مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

كلمة سماحة السيد علي الموسوي: مسألة تنظيم النسل في الرؤيّة الإسلاميّة

كلمة سماحة السيد علي الموسوي (مسؤول وحدة الدراسات والمتون الثقافيّة في جمعية المعارف): مسألة تنظيم النسل في الرؤيّة الإسلاميّة

مسألة تنظيم النسل في الرؤيّة الإسلاميّة
كلمة سماحة السيد علي الموسوي (مسؤول وحدة الدراسات والمتون الثقافيّة في جمعية المعارف)
 
بسم الله الرحمن الرحيم 
إنّ تحديد الموقف الإسلامي في مسألة اجتماعيّة لا بدّ وأنّ يلحظ فيه خلود التشريع الإسلامي، وخصوصيّة الرسالة الخاتمة للرسالات السماويّة وكيف أنّ نهايات المصالح المرتبطة بالعباد قد تضمنتها شريعة الإسلام بكافة أحكامها، وعنصر الثبات في الشريعة لا بدّ وأن يُلحظ، ومن هنا تؤكد هذه الصفحات على أنّ أحد مقاصد الشرع المقدس إقامة المجتمع الصالح الذّي كفل الله عز وجل له بأن يسود هذه الأرض وأن يكون هو الوارث لها، وهذا ما سوف نستعرضه ضمن نقاط:
النقطة الأولى: لا شك في أن ما يستوقف الباحث أولاّ حول هذا الموضوع تعرض آيات من كتاب الله عز وجل لذلك فقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا(1).
وقال : ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ .
تتحدث الآية بوضوح عن سبب كانت تعلل فيه ظاهرة قتل الأولاد...
وقد ذكر العلامة الطباطبائي(قده) التالي: (وقد تكرر في كلامه تعالى النهي عن قتل الأولاد خوفاً من الفقر وخشية من الإملاق، وهو مع كونه من قتل النفس المحترمة التي يبالغ كلامه تعالى في النهي عنه إنّما أفرَد بالذكر واختص بنهي خاص لكونه من أقبح الشقوة وأشد القسوة، ولأنّهم -كما قيل- كانوا يعيشون في أراضي يكثر فيها السنة ويسرع إليها الجدب فكانوا إذا لاحت لوائح الفاقة والإعسار بجدب وغيره بادروا إلى قتل الأولاد خوفا من ذهاب الكرامة والعزة).
وذكر في تفسير الأمثل: (وفي الوقت الذي نستغرب فيه ارتكاب الجاهليين لهذه الجرائم بحق النوع البشري، فإن عصرنا الحاضر -وفي أكثر مجتمعاته رقياً وتقدماً- يعيد تكرار هذه الجريمة ولكن بأسلوب آخر، إذ أنّ العمليات الواسعة في إسقاط الجنين وقتله خوفاً من الضائقة الماليّة وازدياد عدد السكان، هي نموذج آخر للقتل. (للمزيد راجع تفسير الآية 151) من سورة الأنعام). إنّ تعبير ﴿خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾ إشارة لطيفة إلى الدافع الوهمي الشيطاني ورفضه، حيث يفيد التعبير أنّ الوهم ومجرد الخوف هو الذي يتحكم بهذا السلوك المحرم. لا الدوافع الحقيقية. كما يجب الانتباه إلى أنّ "كان" في ﴿كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾ هي فعل ماضٍ، يفيد هنا التأكيد على أن قتل الأبناء يعتبر من الذنوب العظيمة التي كانت معروفة، منذ القدم بين البشر، وأنّ الفطرة الإنسانيّة السليمة تحمل دوافع الرفض والإدانة لمثل هذا السلوك الذّي لا يختص بزمان معين دون غيره).
ومن هنا يأتي النهي بتوصيف هذا السبب بأنّه سَفَه بغير علم، فهو تصرف لا يصدر عن عاقل واع وينبع من حالة جهل يعيشها الإنسان.
 
وعندما نأتي بعد ذلك إلى أقوال النبي فنجد من الروايات الكثير الوارد في الحث على النسل والإنجاب، ولسان الروايات هو بالنحو التالي: 
1ـ مباهاة الأمم: محمد بن مسلم أن أبا عبد الله(عليه السلام) قال: إن رسول الله(صل الله عليه وآله) قال: تزوجوا فإني مُكاثر بكم الأمم غداً في القيامة حتى أنّ السقط يجئ محبنطئاً على باب الجنة فيقال له: ادخل الجنة فيقول: لا حتى يدخل أبواي الجنة قبلي.
بل الحث حتى على فضل الولد لو كان سقطا فقد ورد عن النبي(ص): أما علمتم أني أباهي بكم الأمم يوم القيامة حتى بالسقط يظل مُحبنطنا على باب الجنة، فيقول الله عز وجل: أدخل، فيقول لا أدخل حتى يدخل أبواي قبلي فيقول الله تبارك وتعالى لملك من الملائكة: ائتني بأبويه فيأمر بهما إلى الجنة، فيقول: هذا بفضل رحمتي لك. 
2ـ ذكر من يسبح باسم الله في هذه الأرض: عن جابر، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صل الله عليه وآله): ما يمنع المؤمن أن يتخذ أهلا؟! لعل الله يرزقه نسمة تثقل الأرض بلا إله إلا الله.
3ـ الحث على اختيار الولود كصفة للزوجة: عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): تزوجوا بكرا ولودا، ولا تزوجوا حسناء جميله عاقرا، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة.
بل وصفها بانها خير النساء فعن، عن جابر بن عبد الله قال: سمعته يقول: كنا عند النبي(صلى الله عليه وآله) فقال: إنّ خير نسائكم الولود الودود العفيفة العزيزة في أهلها.
4ـ ثمرة الولد الصالح: قال الصادق(عليه السلام): ميراث الله من عبده المؤمن الولد الصالح يستغفر له.
5ـ فوائد وجود الولد: التأمين الدنيوي والأخروي للأهل، فعن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا أبطأ على أحدكم الولد فليقل: اللهم لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين، وحيداً وحشاً فيقصر شكري عن تفكري، بل هب لي عاقبة صدق ذكوراً وإناثاً، آنس بهم من الوحشة، وأسكن إليهم من الوحدة، وأشكرك عند تمام النعمة. 
عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صل الله عليه وآله): مرّ عيسى ابن مريم عليه السلام بقبر يعذب صاحبه ثم مر به من قابل فإذا هو لا يعذب، فقال: يا رب مررت بهذا القبر عام أوّل فكان يعذب ومررت به العام فإذا هو ليس يعذب؟ فأوحى الله إليه أنّه أدرك له ولد صالح فأصلح طريقا وآوى يتيماً فلهذا غفرت له بما فعل ابنه، ثمّ قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): ميراث الله عز وجل من عبده المؤمن ولد يعبده من بعده، ثمّ تلا أبو عبد الله عليه السلام آية زكريا(عليه السلام). ﴿فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾(2).
وبلغة الفقه يمكننا القول أنّ الأصل الأولي هو الحث على الإنجاب بل على كثرته والتأكيد على أن طلب هذا الأمر.
ولا ينبغي أن نغفل عن أنّ الروايات وردت أيضاً بأهمية تربية الولد والاهتمام به وتنشئته دينيا بالنحو اللازم، بل هو حق من حقوقه ففي رسالة الحقوق للإمام زين العابدين: (وأما حق ولدك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب، والدلالة على ربه عز وجل، والمعونة له على طاعته، فاعمل في أمره عمل من يعلم أنّه مثاب على الإحسان إليه، معاقب على الإساءة إليه).
 
النقطة الثانية: لا شك في أنّه لا مشروعيّة لتنظيم النسل إطلاقا إذا كان ذلك يعني القتل بمعناه الحقيقي أي ما بعد مرحلة انعقاد النطفة المسمى بالإجهاض بل في ذلك دية على الفاعل مقدّرة في الفقه بمقدار محدد لازم، وكفارة لازمة.
 
النقطة الثالثة: هل رفاهية العيش مطلوبة بنحو تكون الحجة في التنظيم إعطاء الولد حقه في الحياة التامة، إنّ قوام ذلك هو بالنظر إلى الدنيا والتربيّة والتنشئة الصالحة التّي ينبغي أن يكون الولد عليها.
 
النقطة الرابعة: من الخطأ المنهجي أن نبرر أي نظريّة إسلاميّة بواقع معاش في مرحلة زمنية محددة، فلا يمكن جعل مسألة النسل ضحية مشكلات أخرى تقع فيها الإنسانيّة كمشكلة عدم تنظيم الاقتصاد ونحو ذلك.
إنّ هذا النوع من الحلول المفترضة نابع من نقل المشكلة والهروب منها ولا يعتبر إطلاقا معالجة لها.
 
النقطة الخامسة: ضرورة التفرقة بين مسألة التنظيم ومسألة الحد، لا يفهم التنظيم على أنّه تقليل عدد السكان أو تخفيض الإنجاب، ومن هنا فالتأكيد على عملية التنظيم يعني الاهتمام بالجوانب المرتبطة بتنشئة جيل صالح مع الحذر من الانتقال إلى محدودية الجيل الصالح أو قلة عدده.
 
النقطة السادسة: ما هي معيارية التنظيم؟
لعل من الأسباب الدافعة للقول بضرورة التنظيم تمثل بـ:
1ـ سبب اقتصادي: مسألة الفقر وتأمين مستلزمات الولد، فهي التي تشغل الناس وتكون حجة في الحد من إنجاب الأولاد، يقول العلامة السيد محمد حسين الطهراني في تفسيره قوله تعالى: ﴿‏‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا‏(3).
 
 وقد ذخر في‌ هذه‌ الآية‌ المباركة‌ علی اختصارها خمس‌ قوانين‌ فلسفيّة‌ إلهيّة‌:
الأوّل‌: إنّ من‌ يسلك‌ سبيل‌ التقوى‌ لن‌ يواجه‌ عقبةً وطريقاً مسدوداً، بل‌ سيكون‌ له‌ فسحةٌ وسبيلٌ من‌ أمره‌.
الثاني‌: إنّ الله‌ سيرزقه‌ من‌ حيثُ لا ينتظر ولا يحتسب‌.
الثالث‌: إنّ الله‌ سيكفي‌ من‌ يتوكّل‌ عليه‌ في‌ أموره‌ وينوبُ عنه‌ في‌ قضائها.
الرابع‌: إنّ الله‌ ينال‌ مراده‌ ومرامه‌ دوماً، ولا يستطيع‌ شي‌ء أن‌ يردعه‌ عمّا أراده‌.
الخامس‌: إنّ الله‌ قدّر كلّ شي‌ء فجعل‌ له‌ قدراً مقدوراً وحدّاً محدوداً لا يزيد عليه‌ ولا ينقص‌ عنه‌).
وقد عقد صاحب الوسائل باباً خاصا تحت عنوان: (باب استحباب طلب الولد مع الفقر والغنى والقوة والضعف) وأورد فيه العديد من الروايات منها ما عن بكر بن صالح قال: كتبت إلى أبي الحسن(عليه السلام ) إني أحببت طلب الولد منذ خمس سنين، وذلك أن أهلي كرهت ذلك، وقالت: إنه يشتد علي تربيتهم لقلة الشيء، فما ترى؟ فكتب إلي: أطلب الولد فإن الله يرزقهم.
وفي رواية ذكرها في الكافي: عن‌ أبي‌ عبدالله‌ عليه‌ السلام‌ قال‌: مَن‌ تَرَكَ التَّزوِيجَ مَخَافَةَ الْعِيَلةِ فَقَدْ أَسَآءَ بِاللَهِ الظَّنَّ.
2ـ سبب تربوي: من الحجج التي تُثار حول عملية الحد أنّ ذلك في سبيل التربيّة الصحيحة للأبناء، وهذا السبب لا يبرر مسألة الحد إطلاقا إنما واجب الأهل بذل جهد في سبيل تربية الأبناء والإحساس بالمسؤوليّة تجاه ذلك.
كما أنّ المشكلة في فساد المجتمع المؤدي إلى فقدان التربية الصحيحة يعالج من خلال التكاتف في بناء مجتمع صالح يكفل تربية سليمة للأبناء.
من محاولات التخريج من الرؤيّة الإسلاميّة ربط المسألة بزمان النبي وخصوصيات زمانه: لغة الروايات ترفض ذلك... تعبير النبي إلى يوم القيامة.
ومن ذلك التمسك برواية أمير المؤمنين(ع): قلة العيال أحد اليسارين وهي وردت عن أمير المؤمنين(ع)، والجواب أنها لغة توصيف وليست لغة حث.
وأمّا ثانياً: فإنهم‌ لم‌ يلتفتوا إلی القول‌ الآخر لمولى الموحدّين‌ أمير المؤمنين‌ عليه‌ السلام‌ قبل‌ هذه‌ الحكمة‌، حيث‌ يقول‌: "تَنْزِلُ الْمَعُونَةُ علی قَدْرِ الْمَئُونَة‌".
ختاما، لا بد من التأكيد على أنّ مسألة التنظيم تختلف عن مسألة الحد، وإنّ التنظيم الذي يؤدي إلى الحد فيه خطأ واضح بل المطلوب التنظيم الذي يتكامل مع دعوة الإسلام إلى الإكثار من ذرية تنطق بذكر الله وتلهج به.
 
 
 
 
 
 
______________________
1- سورة الإسراء: الآية 31
2- سورة الأنعام: الآية 140
3- سورة مريم: الآية 6
4- سورة الطلاق: الآية 3

التعليقات (0)

اترك تعليق