين الرجل والمرأة؟ إن هذا ما لا يقبله عقل، ولا تقبله أدبيات العلوم السياسية التي تدرس في الجامعات.
تبدو حجة الجندر واتفاقية سيداو ضعيفة ومخادعة وهي تتلاعب بالوعي، عندما تريد أن تضفي أهمية إنسانية عالمية على دور المساواة بين الرجل والمرأة في تحقيق السلم العالمي. 
الجندر تتمة لسيداو:
وضع الجندر المرأة في مواجهة مع الرجل، ومع الأسرة، ومع المجتمع، من خلال مؤتمرات الأمم المتحدة وتوجهاتها الفكرية، التي تبنتها وحملتها حركات نسائية عدة، وجمعيات مدنية مختلفة. وقد أدت هذه المواجهة إلى التشكيك وحتى رفض الأدوار المعروفة منذ فجر التاريخ للرجل والمرأة، والدعوة إلى تغيير النظام الأسري، وسلطة الوالدين على الأبناء، وإطلاق حرية المرأة، وصولاً إلى عدم القبول "بنمطية الدور الأمومي". 
 إن التغير العميق الذي طرحه الجندر لا يقتصر على ظاهر التمكين والكوتا ورفض التعنيف...بل هو في اعتبار أن المرأة وليس الأسرة هي القضية الأساس. وأن هذه القضية هي مقياس التقدم والتمدن، ومقياس مدى الانخراط في العصر ومواكبته. (د. طلال عتريسي، تحديات الإرشاد الأسري في البلدان الإسلامية، ورقة بحثية قدمت في مؤتمر "واقع الإرشاد الأسري وآفاق تطويره" الذي عقده مركز أمان في بيروت في 12/1/2017).
هذه الأسئلة الجديدة التي زعزعت الاطمئنان السابق بمرجعية الأسرة والسلطة وتوزيع الأدوار فيها، في مجتمعاتنا، ستلعب دوراً مهماً في التأثير على طبيعة المشكلات الأسرية التي ستنشأ لاحقاً، خصوصاً تلك التي تتصل بكيان الأسرة وموقع المرأة ودورها وسلطة الزوج والتمكين وأسباب الطلاق...
إن التحولات التي حصلت في الغرب تجاه قضية المرأة وأدت إلى أفكار سيداو والجندر كانت نتيجة مباشرة لتلك القطيعة التي حصلت مع الدين (الكنيسة)، وما تبعها من قطيعة ما كل ما يمت إلى الدين من ضوابط أخلاقية، أو أسرية، أو سلوكية. 
باتت المرأة بحسب هذه التحولات مثل الرجل من حيث الحريات والحركة والتنقل. أي لم يعد للنساء أماكن خاصة، كما كان الأمر في عصور سابقة في أوروبا، ولم يعد لهنّ أزياء خاصة بهنّ، ولم يعد لحركة جسدهن خصوصية معينة، بل باتت حرية الجسد في الحركة والتواجد في أي مكان، ملازمة للتصرف بهذا الجسد بحسب الحرية الفردية والشخصية. 
إنّ الغرب الذي قدم نفسه مدافعاً عن قضية المرأة في العالم، وخصوصاً في بلادنا لا يبدو مقنعاً على الإطلاق. 
هذا الغرب الذي لا يتورع عن فعل أي شيء من أجل الهيمنة والسيطرة والاحتلال (رمي القنابل النووية في ناكازاكي وهيروشيما، الحرب على فيتنام، احتلال أفغانستان، احتلال العراق، نهب خيرات أفريقيا، العقوبات الاقتصادية على أكثر من دولة من دول العالم...) هل يمكن أن يكون رحيماً وعادلاً ومنصفاً تجاه الشعوب في قضايا الإنسان والمرأة والأسرة...؟ أي هل يمكن أن نصدّق اجتماع نقيضين في سلوك طرف واحد؟ الوحشية والرحمة!! 
إنّ الغرب الذي يدافع عن قضية المرأة، وكذلك الأمم المتحدة ومؤتمراتها عن المرأة، تتجاهل ما تتعرض له النساء والأمهات والفتيات تحت الاحتلال في فلسطين على سبيل المثال، حيث القتل والاعتقال والتعذيب. أو ما تعيشه النساء في بلدان أخرى بسبب الاحتلال الأميركي، أو العقوبات الأميركية... هنا لا قضية للمرأة من وجهة نظر الجندر. لأنها ذات أبعاد سياسية.
وطالما لم تتجرأ هذه المؤتمرات على توجيه النقد إلى الأسر المنحرفة (أسر من جنس واحد)، وإلى العلاقات المثلية... (التي بات الغرب يعتبرها طبيعية ومشروعة)، فإنها ستبقى مؤتمرات متحيزة.
وطالما لم تعترف مؤتمرات الدفاع عن المرأة (الجندر والمساواة والتمكين) باختلاف قضية المرأة من ثقافة إلى أخرى... فهذا يعني أنّ هذه المؤتمرات التي تدافع عن الجندر، لا تبالي بثقافة الشعوب الأخرى، وتتبنى من موقع التعالي وجهة نظر واحدة هي وجهة النظر الثقافية الغربية. ومثل هذا الانحياز للثقافة الغربية، لم يعد مبهراً ولم يعد جذاباً...


إنقاذ "المرأة الضحية" من المجتمع المتخلف:
كيف ربطت الحركات النسائية في لبنان بين واقع المرأة "الضحية"، وبين الدعوات إلى تغيير ثقافة "المجتمع المتخلف" وقوانينه وتشريعاته وعاداته، لإنقاذ هذه "الضحية" من ذلك المجتمع؟ 
استخدمت الحركة النسائية مجموعة من المصطلحات تكررت في أدبياتها ومنشوراتها وفي دوراتها التدريبية الموجهة إلى النساء، وإلى الرأي العام، بحيث تحولت إلى مفاهيم مرجعية فرضت نفسها عندما تطرح قضية المرأة على بساط البحث أو النقاش. وكان من اللافت تنوع تلك المفاهيم التي لم تقتصر على جانب واحد من واقع المرأة، مثل "كفى عنف واستغلال" على سبيل المثال، بل اتسعت تلك المفاهيم لتطال جوانب مختلفة من حياة المرأة ومن علاقاتها الاجتماعية والإنسانية والثقافية. هكذا انتقلت المطالبة من الكوتا النسائية، والحق في جنسية الأولاد، إلى تغيير قانون الأحوال الشخصية، ورفض الزواج المبكر، وطلب المساواة، والتدخل ضد العنف الأسري، وصولاً إلى الحق في علاقات، وفي أسرة، مع شريك من الجنس نفسه.

كما استخدمت هذه الحركة في كل المناسبات والمؤتمرات ما يدل على "تخلف المجتمع"، وما يستدعي التصدي "للثقافة التقليدية"، ومن ذلك على سبيل المثال:
 القوانين الذكورية.
 النظام الأبوي (ظالم ويجب إلغاءه).
 الذهنية المجتمعية السائدة والموروثة.
 قوانين الأحوال الشخصية تمييزية ضد النساء (الطلاق، الإرث، الوصاية).
 سيطرة المجتمع البطريركي والرجال على جسد المرأة.
 تخلف المجتمع سببه تخلف المرأة.
  لا نهضة للعرب والمسلمين من غير نهضة النساء.
 تغيير العقليات الذكورية المتخلفة.
 قانون حماية النساء من العنف الأسري.
 مفاهيم الشرف والحماية مفاهيم ذكورية أبوية.
 التمييز الجندري يشكل عائق أساسي في عملية التنمية.
 تنديد بالتخويف من المثلية "رهاب المثلية".
 تحقيق المساواة بين الجنسين شرط من شروط التنمية.
 إعادة الاعتبار لموقع النساء في الأسرة من موقع التابع إلى موقع الشريك.
 إقرار قانون مدني موحد للأحوال الشخصية يحمي الطفلات من الزواج المبكر، ويساوي بين المواطنين والمواطنات بغض النظر عن انتمائهم الطائفي، كما ويعيد للدولة دورها في تنظيم أحوالهم الشخصية.
 كي لا تبقى مصائر النساء تحت رحمة رجال الدين.
 الاغتصاب الزوجي (عنف أسري).
 رفض الزواج المبكر (زواج القاصرات).
 على الرغم من الفروقات الشاسعة بين قوانين الأحوال الشخصية للطوائف الـ١٨ إلا أنها جميعها تجتمع على التمييز ضد المرأة في النص والممارسة وتضعها في موقع التابع للرجل.
 هذه القوانين الرجعية والذكورية التي تميّز ضد النساء، وبين النساء، هي شكل من أشكال العنف الذي تواجهه النساء في لبنان. إذ إنّ الكثير منهن يبقين في علاقات عنفية ويقمن بمساومات على سلامتهن وأمنهن، خوفاً من خسارة حقوق أو فقدان حضانة أطفالهن.   
كيف وبأي أساليب عملت بعض الحركات والجمعيات النسائية في لبنان على الترويج لقضية المرأة وفق ما سبقت الإشارة إليه من مفاهيم وقيم وأدوار؟
اعتمدت هذه الحركات والجمعيات، في أدبياتها المنشورة وفي ورشها التدريبية، وفي الإعلانات التي روجت لها، ما صدر عن الأمم المتحدة من قرارات ووثائق، ودعوات تتعلق بقضية المرأة، لكي تؤكد أن ما تقوم به وتدعو إليه له مرجعية دولية قوية لا يمكن الاعتراض عليها. من ذلك على سبيل المثال، اتفاقية سيداو (القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة 1979) المؤلفة من 30 مادة في قالب قانوني ملزم، والتي توصي باتخاذ خطوات تستهدف تعديل الأنماط الاجتماعية والثقافية التي تؤدي إلى إدامة هذا التمييز (مقدمة اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة ص2). إلى "مؤتمر بيجين 1995"(بكين) الذي صدرت عنه مجموعة من القرارات والتوصيات المتعلقة بوضع المرأة والتي قال عنها أمين عام الأمم المتحدة بطرس غالي في ذلك الوقت، في تقديمه لكتاب "إعلان ومنهج عمل بيجين" "لا بد وأن نكفل جميعاً أن تؤدي القرارات التي توصلنا إليها هنا إلى تغيير العالم" (ص7).
بموازاة ذلك عملت هذه الجمعيات على استصدار قوانين محلية في لبنان لجعل ما جاء في تلك المواثيق والاتفاقيات الدولية قوانين يجب تطبيقها، ومعاقبة من يخل بها. كما جاء في قانون الحد من العنف الأسري الذي تقدمت به مجموعة من الجمعيات، والذي أقر في المجلس النيابي عام 2014، لتعود هذه الجمعيات إلى المطالبة مجدداً بتعديل بعض تلك البنود التي اعتبرتها غير كافية في موضع التمييز وحماية المرأة. 
كما قامت هذه الجمعيات بمجموعة من الأنشطة مثل تنظيم تظاهرات، وعقد مؤتمرات، وورش توعية تدريبية للنساء، (ضد قانون الأحوال الشخصية، وعرض فيلم وثائقي يروي معاناة ٧ سيدات مع المحاكم الدينية في لبنان). واستقبال معنفات، "يجب على المرأة أن لا تسكت ولا تدع أيّ مشكلة تتفاقم من البداية، تبليغ أهلها أو أي مغفر أو الاتصال بنا".
 وتعاونت هذه الجمعيات مع قوى الأمن الداخلي، لتنظيم كيفية التدخل لدى الأسر عند حصول حالات تعنيف، وكيفية التعامل مع المعنفات عندما يلجأن إلى المخافر المختصة.
ووضعت "كفى" برامج تهدف إلى تربية الأطفال والشباب على مبادئ المساواة بين الجنسين. كما قامت "كفى" (بالشراكة مع أوكسفام بريطانيا وبدعم من الاتحاد الأوروبي)، بتنظيم منتديات للرجال من خلال تدريب مدربين، ومدربات من جمعيات أهلية ومراكز إنمائية تابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية على مقاربات واستراتيجيات إشراك الرجال لمناهضة العنف ضد المرأة. وعملت "كفى" على تطوير أربع كتيبات إرشادية تستهدف العمل مع الرجال في مواقع أساسية: محامين وقضاة، وسياسيين، ورجال دين، ورجال الشرطة. وتوضع هذه الكتيبات بتصرف المدربين والمدربات. أي أن المقصود التوجه إلى قطاعات من النخب في المجالات كافة السياسية والقضائية والدينية والأمنية.
وتلخص جمعية "أبعاد" الهدف من تلك الأنشطة، التي تمسكت بها يوماً بعد يوم، "وهو العمل التشاركي الإيجابي والمتعدد الاختصاصات والقطاعات وهو الركيزة الأساسية لأي عملية تغيير اجتماعي ومجتمعي"..
كما عملت جمعية "كفى" كنموذج آخر على التشبيك والتعاون مع جمعيات مماثلة في دول عربية أخرى مثل الأردن وسوريا، "لتوثيق التشبيك بين المدافعين عن حقوق المرأة، وبناء تحالفات وشراكات على المستويين المحلي والعربي مع المنظمات النسائية والتنموية التي تنشط في مجال مناهضة العنف المبني على النوع الاجتماعي، ووزارة الشؤون الاجتماعية ومراكز الخدمات الإنمائية التابعة لها، بالإضافة إلى وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية. 


ما هي التوصيات التي يمكن تقديمها في هذا المجال؟
 يجب ألا يقتصر الرد على هذه الأطروحات والأفكار على المرجعيات الدينية. ويجب ألا يبقى مثل هذا النقاش محصوراً في الأطر الخاصة. بل يجب أن يتخذ طابعاً علمياً جامعياً، بالدرجة الأولى. لأن الطلاب الجامعيين (الذكور والإناث) هم أكثر المستهدفين بتلك الأطروحات. وهذا يفرض مشاركة الباحثين والمثقفين الملتزمين بمثل هذا النقاش.
  أن نقدم مفاهيمنا بشكل صلب وواضح، بأساليب علمية ومنطقية.
 ألا نخشى تهمة "التخلف عن العصر" إذا تمسكنا بنظام الأسرة التقليدي، أو رفضنا تشريع المثلية.
 أن تقدم مشاريع قوانين مقابلة، لإقرارها في مجلس النواب تستهدف حماية الأسرة على المستويات كافة.
  أن تتم دراسة جوانب الواقع السلبي تجاه المرأة والأسرة، بشكل علمي، ليتم تقديم المقترحات المناسبة لمعالجة هذه الجوانب في الإطار الأخلاقي والتشريعي المناسب.
 أن يتم التنسيق مع المرجعيات المختلفة الإسلامية والمسيحية لمواجهة هذا التهديد الأخلاقي المشترك.
 الاستفادة من المناسبات مثل عيد الأم، ويوم المرأة، وسواها من مناسبات، لنشر إعلانات تحمل شعارات تعّبر عن توجهات مختلفة، مثل عيد الأم "عيد التضحية والوفاء"، أو يوم المرأة هو "يوم الكرامة والعفاف" وهكذا... والمقصود هو ترسيخ مفاهيم مغايرة تنسجم مع الرؤية الأخلاقية والإسلامية.
 أن تعقد الدورات والورش التدريبية للنساء والرجال حول القضايا المطروحة لمناقشتها بشكل علمي وتوضيح أهدافها.  

التعليقات (0)

اترك تعليق