الدكتورة طوبى كرماني (الأمين العام للاتحاد العالمي للنساء المسلمات): المكانة القيميّة للأمومة ودورها في تحقيق الكمال والاستقرار الفردي والاجتماعي
المكانة القيميّة للأمومة ودورها في تحقيق الكمال والاستقرار الفردي والاجتماعي
كلمة الدكتورة طوبى كرماني (الأمين العام للاتحاد العالمي للنساء المسلمات):
بسم الله الرحمن الرحيم
بداية أطرح السؤال التالي: من الذّي لا يعلم قيمة ومكانة الأمومة، ودورها الحيوي في تحقيق الاستقرار والكمال الفردي والاجتماعي، الذّي لا مثيل له؟ بعبارة أخرى: لماذا يختار النبي(ص) أجمل وأغرب صفة لوصف بضعته الطاهرة فاطمة(ع).
نظرة أولية وبسيطة إلى المفاهيم المفتاحيّة في هذا البحث مثل الدراسة اللغوية لـ "ا- م- م" ومتشابهاتها من "اَمَّ اِمامةً"، "اِئتمَّ به"، "اِستاَمَّه"، "اُمّ"، "اِمام"، "اُمّة" تبين لنا حقيقة بأن الأم هي "القدوة" و "المقتدى"، "الأصل"، "المبدأ"، طالجذر"، و"الينبوع"، "القدوة"، "الزعيم"،"القائد"، و"الجماعة".
أما مصطلح "البحث أو التحقق" يعني التدقيق المستمر في العمل وإثباته وإتقانه، ولكن كلمة "استقرار" تعني اليقين والاستقرار. في الواقع "التحقيق" هو كتدريس النحو وتعليم قواعد المرور، لكن الاستقرار يعني الممارسة والتدريب على هذه القواعد وترسیخها.
"الكمال" يعني حقيقة الخلو من العيوب والنزاهة.
مع هذه المراجعة المعجمية، السؤال الأول هو: من هو أول مقتدى ونموذج لكل مولود؟ عندما يفتح الطفل عينيه على هذا العالم، أيّ وجه يرى وأيّ يد يمسك وفي أيّ حضن يهدئ؟ وممن يتغذي؟ ومن أيّ حنان يشبع ومن يتحمّل عبئ تربيته؟
يعتقد جميع الخبراء في مجال الدين والتربيّة وعلم النفس أنّ أول سبع سنوات من حياة الطفل هي أساس وشاكلة وبنيان تربيته من خلال أقرب شخص له. إذن، من هنا نعلم بأهمية مسألة القدوة وهذا ما يعلمه العالم اليوم جيداً. فصنع القدوات في الماضي والحاضر، وفي المستقبل هي من أحسن وأهم السبل التربويّة لأنّ هذه هي قاعدة الكون والحياة والفطرة الإنسانيّة؛ أنّها إذا علمت بشيء فإنّها تقوم به وإذا أحست بشيء استمرت عليه وإذا كان لها قدوة عمليّة ستتحرك نحوه باندفاع وشدة. إذن من أجل تحقيق أهدافه، خلق عالم اليوم انفصالاً كبيراً بين الإيمان والعمل وانقطاعاً عميقاً بين العقل والقلب والحواس؛ بحيث أصبح مبدأ شوق وفعل الناس المتعلمين اليوم أن: "يشتهي القلب ما تراه العين" وهذا مجرد تعلق خال من الفكر أو التأمل العقلاني (حذف الوعي) وراء ما هو متاح لحواسه.
علماً منه بهذا الاحتياج الفكري والفطري لاتخاذ القدوات، جهز العالم الغربي وكالاته السياسيّة والتنفيذيّة باستخدام قدرات نخب المجتمعات وبمساعدة العلوم التربوية، وعلم النفس، وعلم الاجتماع ليقوموا بإعداد الأفلام والفنانين والممثلين، وصرف الأموال الهائلة على الرياضيين، وخلق الكتب والشخصيات الخياليّة من أجل نشر مثلهم العليا من خلال التصوير الجذاب، وعن طريق وسائل الإعلام المرئيّة وشبكات التواصل لتصبح القدوة المنشودة لدى الفتيات والفتيان وليتمكنوا من الهيمنة العقليّة والفكرية والجسميّة والسيطرة عليهم. قد جعل الغرب الأوهام والخيال والميول والرغبات القوة المسيطرة على الإنسان في عصر يسمى بحاكميّة العقل والعلم تقابلا مع حاكمية الدين. وإذا كانت هناك أي واجبات أخرى، فهي نسبية وفردية بالكامل. كما يختطف الغرب الجديد الاختيار من الإنسان المختار ويقولبه كما يشاء، وهكذا؛ يفرغ العالم اليوم من الحكمة.
وقد توقف القرآن الكريم على الدور المهم والتربوي لصنع القدوات أيضاً، حين يعرف النبي(ص) بالأسوة الحسنة، أو يذكر حسن خلق الرسول(ص) كسبب لجمع القلوب، وحين يمدح آسية ( زوجة فرعون)، بسبب إيمانها وإرادتها ومقاومتها أمام سيطرة الكفر ويعرفها كنموذج وقدوة لجميع المؤمنين في العالم، بما في ذلك الرجال والنساء. أو حين يذكر مريم العذراء(ع) كأسوة لنساء العالم بسبب كرامتها وتصديقها لكلمات الله. وعندما يذكر الرسول(ص) ركنين أساسيين في الدين والسعادة، وهما القرآن والعترة، ويعرف علي(ع) بأنّه روحه والزهراء المرضيّة(ع) بأنها سيدة نساء العالمين. وما أجمل عمل الزهراء المرضيّة(ع) كأول مدافع عن الولاية. وفي الواقع إنّ القدوات الفكريّة والعملية للأمة الإسلاميّة والبشرية تمّ تعريفها لنا.
دعوني أروي لكم مثالاً عن النموذج وصناعة القدوات لتوضيح المسألة:
قد قرأنا كلنا تاريخ الحرب الأمريكيّة الغير عادلة ضد فيتنام. بعد الحرب، رفض الشعب الأمريكي قبول شبابه ومقاتليه الذّين شاركوا في الحرب بعد عودتهم إلى البلاد وطردوهم. وهذا يعني أنّ الجنود الأمريكيين ارتكبوا جرائم وفظائع كانت مرعبة وغير قابلة للعفو عند أسرهم. فأصبح الوضع متأزّما جداّ، لذلك فإنّ حكومة الولايات المتحدة، وبعد نقاش طويل مع علماء الاجتماع وعلماء النفس والمربين، قررت استخدام الفن والاستعانة بهوليوود لصنع مجموعة أفلام رامبو. وقدّ استطاعوا من خلال صنع سلسلة هذه الأفلام، أنّ يصوروا الجنود الأمريكيين كأبطال، وأهل خير يسعون لإنقاذ البشريّة المتخلفة، وإلقاء صبغة قداسة وطهارة على كل الشرور التي ارتكبها هؤلاء الجنود. ومن خلال تصوير الجنود كأبطال، صوروا جميع جرائمهم وجناياتهم والمجازر التّي ارتكبوها، كأعمال إنسانية ومحبة للبشريّة. وهكذا تم تطهير الجنود الأميركان من الجنايات والإرهاب الذي ارتكبوه، وبدت الولايات المتحدة وفيّة للديمقراطية والعمل الخيرّي حتّى في حرب أفغانستان والعراق وداعش...
كل ما سبق أوضح من أنّ نقرأه ولا نفهم إذن ما هي المشكلة؟ مشكلتنا ليست هي أنّنا لا نعرف دور الأم باعتبارها أول قدوة في التربيّة الإسلامية، بل مشكلتنا تكمن في أنّنا نعرف هذا الأمر جيدا بحيث أصبح لقلقة على ألسنتنا، لكننا لا نعمل به. وهذا السؤال هو نفسه الذي أطرحه منذ فترة في ندواتنا العلمية، "كيف يمكننا عصرنة القدوات الدينيّة؟" وبعبارة أخرى جميعنا نعرف الزهراء عليها السلام ونحبها، ولكن لماذا لا تظهر الزهراء(ع) في حياتنا؟ إذن فإنّ السؤال الأساسي هو أنّه على الرغم من امتلاك أفضل الثروات العمليّة المتجسدة، لماذا لم نستطع زرع هذه القيم في روح وحياة أولادنا وبالتالي في حياتنا الاجتماعيّة؟
هنالك قصة جميلة تروى عن أبو سعيد أبو الخير -هذا الرجل من أهل الله- أنّه كان يسير في الطريق ويقول أينما أنظر هنالك مجوهرات على الأرض وذهب معلق على الجدران، لا يراه ولا يلتقطه أحد. قالوا له: ماذا تقول؟ أين وكيف؟ فيجيبهم: في كل مكان، أينما كنت قادرا على الخدمة، أو كسب ود أحد أو إدخال السرور على قلب محزون وإعطاء مسكين أو إحياء حق، أو مواساة مكروب. كل هذه المجوهرات والذهب نجدها في تعاليمنا الدينية وقدواتنا المتجسدة، ونحن نمد يدنا أمام الغرب. كما يقول الشاعر الإيراني "الماء في الجرة ونحن عطاشى نلتمس الماء".
أعتقد أن المشكلة الكامنة هي:
أولاً- لقد تكلمنا كثيراً وكتبنا وعقدنا العديد من الجلسات لكننا لم نعمل بقدر الكلام وهذا خلافا لتعاليمنا الدينيّة: "کونوا دعاة لنا بغیر ألسنتکم".
ثانياً- لم نكن صادقين مع أولادنا ولم نقابلهم ببساطة وحميميّة ولم نثق بهم ولم يكن كلامنا كعملنا وهذا يتعارض مع تعاليمنا الدينيّة: "لم تقولون ما لا تفعلون..".
ثالثاً- إننا نفكر ونخطط من أجل مستقبل أولادنا في جميع المجالات ونفتح لهم مختلف الحسابات لكننا لم نفكر في روحهم وإنسانيتهم ومعرفتهم. ببيان آخر، نريد لأولادنا أنّ يكونوا فخراً لنا، أن يدرسوا في الجامعات الرائدة، في فروع جامعيّة عالية القدر وأنّ يحصلوا على أحسن عمل وأحسن منصب ليكونوا فخرا لنا، ولكن لا أن يهدفوا لإرضاء الزهراء(ع) وإرضاء الله وهذا يتعارض مع تعاليمنا الدينيّة: "کونوا لنا زینا ولا تکونوا علینا شینا".
رابعاً- تكمن المشكلة في انجذابنا إلى الغرب. فمع الأسف معظمنا متدينين لكننا نحمل أسلوب حياة وتفكير علماني ونعيش في ازدواجيّة. ما أقصده بالعلمانيّة ليس الأشخاص الغير متدينين في المجتمع، ولكن يعني أنّ الشخص قدّ يفقد حساسيته لمعتقداته.
ومن هنا، فإنّنا اليوم نتحمل عواقب ونتائج هذا التفكير وهذه المواقف في العالم الإسلامي، ونضطر لعقد هكذا ندوات، وليس هذا إلا بسبب انفصال الإنسان عن الفطرة النقيّة، وتجاهل الأبعاد المختلفة للشخصية، الأبعاد الشخصيّة والعائليّة والاجتماعيّة، وفقد القدوات الإلهيّة.
قصة حقيقيّة:
هنالك فتاة ظريفة وهي طالبة في المدرسة الثانوية مع حفيدتي، سألتني السؤال التالي: عندما أحضر في معهد اللغة الإنجليزية في إحدى المناطق الراقية في طهران، يسألنني زميلاتي لماذا تقتدون بالزهراء(ع) بعد مضي كل هذه القرون؟ قلت لهذه الفتاة البريئة: "أجیبيهم ببعض الأسئلة؛ إسأليهم هل تحبون الوفاء؟ هل تحبون اللطف؟ هل تحبون النقاء والصدق والإخلاص في الحب؟ هل تحبون الحماس والإيمان؟ هل تحبون العفة والستر؟ هل تحبون التفكير بالآخرين ومراعاتهم؟ هل تحبون مساعدة الآخرين؟ هل تحبون الحقيقة والعدالة؟ فبالتأكيد سيجيبون بنعم ونعم. فقولي لهم: دلوني على شخص آخر يمتلك كل هذا الجمال والكمال والحسن في زمن كنّ البنات عار فيه، لأحبه بدلاً عن الزهراء(ع) وأجعله قدوة لنفسي. وقولي لهن إنّ فلسفة حكومات العالم اليوم، هي نفس فلسفة نيتشه: "أنا الذئب والآخرون أغنام"، ولكن كانت فلسفة الزهراء(ع) في زمن الجاهلية قبل 1400 عام أنّ "الجار ثمّ الدار"!".
ومن المهم أنّ نعرف أنّه إذا كانت فاطمة كبيرة ومرغوبة ليس ذلك لكونها بنت النبي فحسب، وليس لأنّها زوجة علي فحسب وليس لأنّها أم الحسنين وزينب، وليس لأنها أم أبيها فحسب ففاطمة هي كل هذا لكنها لا تختصر في هذا، ففاطمة هي بحر من الفضائل. وهذه هي فاطمة التي ينبغي علينا أن نريها لأولادنا.
ومسك الختام؛ هي كلمة المرشد الأعلى( دام عزه العالي)، "إذا كانت البنيّة المعنوية قوية ومستحكمة، فستسيرون بفخر وشجاعة مقابل الحوادث". وتتكون هذه الشخصية في حضن الأم أولاً وثمّ تستقر في المدرسة والمجتمع.
اترك تعليق