مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

حرم السيدة رقية في سوريا

حرم السيدة رقية في سوريا

ذكر المرحوم الحاج آية الله الميرزا هاشم الخراساني (المتوفّى عام 1352هـ) في منتخب التواريخ: قال لي العالم الجليل الشيخ محمّد علي الشامي وهو من جملة العلماء العاملين في النجف الأشرف: أنّ جدّ أُمّي السيد إبراهيم الدمشقي الذي ينتهي نسبه إلى السيد المرتضى علم الهدى كان في زمانه قد تجاوز عمره التسعين ويُعدّ في عصره من الأشراف والأجلّاء وكان عنده ثلاث بنات وليس له أي ذكر.
وفي واحدة من الليالي رأت ابنته الكبيرة السيّدة رقية (ع) في عالم الرؤيا وقد طلبت منها أن تخبر والدها أنّ والدها قد تسرّب إلى قبرها ولحدها ممّا تسبّب في إحداث ضرراً في بدنها الشريف وطالبتها أن تقول له بضرورة إصلاح القبر طالباً ذلك من والي الشام، فامتثلت الفتاة لذلك إلّا أنّ السيّد خشي من أهل السنّة فلم يبدِ اعتناءً بهذا المنام.
وفي الليلة الثانية تكرّر الأمر مع ابنته الوسطى وأخبرته بذلك أيضاً إلّا أنّ السيّد بقي متردّداً وخائفاً، وفي الليلة الثالثة جاءت السيّدة رقيّة (ع) لابنته الصغرى في عالم الرؤيا وجرى ما جرى سابقاً، إلى أن رأى السيّد نفسه السيّدة رقيّة في المنام في الليلة الرابعة وهي تقول له معاتبة: لماذا لم تُخبر الوالي؟!
وفي الصباح انطلق السيّد إلى والي الشام وحدّثه بالرؤيا وما حصل معه ومع بناته، فأمر الوالي علماء السنّة والشيعة بالغُسل وارتداء أنظف ثيابهم ثمّ قال لهم: إنّا سنعطي مفتاح القبر لكلّ واحد منكم، وكلّ مَن فُتح القفل بيده فهو الذي ينزل إلى القبر ويُخرج الجسد الطاهر ليتمّ إصلاحه(1)، وفعلاً فقد اغتسلوا كلّهم ولبسوا أنظف ثيابهم وذهبوا برفقة الوالي إلى القبر الطاهر وحينها لم يعمل المفتاح عمله إلّا بيد السيّد إبراهيم، وحينما حاولوا نبش القبر وحفره لم تعمل الفؤوس إلّا بيد السيّد إبراهيم وفعلاً فقد حفروه بعدما أخرجوا الناس من الحرم الشريف ثمّ شاهدوا جسد هذه الطاهرة طريّاً وهي مكفّنة إلّا أنّ الماء قد تجمّع في لحدها. فحمل السيّد الشريف هذه المخدّرة الطاهرة بيديه وأخرجها من اللحد وحملها على ذراعيه وهو يهمل عليها الدموع الجاريات على ما نزل بهذه الماجدة الصغيرة، فاستمرّ الوضع ثلاثة أيام كان السيد خلالها لا يترك هذه السيّدة العظيمة إلّا في أوقات الصلاة فكان يضعها على شيء طاهر ونظيف ويؤدّي صلاته ثمّ يعود ليحملها مرّة أخرى، ومن العجائب أنّ السيّد طيلة هذه الفترة ما كان بحاجة إلى الأكل والشرب والوضوء ببركة السيّدة رقية (ع) وهي إحدى كراماتها حتّى انتهوا من إصلاح القبر، وقام السيّد ليدفنها ولكنّه طلب من الله تعالى متوسّلاً بهذه السيّدة الماجدة أن يرزقه ولداً فحقّق الله له مرامه ورزقه ولداً سمّاه السيّد مصطفى.
ثمّ قام الوالي بنقل هذه الأعجوبة إلى السلطان عبد الحميد العثماني فأمر الأخير بجعل تولية مرقد السيّدة زينب (ع) ومرقد السيّدة رقيّة (ع) ومرقد السيدة أم كلثوم (ع) ومرقد السيّدة سكينة (ع) بيد السيّد إبراهيم ومنه انتقلت إلى ولده السيّد مصطفى ومنه إلى ولده السيّد عبّاس.
                  
موقع قبرها:
يقع قبرها الشريف على بعد مئة متر أو أكثر من المسجد الأموي بدمشق وفي باب الفراديس بالضبط وهو الباب المشهور من أبواب دمشق الشهيرة والكثيرة والذي هو باب قديم جداً وقد جدده الملك الصالح اسماعيل بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب سنة 739هـ 1241م، ويسمى الشارع الذي فيه قبرها الآن شارع مقام السيدة رقية بنت الحسين (ع) وهو متفرع من شارع الملك فيصل ويقع في حي العمارة الجوانيّة في المنطقة السابعة من دمشق القديمة.
              
تاريخ بناء المرقد:
يُعتقد أنّ تأريخ بناء المرقد الشريف يعود في أقلّ تقدير إلى أكثر من ثلاثمائة عام، (أي قبل أربعة قرون ونصف من تأريخنا الحاضر).
يقول عبد الوهاب بن أحمد الشافعي المصري المشهور بالشعراني (المتوفّى عام 973هـ) في كتاب "المنن": وأخبرني بعض الخواص أنّ رقيّة بنت الحسين (ع) في المشهد القريب من جامع دار الخليفة.. وهو معروف الآن بجامع شجرة الدّر.. والمكان الذي فيه السيّدة رقيّة عن يمينه ومكتوب على الحجر الذي ببابه: هذا البيت بقعة شرّفت بآل النبي (ص) وببنت الحسين (ع) الشهيد، رقية (ع)(2).
             
عمارات المقام:
عُمّر مرقد السيدة رقيّة في القرون الأخيرة أكثر من مرة توالت على الشكل الآتي:
العمارة الأولى:
كانت سنة 1280 وهي في الواقع تجديد لقبرها القديم وكان ذلك على يد أحد السادة الأجلّاء السيّد إبراهيم مرتضى الدمشقي، وهو جد السادة الأشراف آل المرتضى، وهم سدنة مرقد السيدة زينب بنت الإمام علي (ع)، وكان عمر هذا السيد الجليل تسعين عاماً، وقيل بأنه رضوان الله عليه توفي بعد إكمال عمارة القبر الشريف.

العمارة الثانية:
وهي تجديد للعمارة السابقة، وكانت على يد الميرزا علي أصغر خان أتابك أمين السلطان الأعظم لإيران سنة 1323هـ وقد أرّخ السيد الأمين ذلك بقوله:
                                       تمسك بالولاء لآل طه          بحبهم غداً في الحشر تُسعد
                                       وهذا باب حطة فادخلوه        وأنتم ركع لله سجد
                                       له ذو الرتبة العليا عليُّ         وزير الصدر في ايران جدّد
                                       وقد أرّختها تزهو بناءً             بقبر رقيّة من آل أحمد.
العمارة الثالثة:
وهي بالأحرى تجديد الواجهة الأماميّة للمقام الشريف وليس بناءً كاملاً للمقام، وقد تكفّل ذلك السيدان الجليلان السيد محمد علي والسيد كامل آل نظام وهما ولدا المرحوم السيد محمد نظام الدمشقي وكان ذلك عام 1334هـ.
وقد أهدى مجمع بني الزهراء في طهران عام 1376 قفصاً فضيّاً رائعاً لمرقدها الشريف وقد كُتب عليه مجمع ذكرى بني الزهراء الخالدة يتمنى قبول إهداء هذا الضريح إلى ابنته فاطمة (ع) وقد ظنوا أن القبر لفاطمة بنت الحسين وهو اشتباه فالقبر لرقية.
ونقش الخطاط على الضريح الفضي حديثاً نبويّاً شريفاً ذكره الزمخشري في تفسير الكشاف حيث قال رسول الل (ص): "من مات على حب آل محمد مات شهيداً ألا من مات على حب آل نحند مات مغفوراً له ألا من مات على حب آل محمد مات مستكمل الإيمان ألا من مات على حب آل محمد بشّره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير ألا ومن مات على حب آل محمد يُزف إلى الجنة كما تُزف العروس إلى زوجها ألا من مات على حب آل محمد فتح الله له باباً إلى الجنّة".
وقد أرّخ عام تجديد الضريح الفضي الخطيب السيد علي الهاشمي المتوفى سنة 1389 قائلاً: حلو ضريح رقية.
العمارة الرابعة والأخيرة:
نظراً لتوافد محبّي أهل البيت (ع) إلى قبر السيدة رقيّة (ع) وضيق المحل تصدّى المرحوم المغفور له الشيخ نصر الله الخلخالي لتوسعة الحرم الشريف وبمساعدة العديد من الخيّرين والموالين وفّق لشراء البيوت المجاورة للحرم الشريف.
ففي سنة 1984م شرع في تشييد الحرم الجديد للسيّدة رقيّة(ع) وذلك بمحضر بعض المسؤولين والوجهاء في الحكومة، فضلاً عن بعض العلماء ورجال الدين، وقد وسّع أضعاف ما كانت عليه مساحته الأولى وأقيمت فوقه قبة شامخة ومأذنة عالية وأسست الإيوانات المحيطة والصحن الكبير لاستيعاب الزائرين،وحتى يكون البناء محكماً فقد غُيّر مسير النهر الذي كان يمر داخل الحرم الشريف ووجه إلى خارج المرقد، وقد استغرق ذلك خمسة أشهر، ومن بعدها شرعوا بتثبيت القواعد الأساسيّة للبناء، وهناك جامع ملاصق لقبرها الشريف تقام فيه صلاة الجماعة وقد كُتب على باب المقام الشريف هذا مقام السيدة رقية بنت الإمام الحسين الشهيد بكربلاء وكتب على الباب الخارجي للمقام البيت التالي:
                                   إليكم كل مكرمة تؤول   إذا ما قيل جدكم الرسول.
وقد أرّخ تجديد المقام العلامة الشاعر الأستاذ الشيخ نبيل الحلباوي وهو إمام الجماعة في الحرم المطهر للسيدة رقيّة قائلاً:
                                   في كربلا غرستم دماءكم            وهذه إيران غرس وثمر
                                   قاد الخمينيُ على نهجكم           قوماً هم أتقى وأوفى وأبر
                                   وفي بقاع الأرض أحيوا ذكركم       فهو لهم قلب وسمع وبصر
                                   مسيرة تمضي بنا على هُدى      إلى لقاء بالإمام المنتظر
                                   يا ألق المكان قل مؤرخاً           النور من كوى رقية انهمر(3).
وبانتهاء التعمير الأخير للحرم أصبحت مساحة البناء 4500 متر مربّع تقريباً منها ما يقارب 600 متر مربّع بناء باحة الحرم، والباقي البناء الداخلي، ففي الجهة الجنوبيّة للبناء بُني مسجداً تقارب مساحته 800 متر مرّبع، وأمّا سعة الحرم بالإضافة إلى الأروقة في البناء الجديد فهي 2600 متر مرّبع تقريباً.
          
يقال أنه يستجاب الدعاء تحت هذا المكان الموجود في في مقابل ضريح السيدة رقية (ع).
جزى الله تعالى كل من سعى في تعمير الحرم وزاده الله توفيقاً إله الحق آمين.

الهوامش:
1- يحتمل أنّ الوالي قام بذلك لأجل التأكّد من صحّة الرؤيا.
2- معالي السبطين، ج2، ص162، الشريف الرضي، قم.
3- يراجع: الحلو، عامر: السيدة رقية بنت الحسين (ع) ومقامها في دمشق، ط2، مركز أهل البيت (ع) الثقافي الإسلامي، فيينا، 1419هـ- 1998م، ص24-72.


 

التعليقات (0)

اترك تعليق