لكنّ الأمّ تابعت، بلغة صاغ الشهيد حروفها قبل شهادته: لقد حان وقت البدلة يا بنيّ..
لم يكن أمير (3 أعوام) يقتنع بأنّ النائم في الداخل هو والده "أبو ساجد"، فراح يصرّ على عمّه أن يصحبه الى حيث اعتادا على ملاقاة الوالد الحنون، قائلاً:
- ذاك النائم ليس أبي يا عمي! هيّا نذهب لنلاقيه عائداً من عمله، فوالدي لا يوفّر فرصة لاحتضاني.. إذ كيف يراني ويظلّ هادئاً هكذا؟
ثمّ راح يطلب من والده الشهيد، عندما اختلى الأطفال بوالدهم المسجّى، أن ينهض من سريره "غير الجميل"، لأنّ السبات لا يليق بفرسانٍ ضاقت بهم صحراء الحياة، فارتحلوا إلى عدن الجنان.
بين الشهيد حسين العنقوني وطفله الصغير،حكاياتٌ كثيرة، إذ لا يفارق "أمير" حضن والده، ولا ركبتيه، ولا مشاويره أينما ذهب، قائلاً لمن يسأله عن سرّ هذا التعلق بالصغير:
- نصيبي من هذا الطفل قليل..
إذاً لم تكن الشهادة مفاجئة لعائلة الشّهيد، ليس فقط لأنّ شقيقه "علي" قد استشهد وخلّد اسمه بين شهداء ميدون، بل لأنّ "حسين"، المجاهد طيلة سنين حياته، عاش مع عائلته حقيقة التحاقه بركب الخالدين، فلا يبرح أن يتكلّم عن الوفادة، ويطمح إليها، وفي آخر شهرين قبيل شهادته، أصبحت واقعاً ينتظره، هو وعائلته...
- لا تفارقني الصورة في نومي ولا في يقظتي. أنت شهيدٌ يحملونك فوق الأكفّ. يأتون بك من أماكن الدفاع المقدّس.. أرى تفاصيل التشييع، وأدعو الله أن يزوّدني بالصبر والقوّة! فذلك المشهد أكثر ألماً من أي شيء آخر..
- متى ستنتقلين من صور الخيال إلى تقبّل الواقع المرسوم الذّي أبغيه؟ هذه الأحلام هي صورٌ تمهّد لك حقيقة ستعيشينها قريباً.. وقريباً جدّاً بإذن الله..
- بحقّ السيدة زينب عليك أن تدعو لنا من عليائك بالصبر، والقوة، والقدرة على تحمّل صعب الفراق..
وفي آخر إجازةٍ له مع عائلته، جاء يوم الاثنين، ثمّ اتّصلوا به من العمل يوم الثلاثاء كي يذهب على عجل.
لكنّ المواصلات لم تكن ميسّرةً، فعلم أنّه سينتظر حتى نهار الخميس.
لم يطق الجلوس في المنزل يوم الأربعاء، وشعرت زوجته بذلك، فقالت له:
- بعرف إنو روحك حلقت... وإنت رايح لحضن الزهراء..
فأجابها:
- نعم.. أشعر أنّ الدّنيا بأسرها صارت أضيق من الحفرة التي سأنزل فيها.. أنا مشتاق للجلوس معكم والحديث إليكم، ولا أريدكم أن تفهموني خطأً، لكنّ حيطان المنزل صارت وكأنها تطبق على صدري..
ثم جلس الأب الحنون مع عائلته الصغيرة، في لحظاتٍ يشعر بأنّها توزّع القُبل فوق جباهٍ ستكمل وحدها مسيرة أبناء الشهداء الطويلة، بدءًا من فراق الأب الرّاعي وصولاً إلى شهادةٍ تزرع الابن في جوار أبيه، زهرةً جديدةً لأمّة لا يزهر ربيعها إلا من عبق دماء الأحبة..
فـ"ساجدٌ"، ابن الأحد عشر عاماً، سيصبح كبير العائلة، و"عليّ" سيجمع من الحكايا الكثير، عن أبٍ كان لعائلته الولد البار، ولإخوته سند الأيام، ولأولاده الصديق والأخ والوالد الراعي.. أمّا أمير، ابن الثلاثة أعوامٍ، فشأنه شأنٌ آخر، إذ بين أطفال الشهداء الكثير ممّن يصنعون من الصور حياةً لأبٍ كان من حقّهم أن يعيشوا معه كل تفاصيلهم، لولا أنّه غاب خلف واجبٍ مقدّسٍ، ليضحى خيالاً لا يتوقّفون عن جمع كل تفاصيله.
فـ"هنا كان بابا، وهناك حضنني، ويوم الأمس تكلّم معي كما يفعل مع الكبار، والى المكان الفلاني اصطحبني، وكان يحبّني كثيراً..".
أمّا زوجته، فستكون أمام مسؤوليات حمل الأمانة، كما المئات من نسوةٍ تجرّعن مرارة الكأس ذاته، بصبرٍ وطيب خاطرٍ، "كرامة الحوراء.." وهي الشريكة التي كانت تشعر به في كل خطواته، ومن تعرف الآن جيّداً أنّها تودّعه الوداع الأخير.. وراح يوصيها بأن تكون قويّةً، وأن تتكل على السيدة زينب في مدّ العون لها لتحمُّل نبأ الشهادة، وإكمال المسيرة في العناية بأطفالها على أكمل وجه وصورة.
ثمّ أحضر الشهيد بدلته التي كان قد احتفظ بها منذ زمنٍ طويل، حينما كان في عمر ابنه ساجد، وقال له:
- هيّا يا بنيّ، ارتدِ هذه البدلة كي أتأكّد أنها تناسبك، أو أُجري لها بعض التعديلات.
- لا تشغل بالك يا أبا ساجد، أنا أتولّى أمرها.
- لن تملكي الوقت ولن تستطيعي.. يجب أن أقوم ببعض التفاصيل عنكِ، لأنّك ستنشغلين بأمور أخرى في الغد..
وفي الصّباح الباكر، وقبيل ذهابه، قالت له زوجته:
- أنت ذاهبٌ إلى حيث مولاتي فاطمة عليها السلام، هنيئاً لكم الشهادة وما تصلون إليه.. ادعُ لنا حتى نظلَّ أقوياء..
بقي الشّهيد على تواصلٍ مع عائلته، فاتصل يوم الاثنين 17 آذار، وأوصى بتحضيرات عيد الأم، قائلاً:
- انتو حضروا وأنا بس إجي بجيب الهدية معي.
وقال لزوجته:
- ادعيلي اتوفق لأسمع دعاء التوسل في حرم السيدة زينب عليها السلام.
في اليوم الثاني، اتصل "أبو ساجد" بعائلته. كان يضحك بصوتٍ فرح، وعندما سألوه عن مكانه أجاب:
- أنا عند حبيبة قلبي الحوراء زينب.. ومن الآن صرت حصَّتها..
- يعني صارت قريبة يا أبو ساجد؟..
- وأقرب ممّا تتصورون..
في ذلك النّهار، 18-3-2014 وبعد الظّهر، عند الساعة الثانية والنص، وفيما "أبو ساجد" يعرّف الشباب إلى المنطقة، وينبّههم الى وجود قناصّة، هبّت ريح ناعمة رافقها صوتٌ لرصاصةٍ أُطلقَت من جهة التكفيريين فأصابت أحد فرسان زينب....
ما هي إلا ساعاتٌ حتى سمع "ساجد" صوت أمّه تناديه..
- تعال يا ساجد، أحضر البدلة التي سلّمك إياها والدك..
نظر ساجد من خلف ترقّبه ودمعة عينيه، متمسّكاً بخيطٍ يريه والده ضاحكاً كما يعرفه، يحدّثه الكثير عن العالم الكبير الذي لم يدخله بعد.. لكنّ الأمّ تابعت، بلغة صاغ الشهيد حروفها قبل شهادته:
- لقد حان وقت البدلة يا بنيّ..
زينب صالح
الشهيد حسين العنقوني
مواليد مشغرة 10-1-1972
استشهد بتاريخ 18-3-2014 دفاعاً عن العتبات المقدسة
اترك تعليق