مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

كلمة سماحة الشيخ الدكتور علي رضا بي نياز (مدير جامعة المصطفى العالمية- لبنان)

كلمة سماحة الشيخ الدكتور علي رضا بي نياز: التنمية الثقافية وسبل التغيير(دورالمؤسسات الدينية نموذجًا)

كلمة سماحة الشيخ الدكتور علي رضا بي نياز (مدير جامعة المصطفى العالمية- لبنان):
التنمية الثقافية وسبل التغيير(دورالمؤسسات الدينية نموذجًا):

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
أصحاب الفضيلة والسماحة، الأساتذة الكرام، السيدات والسادة.
السلام عليكم ورحمةالله وبركاته
وبعد...
اسمحوا لي في البداية أن أشكر جمعية الرابطة اللبنانية الثقافية على استضافة هذه النخبة من المهتمّين بالشأن الثقافي، من خلال عقد هذا المؤتمر حول "القراءة والنهوض الثقافي"، معربا عن تقديري للجهود المبذولة في سبيل إنجاح هذه التظاهرة الثقافية المميّزة. موجها شكري للحضور الكريم من الإخوة والأخوات والأساتذة الكرام.
لقد كان من دواعي سروري، تلبية الدعوة الكريمة للمشاركة معكم اليوم في هذا المؤتمر المبارك، والذي ينعقد برعاية كريمة من معالي وزير الثقافة في الجمهورية اللبنانية الدكتور ريمون عريجي.
ولا يفوتني أن أنقل إليكم تحيات رئيس جامعة المصطفى العالمية سماحة آية الله الشيخ الأعرافي وتمنياته لكم بالنجاح والتوفيق.
أيّها الحضور الكريم..

تشكّل الثقافة، في عصرنا الحاضر، حجر الأساس في تطوّر المجتمعات البشريّة، فهي أكثر جوانب شخصيّة المجتمع رسوخا، ما يجعل منها أهمّ وسيلة لصونه والمحافظة عليه، فضلا عن أنها أمر واقع يعكس بأمانة وضع المجتمع الحقيقيّ، ما يميّزها عن سائر الأيديولوجيّات التي تهتمّ ببلوغ الفرد والمجتمع للمستوى المطلوب والمثاليّ.
لذا، يمكن القول بأنّ الثقافة -كما يقول الإمام الخميني(رض)- مصدر سعادة أيّ مجتمع أو شقائه؛ إذ إنّ كلًا من رخاء الشعوب وتعاستها، رهن بحجم استثمارها لتقدّم العلوم والفنون من جهة، ومدى التزامها بالعقائد، الأخلاق، القيم والسلوكيات في المجالات الاجتماعية المختلفة من جهة أخرى، وكلّها تجلّيات للمستوى الثقافيّ السائد.
وفي هذا السياق، فإنّ ظهور الحركات التكفيريّة التي تمتهن القتل وترتكب الجريمة وتمارس العنف باسم الدين في بلداننا، ما هي إلّا إفرازات لثقافة منحرفة، غفل أو تغافل عنها القائمون على الشأن الثقافيّ، ما يفرض العمل الجادّ لمواجهة هذه الموجة الظّلاميّة عبر برامج ثقافيّة فعّالة تعيد تصحيح المسار، وتحول دون تفاقم المعضلات.

أيها الحضور الكريم..
لقد تعدّدت النظريّات الوضعيّة حول أهداف التنميّة الثقافية وغاياتها، لكنّها اتّفقت على حصرها في الجانب المادّيّ، من خلال تحقيق الرفاه الاجتماعيّ والنّمو الاقتصاديّ، متجاهلة البعد الروحيّ، فعصفت بتلك المجتمعات المتطوّرة صناعيّا حالة فراغ نفسيّ وخواء أخلاقيّ، أدّت لاستفحال ظواهر مرضيّة كالانتحار والإدمان والقلق وحتّى التطرّف، نتيجة الابتعاد عن الهدف الأسمى الذي أراده الله للإنسان، وهو القيام بدوره كخليفة له في الأرض، يعمرها بالخير والصلاح والإيمان والعمل الصالح، يقول تعالى: ‹وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(1).
من هذا المنطلق، تتبيّن أهميّة المؤسّسات الدينيّة في عمليّة التنميّة الثقافيّة، وذلك لقيامها بأعباء جسيمة، من خلال ربط ثقافة المجتمع السائدة بالدّين، وإضفاء الصّبغة الرّوحيّة عليها وبثّ الرّوح الإلهيّة فيها وضبط عقائد الناس وسلوكيّاتهم وفق أوامر الشرع.
وتتضاعف تلك الأهميّة في مجتمعاتنا الشّرقيّة بشكل عام، والإسلاميّة منها بشكل خاصّ؛ إذ تحظى شريحة رجال الدين والعلماء بمكانة خاصة في نفوس الناس، الذين ينظرون إليهم كملاذ آمن عند الشدائد والمحن والخطوب، ومؤشر على سلامة الأمّة أو سقمها، حتّى عدّ الأديب الإيرانيّ الشهير جلال آل أحمد عمليّة إعدام الشهيد الشيخ فضل الله النّوريّ علامة فاصلة على تسلّط الغرب وفكرة التغريب على الأمّة.
وقد أشار الإمام الحسين(ع) إلى تلك الحالة في خطبة ألقاها في منى متوجّها فيها إلى علماء الأمّة ونخبها الدّينيّة، قائلا:
"... ثمّ أنتم أيها العصابة! عصابة بالعلم مشهورة، وبالخير مذكورة، وبالنصيحة معروفة، وبالله في أنفس الناس لكم مهابة، يهابكم الشّريف، ويكرمكم الضعيف، ويؤثركم من لا فضل لكم عليه ولا يدلّكم عنده، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت منطلّابها، وتمشون في الطريق بهيئة الملوك وكرامة الأكابر، أليس كلّ ذلك إنّما نلتموه بما يرجى عندكم من القيام بحقّ الله"(2)
أيّها الحضور الكريم..
لقد اكتسبت المؤسّسات الدينيّة زخما كبيرا في أعقاب انتصار الثورة الإسلاميّة المباركة في إيران بقيادة الإمام الخميني(رض)؛ حيث تعزّزت موقعها ثقافيّا وسياسيّا؛ ففضلا عن أدوارها التقليديّة، وهي أدوار لا غنى عنها عبر التاريخ، كإمامة الجمع والجماعات وخطب الوعظ والإرشاد، أنيطت بها مهام أخرى في مجالات العدل والأمن والدفاع ومختلف الوزارات والجهات التي تمثّل فيها الوليّ الفقيه، كما سجّل حضور لافت للمؤسّسة الدينيّة في سلك التعليم والتربية والتعليم العالي.
فرضت تلك التطوّرات المتسارعة في ظلّ ضرورة التعامل مع متطلّبات العصر الحديث، واقعا جديدا على المؤسّسة الدينيّة؛ فقد تحوّل ميدان عملها من مجرد تقديم إجابات لتساؤلات الأفراد والعمل لرفع شبهاتهم، إلى التعامل مع المجتمع بكلّ ما يحمل من تطلّعات ورؤى وأفكار وهواجس ومخاضات، الأمر الذي حملها على طرح رؤية واضحة للتغيير، تقوم على أسس متعددة أذكر منها بعض الأسس المرتبطة بالبعد الاجتماعي، وهي كالتالي:
1. تعميق الإحساس بالمسؤوليّة: عبر إدراك جانبها التشريفيّ المتمثّل بعظمة الرسالة الإلهيّة التّي تحملها المؤسّسة الدّينيّة، ما يدفعها للقيام بواجبها على أكمل وجه شكرًا لله على هذه النّعمة، ووعي جانبها التكليفيّ من خلال الاستعداد لبذل الغالي والنفيس في مواجهة التحدّيات والأخطار، ورفض كلّ أشكال الخضوع والخنوع، وقد حدذر الإمام الحسين(ع) العاملين في السّلك الدينيّ من التخلّي عن أعباء تلك المسؤوليّة لقاء مصالح آنيّة ضيّقة، قائلًا:
"ولو صبرتم على الأذى وتحملتم المؤونة في ذات الله، كانت أمور الله عليكم ترد، وعنكم تصدر، وإليكم ترجع، ولكنّكم مكّنتم الظّلمة من منزلتكم، وأسلمتم أمور الله في أيديهم، يعملون بالشبهات، ويسيرون في الشهوات، سلّطهم على ذلك فراركم من الموت، وإعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم، فأسلمتم الضّعفاء في أيديهم، فمن بين مستعبد مقهور وبين مستضعف على معيشته مغلوب، يتقلّبون في الملك بآرائهم، ويستشعرون الخزي بأهوائهم، اقتداء بالأشرار، وجرأة على الجبّار، في كلّ بلد منهم علا منبره خطيب مصقع، فالأرض لهم شاغرة، وأيديهم فيها مبسوطة، والناس لهم خول لا يدفعون يد لامس، فمن بين جبّار عنيد، وذي سطوة على الضّعفة شديد، مطاع لا يعرف المبدئ المعيد"(3).
وفي عصرنا الحديث، يمثّل الإمام الخميني(رض) نموذجا رائعا للعالم العامل الذي لم تهزّه العواصف؛ حيث ينقل حجّة الإسلام قرهيّ القصّة التالية حول الليلة التي اعتقل فيها الإمام ونقل إثرها إلى طهران: "حدّثني المرحوم الحاج مصطفى نجل الإمام عن والده: بينما كانوا ينقلونني في السيّارة في الطريق الواصلة بين قم وطهران، أخذت أفكّر في الموقف الذي أمرُّ به وما قد يؤول إليه، فلم أحسّ بأيّ تغيير طرأ على قلبي تجاه مواقفي.
لذا، عندما خطب(رض) في المسجد الأعظم بقم عقب الإفراج عنه في العام ١٣٤٣ش، قال: والله! لم يعرف الخوف إلى قلبي طريقا؛ حتّى في تلك اللّيلة التي اعتقلوني فيها، فبينما كان الخوف يقطّع قلوبهم، كنت أنا أهدِّئ من روعهم فكانوا هم الخائفين(4)
2. التحلّي بروح المبادرة: يقوم النظام الإسلاميّ على نظام رقابة اجتماعيّة متكامل، يدعى "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، يهدف للتعامل العلاجيّ مع أيّ مخالفة أو تعدّ للقوانين الشرعيّة الناظمة، ولم يكتف بذلك فحسب، بل دعا إلى المبادرة الوقائيّة من خلال السعيّ للقيام بخطوات إصلاحيّة خلّاقة ونشر ثقافة الخير بين أفراد المجتمع، لقطع الطريق أمام محاولات زعزعة الاستقرار، يقول تعالى:
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(5).
وقد عانى الإمام الخميني(رض) كثيرا من مظاهر التحجّر والتّزهّد الخاوي في أوساط المؤسّسة الدينيّة، والتي تؤدّي لتوسيع الهوّة بين النّخب الدينية والشعب الذي يشكّل أساس كلّ تغيير، داعيا العلماء لكسر الجمود، والنزول من الأبراج العاجيّة والتفاعل مع كافّة شرائح المجتمع، قائلاً:
"على الحوزات ورجال الدّين المبادرة لتأمين حاجات المجتمع ومواكبة تحوّلاته الفكريّة، وتوقّع الأحداث قبل وقوعها، والاستعداد للتعامل معها"(6).
3. العمل على بناء كوادر مستقبليّة: إنّ التنمية الثقافيّة عمليّة مستدامة، تمتدّ على مدى أجيال، وتواكبها تطورات مختلفة، وتواجهها تحديّات متنوعة، وبالتالي فلا يمكنها أن ترتهن بشخص واحد أو جهود فرديّة.
وبما أنّ المنظومة الفكريّة للمؤسّسة الدينيّة تحمل مخزونا معرفيّا واسعا تغطّي حقولا في العقائد والكلام والفلسفة والتفسير والتاريخ وغيرها، تنتقل من جيل لآخر، وتفرض على كلّ جيل حفظها لنقلها للجيل الآخر، يصبح العمل على تربية كوادر متخصّصة تحمل همّ الرسالة وتسعى لتعزيزها والارتقاء بها بما يتناسب وتطوّرات كلّ عصر، من الأولويّات الأساسيّة للمؤسّسة الدينيّة.
وقد أشار القرآن الكريم إلى قيام الرسول الأكرم(ص) بهذه المهمّة، بقوله تعالى:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا(7).
ومن الدروس الهامّة لثورة الإمام الخمينيّ(رض)، أنّه أعلنها في العام ١٣٤٢ ش، لكنّه لم يعلن انتصارها وعودته للبلاد من المنفى، إلا بعد عمليّة تربية كوادر ثوريّة استمرّت ١٥عاما، كانت مستعدّة لمعاونته في إدارة شؤون البلاد.
4. ترسيخ العمل المؤسّساتيّ: يتفاوت تأثير الثقافة، سلبا أو إيجابا، بحسب حجم الطّيف الاجتماعيّ الذي يتبعها، فإذا ترسّخت في مجتمع ما ثقافة الولاء للقيادة والتزام أوامرها وتعاون أفرادها لتحقيق توجيهاتها، حقّق ذلك المجتمع النصر على أعدائه بغضّ النظر عن أحقيّة شعاره، وقد أشار أمير المؤمنين(ع) إلى تلك الحقيقة معاتبا أتباعه الذين تهاونوا في الالتزام بتعليماته في مواجهة معاوية وأتباعه:
"وإنّي والله لأظنّ هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم، وتفرّقكم عن حقّكم، وبمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم".
من هنا، تنبع أهميّة المؤسّسة الدينيّة باعتبارها من أقوى مؤسّسات المجتمع المدنيّ نظرا لشبكة المراكز التابعة لها، والتي تشمل المساجد والجوامع والحسينيات والمراقد والمقامات والحوزات وغيرها، الأمر الذي يجعلها أحد أهمّ صمّامات الأمان الاجتماعيّ.

وبما أنّ التنوّع سنّة إلهيّة في كلّ مجتمع، اعترف به القرآن الكريم:
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(8)، فإنّ من واجب المؤسسة الدينيّة التواصل مع باقي فئات المجتمع وجمعيّاته لكلّ ما فيه خير المجتمع.
من هنا، وباسم فرع جامعة المصطفى العالميّة في لبنان، أبارك جهود جمعيّة الرابطة اللّبنانيّة الثقافيّة، داعيا القائمين عليها لمزيد من التعاون.
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
        والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته                     
بيروت 23/4/2015

التعليقات (0)

اترك تعليق