كلمة الدكتور السيد عبد الحليم فضل الله: التكافل الاجتماعي في الإسلام وأثره على الأمن الأسري
كلمة الدكتور السيد عبد الحليم فضل الله (رئيس المركز الإستشاري للدراسات والتوثيق):
التكافل الاجتماعي في الإسلام وأثره على الأمن الأسري:
بسم الله الرحمان الرحيم
نقاش في المناهج والمبادئ والمفاهيم:
التكافل الاجتماعي في الإسلام هو جزء من منظومة متكاملة، لا تختصرها مبادئ الإحسان والعطاء والإنفاق. وفي قلب هذه المنظومة تتقاطع أسئلة عن طبيعة الاقتصاد الإسلامي أو المذهب الاقتصادي في الإسلام، وعن المبادئ والقواعد العامة التي يمكن استخراجها من الفرائض المالية، وعن موقع الاقتصاد في النظرية السياسية الإسلامية التي تسعى وراء هدف جوهري هو العدالة.
لا يمكن تركيب صورة نظام التكافل دون التعامل مع هذه المسائل وما يماثلها، ولا يمكن الإجابة عن تلك الأسئلة دون العبور بالاجتهاد إلى ما وراء حدود استنباط الأحكام الفردية والخاصة. ففي رحاب النظريات القائمة على التجريد والتعميم، يمكن أن ينسج من خيوط الشريعة والوصايا الأخلاقية والمبادئ العقائدية، إطار معرفي أوسع يتضمن الدلالات الغائرة والمعاني المشتركة للنصوص.
سنعالج في هذه الورقة أولاً، وضمن هذه المنهجية، المقاربات المختلفة لمسألة التكافل الاجتماعي، آخذين بعين الإعتبار اختلاف الإتجاهات الفكرية في مسألة الاقتصاد الإسلامي، وسنستعرض ثانياً المباني الأساسية التي يقوم عليها نظام التكافل، لنخلص أخيرا إلى تحليل مكثف للعلاقة بين نظام التكافل الاجتماعي والأمن الأسري.
أولاً: الإتجاهات الفكرية والمنهجية في مقاربة مسألة التكافل الاجتماعي في الإسلام:
ملاحظات منهجية:
تتنوع المداخل والمنهجيات التي يعتمدها الباحثون والمفكرون الإسلاميون في فهم نظام التكافل في الإسلام، وذلك ضمن التعدد الأوسع التي تتصف به مناهجهم في تناول قضايا الاقتصاد الإسلامي وصوغ مفاهيمه ومبادئه.
قبل ظهور أطروحة الشهيد السيد محمد باقر الصدر(قده) الشاملة، توزعت الأفكار والاجتهادات المرتبطة بالتكافل والاقتصاد الإسلامي على مدخلين تقليديين، يمكن تسميتهما بالمدخل الفقهي-الحقوقي، والمدخل الأخلاقي- الاجتماعي. استندت اجتهادات واستنباطات المدخل الأول إما إلى أحكام الشريعة الإسلامية مثل تحريم الربا والاحتكار وفرض الزكاة والخمس، أو إلى النصوص التي تعلي من شأن مبادئ اجتماعية معينة مثل التعاون والبر والتكافل والإنفاق في سبيل الله. يعتمد المدخل الثاني أيضاً على النصوص المأثورة لربط الخطوط العامة لنظام التكافل بالقيم الأخلاقية المعتبرة في الإسلام والتي قامت عليها عمارة العلاقات الاجتماعية والإنسانية فيه.
لم يذهب الدارسون والباحثون في كلا المدخلين إلى أبعد من ذلك. كان الاقتصاد الإسلامي بالنسبة إليهم وبكل بساطة المجمّع الكبير للأحكام والقواعد الفقهية والأخلاقية التي تنعكس على السلوك الاقتصادي للفرد. تولي الاتجاهات التقليدية عناية خاصة بظاهر النص ودلالة ألفاظه والتفسير الأحادي غير المترابط لمعانيه. وحتى المفاهيم الكلية كالرحمة والإحسان والقسط فإنها ترد لديهم في سياقات متفرقة ومبعثرة الدلالة، حتى أنها لم توظف بالحد الأدنى في استنباط الأحكام والتمييز بين المباحات والمحرمات والواجبات.
برزت جهود متفرقة لتطوير المدخل التقليدي من خلال إسباغ الطابع الحقوقي على موضوعاته، وتفصيلها بما يتماشى مع التقسيمات المعاصرة والموضوعات المستجدة. لكنها توقفت عند هذا الحد، ولم تجرؤ على القيام بمراجعات أعمق للقواعد والمبادئ العامة، بحيث تمس في الفقه السياسي مثلاً التبدل الذي طرأ على مفهوم الدولة والتي غدت علاقتها بمواطنيها قائمة على التعاقد المتكافئ والمشروط وليس على التبعية المطلقة. واستطراداً، تصير الشرعية السياسية متعلقة بناء على ذلك، بمدى رعاية الدولة لمنظومة الحقوق الأساسية ذات الطابع التعاقدي وليس فقط بدقة تطبيقها لأحكام الشريعة ومراعاة لأحكامها.
وعلى أي حال إنّ تطوير فهمنا لمنظومة التكافل في الإسلام لا بد وأن يكون مسبوقاً بتطوير مماثل لفهمنا لطبيعة الدولة. فإضفاء الطابع التعاقدي على الدولة الإسلامية يعني فيما يعنيه أنّها تكتسب صفة معنوية مستقلة، تكون فيها مشروعية الحكومة منفصلة عن شرعية الحاكم. ويعني أيضاً أنّ العلاقة بين الحكومة والمجتمع الإسلامي تأخذ شكلاً أفقيا قائماً على الندية والتوازن (في ظل إشراف الولي ورعايته)، وتكفل مبدأ المساواة بين الأفراد في الحقوق الأساسية دون تمييز، وهو مبدأ لا غنى عنه في إقامة نظام التكافل، وتطوير منظومة حقوقية متكاملة.
نماذج عن التنوع المنهجي:
استقطبت مساهمات سيد قطب في مجالي التكافل والعدالة الاجتماعية انتباه الباحثين الإسلاميين على نحو عام. وهي أتت في سياق الجدل عن علاقة الدين بالدولة وبالمجتمع الذي تصاعد في بداية خمسينيات القرن الماضي. بالنسبة إلى قطب الذي كان قريباً في تلك المرحلة من المنهج التقليدي ولم يصبح بعد رمز السلفية الجهادية، فإن التكافل هو نظام كامل أوسع من الصدقة والبر والزكاة، لكنه لا يرادف في التعبيرات المعاصرة التأمين أو الضمان الاجتماعيين كونهما الوسيلة إلى تحقيق التكافل.
يفضل قطب ربط مدلولات التكافل الاجتماعي بالنطاق الأخلاقي والقيمي للمجتمع الإسلامي، "إذ أنه نظام لتربية الفرد وسلوكه.. ولتكوين الأسرة وتنظيمها وتكافلها"، وهو أيضاً "نظام للعلاقات الاجتماعية التي تربط الفرد بالدولة"، كما أنه في نهاية المطاف "نظام للمعاملات المالية والعلاقات الاقتصادية التي تسود المجتمع الإسلامي"(1)
يتأرجح قطب بين المدخلين التقليديين الفقهي والأخلاقي، لكنه يبدو أكثر تركيزاً على المعاني التربوية لنظام التكافل من غيرها، مولياً اهتماما بارزاً للأسرة التي يعدها "النواة الأولى في الإسلام" كونها ناشئة من "ميل ثابت في الفطرة الاجتماعية"(2).
لكن نظام التكافل بحسب قطب الذي يبدأ بالأسرة ويمرُّ بالمجتمع لا بد وأن ينتهي بالدولة، "منتقلاً من محضن الأسرة إلى المجتمع.. على أساس التكامل بين الفرد والجماعة وبين الجماعة والفرد"(3). وفق هذه النظرة يكون التكافل جزءاً لا يتجزأ من الروابط الأولية التي تشد اللحمة داخل الأسرة وتؤلف بين الأسر في النطاق الأوسع للمجتمع، وهو ذو بعد عبادي تشريعي يمثّله الالتزام بالأوامر والنواهي الإلهية كإخراج الزكاة ومنع الاكتناز. لكن التكافل وفق ذلك لا يحتل موقعاً محدداً داخل النظرية السياسية العامة، بل إنّ دور الدولة يبدو الأضعف فيه، إذ ما بنينا على الرأي الذي يتبناه قطب ومفاده أنّ التكافل الاجتماعي هو "نظام إنتاج وكفاية ذاتية وليس نظام إحسان وصدقات (وتوزيع)، مستنداً في ذلك إلى حديث شريف يقول: أنّ رجلاً جاء إلى الرسول الأعظم(ص) وهو يسأل فلم يعطه مالاً بل أعطاه فأساً وكلّفه أن يذهب ويحتطب"(4)
لا يبدو منهج الشيخ محمد أبو زهرة بعيداً عن قطب في الالتزام بالمدخل التقليدي، لكن نظام التكافل لديه لا ينفصل عن "العلاقة بين الحاكم والمحكوم التي أقامتها النصوص الإسلامية على مبدأ عام هو التكريم.. الذي لا يفرق بين لون ولون وجنس وجنس وعالم وجاهل"، وهو أيضاً نظام يستق مع الأهداف التي جاءت بها ال
اترك تعليق