مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

كلمة الدكتور يوسف أبو خليل (نائب مدير عام مركز الأبحاث والدراسات التربوية)

كلمة الدكتور يوسف أبو خليل: أهمية التربية الأخلاقية في الأمن الأسري ودور العناصر الأساسية المؤثرة فيها

كلمة الدكتور يوسف أبو خليل (نائب مدير عام مركز الأبحاث والدراسات التربوية):  
أهمية التربية الأخلاقية في الأمن الأسري ودور العناصر الأساسية المؤثرة فيها

بسم الله  الرحمان الرحيم
أجمع التربويون قديمًا وحديثًا على أنّ تخلّف أو تقدّم المجتمعات إنّما يعود إلى العمليات التربوية (بالمعنى الأعم) وهي تعني مجموع العمليات التوعوية والتي تقوم بها مختلف مؤسسات المجتمع والتي تبدأ بمؤسسة الأسرة مرورًا بالمدرسة (التربية بالمعنى الأخص أي التعليم) وصولاً إلى كل المؤسسات الاجتماعية والثقافية والإعلامية والدينية والرسمية...
بالنسبة إلى التربية فإن لها معنيين اثنين:
المعنى الأول: تشتقّ تربية من مصطلح رَبَوَ وهو بمعنى الزيادة والنمو، وهذا المعنى يتعلّق بالجوانب الأساسية لكي ينمو الإنسان على المستوى البيولوجي والفزيولوجي، كالمأكل والمشرب والملبس...
المعنى الثاني: تُشتقّ التربية من مصطلح رَبَّبَ وهو بمعنى الرعاية والحفظ والهداية. فالله تعالى هو الربّ والمالك والراعي والحافظ لبني الإنسان، وربّ الأسرة أو ربّة الأسرة هو مفهوم مجازي ليعبّر عن الدور المهم والوظيفة الأساس لكل من الأب والأم في النطاق المحدود بالأسرة. ومن خلال هذا المعنى نجد أن وظيفة التربية تتجاوز البعد البيولوجي والفزيولوجي لتنتقل بالتربية إلى البعد الأخلاقي والقيمي أو بمعنى آخر الأبعاد الروحية والنفسية التي يجب العمل عليها، وهو الانتقال إلى الصحة النفسية والسلامة الروحية والتي تشكل الأخلاق والقيم الأخلاقية المدماك الحقيقي لتحقق إنسانية هذا الإنسان.
وقيل إذا أردت أن تهدم مجتمعًا فعليك باستهداف الأسر وتغييب القيم الأخلاقية فيه، والعكس هنا صحيح. ومن هنا تنبع محورية الأسرة في كل المجتمعات القديمة والحديثة والمعاصرة ومهما اختلفت البيئة والمحيط والجغرافيا.
لا يسعنا في هذه العجالة الإحاطة بالعناوين المختلفة للتربية والتوعية الأخلاقية للأُسر، كجزء أساسي من الأمن الأسري، ولكن لا بد لنا من الإضاءة على بعض العناوين العامة التي قد تفيدنا للتقدم نحو الأمام في هذا الأمر الحساس والدقيق.
 في عصرنا الحالي، عصر الثورة الرقمية، تكنولوجيا الاتصالات، والقرية الكونية عصر غياب كل الحدود الثقافية بين مختلف بلدان العالم وكل أصقاع الأرض إلاّ ما ندر، علينا التأسيس على المستوى الفلسفي النظري المتعلق بالتأصيل الأخلاقي، والتخطيط التربوي الإستراتيجي لتحديد مكامن الضعف والقوة والتهديدات والفرص المتاحة للأسرة الشرقية عمومًا والأسرة اللبنانية بوجه خاص. حيث تواجه الأسرة الشرقية تهديدًا كبيرًا في ظلّ هذا الانفلات وعدم القدرة على توجيه وهندسة المعارف والإتجاهات والقيم داخل الأسرة، ولكن كانطباع عام يمكن القول بأن الأسرة والروابط الأسرية في الشرق عمومًا وفي لبنان خصوصًا ما زالت أمتن وأقوى في مقابل الأسرة الغربية التي تعاني بشكل كبير من التفكك والتحلل الأسري المتجذّر في المجتمعات الغربية، وهذه نقطة قوة لدينا يجب العمل على تثبيتها.
إذ لم يعد الأمن الأسري موضوعًا محدودًا أو يمكن السيطرة عليه وتأطيره ضمن أطر معروفة ومحددة، وكما يقول بعض التربويين لم تعد التربية الأسرية تربية على غرار (خيمة الفواكه البلاستيكية) حيث يمكن للمزارع فيها العمل على عزل الفواكه عن البيئة الخارجية وشروطها القاسية، ويؤمن لها مناخًا وعناية مناسبة لتنمو وتثمر بالشكل المطلوب والمناسب.
في السابق كان يمكن للأسرة التعاطي مع أبنائها على هذا المبدأ حيث أنّ العلاقة كانت محدودة ضمن نطاق جغرافي معين، لا يتجاوز الأهل والأقارب والجيرة وزملاء الدراسة.
أما اليوم وفي ظل هذه الطفرة على مستوى وسائل التواصل، اختفت الحدود ولم يعد لمعنى العزل من أجل الوقاية التربوية من معنى.
وأصبح أبناؤنا ومن خلال الاستفادة من هذه الوسائل يمكنهم التعرف على كل الثقافات المختلفة والتي فيها الرث والثمين، وبتنا بحاجة إلى تحول نوعي في التربية الأخلاقية والتي تشكل الأساس في حفظ ووقاية الأبناء والأسرة والمجتمع بشكل عام. والمثل الذي ينطبق هنا هو كيفية تعليمه العوم في مقابل الغرق في المستنقعات الفكرية والثقافية المتباينة، أو ينطبق المثل الصيني القديم الذي يقول: بدل أن تعطيه سمكة كل يوم، علّمه صيد السمك.

العناصر الأساسية المشكِّلة والمساهمة ببناء الأسر أخلاقياً:
دعونا بخلاصة نسلط الضوء على العناصر الأساسية المشكِّلة والمساهمة ببناء الأسر أخلاقياً، والتي تلعب دورًا أساسيًا في تحصين الأمن الأسري:
1- الأم: إنّ عماد التربية الأخلاقية للأسرة يعود بشكل كبير للأم، وهي صاحب الدور الأساس كونها على مستوى الواقع "الفعلي" والبيولوجي والوظيفي هي الحاضر الأكبر في المنزل وهي عماد الأسرة والتي يشكل غيابها عن الأسرة ثلمة لا يسدّها شيء. فإن كان غياب الأب يشكل نقطة ضعف للأسرة المتماسكة والمحصنة، لكن يمكن للمرأة أن تلعب كلا الدورين بتماسك الأسرة، وهناك كثير من الدراسات والأبحاث تدل على ذلك، وإنَّ أخطر ما يواجه مجتمعنا هو فقدان "القيمة" الأساس للتربية ولم تعد النظرة إلى التربية الأسرية كقيمة أساسية متعلقة بالدور الوظيفي للأم المربية وصانعة الأجيال، وأضحى تواجد الأهل في المنزل لا سيما الأم غير ذي قيمة! بحيث أن المرأة غدت ببقائها في المنزل تصور على أنّها فاشلة وعاطلة عن العمل، حيث يشكل الدور التربوي للأم من أهم الاستثمارات للموارد البشرية، بناءً لمقولة الشخص المناسب في المكان المناسب.
ومن هنا لا أدّعي أنّ المطلوب هو مكوث المرأة في المنزل بل إنّ التعلم والمعرفة وكل الميادين العلمية إنّما هي أمور مساعدة في عملية التربية وإعداد المجتمعات الصالحة، وحتى العمل خارج المنزل، وبشكل لا يتنافى والدور التربوي للمرأة المربية، إنّما هو قيمة مضافة أيضاً،  وعامل مساعد للأم في مهارات التواصل والتفاعل الاجتماعي مما يرتد إيجابا على تربية الأبناء، وقد يفيد المرأة في تحقيق بعض تطلعاتها، وقد يشكل عاملاً للراحة النفسية للمرأة.
 ولكن يجب أن لا يكون عمل المرأة المربية هو وسيلة للهروب من الدور الأساس الملقى على عاتقها، ومن هنا يجب تحويل تهديد عمل المرأة إلى فرصة تساعد الأم المربية في تماسك الأسرة على المستوى الأخلاقي والاقتصادي والاجتماعي، مما يؤدي إلى تحقيق الأمن الأسري وتماسك الأسرة.
وفي هذا المجال، يستحضرني كتاب "إني لبيتي عائدة" لمؤلفته الفرنسية كريستيان كولانج، والذي يدعو المرأة إلى القيام بدروها التربوي داخل المنزل كأولوية وظيفية لها، وقد ازداد مؤيدو هذا الطرح مؤخراً في الغرب، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر "حركة كل نساء العالم" الأميركية والتي تطالب بعودة المرأة إلى حياتها الطبيعية، ويقلن بأن على المرأة أن تكون "تحت قيادة الرجل، وفي ظل الأسرة التي هي منشأ الاستقرار والسعادة للصغار والكبار،  لكن مع الحفاظ على حرية المرأة، وليس على أساس مساواتها بالرجال."
2- الأب: يأتي هنا الدور الثاني والمهم للأب في التربية الأخلاقية، والذي لا يمكن الاستخفاف به، وإن غياب دوره قد يهدد الأمن الأخلاقي للأسرة، لأن دوره يتكامل مع دور المرأة ولا يحل محلها، وكما جاء في القرآن الكريم ﴿وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّياني‏ صَغيراً﴾ ومن خلال هذه الآية يتبيّن أن الدور التربوي لم يناط فقط بالأم بل بالوالدين معاً، حيث قال ربياني وجمع بين الأب والأم في التربية.
3- وظيفة الدولة والمؤسسات الرسمية: فليس من وظيفة الدولة فقط التعليم لتحقق للمتعلمين مكاناً في سوق العمل، بل من وظيفتها التربية بالمعنى الأعم والتي لها علاقة بالتنشئة الاجتماعية واكتساب الأخلاق الحميدة، وإعداد المواطن الصالح، ومن هنا جاءت تسمية وزارة التربية والتعليم لتشير إلى الدور والأهمية للوزارة على المستوى التعليمي التعلّمي الخاص، وإلى المستوى التربوي العام الذي يتجاوز حدود العمليات التعلّمية والتعليمية.
4- وظيفة مؤسسات المجتمع السياسية والثقافية والتربوية والاجتماعية والدينية: هي مؤسسات كثر انتشارها في مجتمعنا المعاصر، وهي محل التقاء لمختلف فئات الشعب، والذين يتوافقون على أهداف مشتركة، ودائمًا ما تكون أهدافهم وقيمهم تصب في إطار العمل الثقافي البنّاء، وتعد فرصاً لتكوين العلاقات الاجتماعية، وتزداد أهمية هذه المؤسسات لزيادة الفرص الكافية والمناسبة لممارسة الأنشطة المختلفة، وأهم ما فيها العمل التطوعي الذي يؤدي إلى خدمة الإنسان كقيمة أخلاقية اجتماعية، والذي يشكل جزءاً أساسياً من التربية الأخلاقية المطلوبة، ويلعب دوراً رئيساً ومساعداً في الأمن الاجتماعي، خاصة عند وجود ضعف من قبل الأسرة والمؤسسات الرسمية.
5- الإعلام: الإعلام هو جزء من المؤسسات الاجتماعية، ولكن أردت تخصيصه، حيث أنه يلعب دوراً أساسياً في تحصين الأسر تربوياً وأخلاقيا، فلا يوجد إعلام بدون تربية وقيم، وان صناعة الميول والاتجاهات والقيم تنتج من خلال المعلومات والإعلام، ومن هنا أدعو وزارة التربية للتنسيق تربويًا مع المحطات الإعلامية من خلال ما تعرضه من برامج سواء في "المضمون" أو في "الأوقات" التي يكون فيها أبنائنا متسمرين فيها على شاشات التلفزة. 
ولا ننسى إن أخطر ما نواجهه على المستوى الأخلاقي والتربوي هو وسائل الإتصال الحديثة التي جعلت الدنيا بما فيها غثها وسمينها، بين كفي أبنائنا وفي غرفهم مع صعوبة عالية في التحكم والسيطرة... وهذا التحدي يحتاج إلى تضافر جهود كل العناصر المؤثرة في التربية للحد من مخاطرها، وإيجاد سبل لمواجهتها.
إذن فالأمن الأسري لا يتم من خلال تقديم المسكن والملبس والمأكل...، وهذا ما يمكن للمخلوقات الأخرى أن تعمل على تأمينه غريزياً، والإنسان لن يحقق أهدافه إلاّ من خلال التنشئة والتوعية والتربية للأسرة في مختلف الأبعاد الإنسانية لاسيّما على المستوى الأخلاقي، فبفقدان القيم الأخلاقية الأسرية تتفكك الأسر، وتتأثر كافة الأبعاد وتفقد الأسرة حتى تأمين ضرورياتها.
وأختم بالمثل الصيني والذي يقول: "إذا أردت أن تزرع لسنة إزرع قمحا، وإذا أردت أن تزرع لعشر سنوات إزرع شجرة، وأمّا إذا أردت أن تزرع لمئة عام فازرع إنسانا". وأقول لا يجب النظر إلى الأخلاق نظرة محدودة ووضع اطر وآليات مجتزأة، بل علينا لنبني أسرة آمنة أن نؤسس لبناء منظومة قيمية أخلاقية متكاملة نعمل جميعًا كمراكز أبحاث ومتخصصين وعاملين في الشأن التربوي، على تسييلها في مختلف العناصر المؤثرة في التربية، وذلك من أجل إعداد الأسرة من حيث الجانب الأخلاقي وهو ما ميزنا الله به عن باقي مخلوقاته.


                                             والحمد لله رب العالمين


التعليقات (0)

اترك تعليق