الشهيدة بنت الهدى تثير الجماهير
الشهيدة بنت الهدى تثير الجماهير
عادت الشهيدة إلى المنزل، ولكن لتبدأ صفحة اُخرى من جهادها العظيم؛ إذ إنّها لم تكتفِ بموقفها الشجاع الأوّل، وبقيت تفكِّر فيما يجب أن تفعله في هذه الساعات الحرجة والحاسمة، وكأنّها تقول:
أنا ابنة عليّعليه السلام لن أسكت، ولن أصبر على الضيم.
لقد رأيتها تمشي وتتكلّم، ولكنّها كانت تعيش بروحها في عالم آخر، تفكّر في الخطوة القادمة والحلقة الاُخرى، واستطاعت أن تهزّ المشاعر، وتثير في نفوس المؤمنين العزم والتصميم على التحرّك وفعل كلّ شيء ثأراً للمرجع المظلوم شهيد السجون السيّد الصدررحمه الله، فكانت التظاهرة الاحتجاجيّة العظيمة التي أرعبت حكّام بغداد الخونة، وجعلتهم في مأزق صعب اضطرّهم إلى الإفراج عن السيّد الشهيدرحمه الله.
ولكن كيف بدأت هذه الخطوة؟ وكيف استطاعت شهيدتنا العظيمة أن تنجح في الإعداد لتظاهرة في يوم وساعة وظرف تكاد تكون فيه مثل هذه الأعمال مستحيلة، بسبب الوضع الأمنيّ الخانق والطوق الإرهابيّ المفروض على شعبنا؟
حين اعتُقل شهيدنا العظيم في ساعة مبكّرة كان الناس نياماً، والشوارع خالية، ولم يشهد حادث الاعتقال إلا نفر يسير ممّن وجد صدفةً في ذلك الوقت.
مع ذلك فكّرت شهيدتنا العظيمة بالذهاب إلى الحرم العلويّ الطاهر؛ لإعلام الناس بالحادث، ولكنّها لم تجد العدد المطلوب، فذهبت ثانيةً بعد أن أشرقت الشمس واستيقظ الناس، وهناك عند جدّها أمير المؤمنين عليّعليه السلام علا صوتها الزينبيّ، وبدأت تخاطب جدّها، كما فعلت زينبعليها السلام بعد قتل أخيها الحسين بعبارات مؤثِّرة، وكلمات من قلب صادق.
واستطاعت أن تحشّد الناس، وتثير في نفوسهم الغيرة للانتقام من معتقلي المرجع المظلوم.
إلى جانب الشهيدة العظيمة كانت هناك مجموعة من الطلبة والمؤمنين(1) قد هزّهم الحدث، ورفعهم الإيمان إلى التحرّك بنفس الاتّجاه، فتجمّعوا في الحرم الشريف، وبدؤوا بقراءة دعاء الفرج كاُسلوب للتجمّع والتهيّؤ، وكان الأخ حجّة الإسلام السيّد علي أكبر الحائريّ ـوهو أحد تلاميذ السيّد الشهيد والمقرّبين إليه- هو أوّل من جاء إلى منزل السيّد الشهيد، واستفسر عن حادث الاعتقال، وهو الذي قرأ دعاء الفرج في الحرم الشريف. وبدأ الناس بالتجمّع، وبعد ذلك انطلقوا في تظاهرة، أقول: إنّها عظيمة ليس في كمّها، بل في الآثار التي نتجت منها، وترتّبت عليها، وفي روح التحدّي التي اتّسمت بها.
انطلقت التظاهرة من الحرم الشريف، وبدأت التظاهرة صغيرة، فهي لا تضمّ إلاّ الصفوة من أبناء الشهيد الصدر، ولكن سرعان ما كبرت واتّسعت، فقد انضمّ إليها عدد من الناس الذين اتّفق وجودهم هناك، وكانت شعارات المتظاهرين تندّد بالسلطة وأعمالها الإجراميّة، وتطالب بالإفراج عن الشهيد الغالي، رضوان الله عليه.
__________________________
(1) وأحدهم السيّد علي أكبر الحائريّ الذي كتب يقول في شرح القِصّة ما يلي:
عند ما اعتُقل السيّد الشهيدرحمه الله في ساعة مبكّرة من صباح يوم السابع عشر من رجب سنة (1399هـ) كانت الشهيدة (بنت الهدى) أوّل من خرجت لإشاعة هذا النبأ، وكسر طوق التعتيم البعثىّ الذي كانوا يخيّمونه على جرائمهم، فنطقت نطقها صارخة فى حرم الإمام أمير المؤمنينعليه السلام، وأدّت دورها البطولىّ الرائع فى إبلاغ خبر اعتقال هذا المرجع العظيم من قبل جلاوزة السلطة الغاشمة، وسرعان ما اشتهر هذا النبأ فى أوساط المؤمنين المخلصين للسيّد الشهيدرحمه الله فى النجف الأشرف، وكان الخبر فى بادئ الأمر على شكل شائعة غير مؤكّدة، وكان جلاوزة الأمن واقفين على باب دار السيّد الشهيد يراقبون الأوضاع عن كثب خشية وقوع حادثة أو ردّ فعل معيّن.
وبعد التأكّد من الخبر وقع الاضطراب والبلبلة فى أوساط المؤمنين، وكانت تخيِّم علينا جميعاً حالة التحيّر والشكّ فى الوظيفة العمليّة، رغم إحساس الجميع بضرورة وقوع ردّ فعل جماهيريّ عظيم تجاه هذه الجريمة النكراء التى قامت بها السلطة الظالمة، ولكن كلّ يقول: ماذا نصنع؟ كيف نتحرّك؟ ما هي الوظيفة؟ ما هو الاُسلوب؟... وأنا بدوري شعرت ـأيضاًـ بأنّ هذه ساعة حرجة لابدّ فيها من اتّخاذ موقف سريع، فذهبت مع أحد الإخوة المؤمنين ـمن طلاب السيّد الشهيدرحمه اللهـ إلى بيت شخص آخر من زملائنا الأعزاء، فعقدنا هناك اجتماعاً ثلاثيّاً للتخطيط حول ما يجب صنعه فى هذه الساعات الحرجة، فكانت نتيجة هذا الاجتماع هو التصميم القاطع بتنظيم مظاهرة جماهيريّة للاحتجاج على هذه الجريمة النكراء، مع وضع الخطة الكاملة من حيث: تعيين مكان التجمّع، وساعة الانطلاق، وكيفيّة الإعداد. فقد عيّنا الحرم الشريف مكاناً للتجمّع وصمّمنا على الانطلاق من هناك على رأس الساعة العاشرة بعد قراءة دعاء الفرج. وانّما اخترنا دعاء الفرج ضمن الأدعية المأثورة باعتبار أنّ هذا الدعاء ينتهي باسم الإمام الحجّة عجّل الله فرجه، وسيقوم الناس بطبيعتهم احتراماً لاسم الإمامعليه السلام، فيكون هذا القيام إعداداً للانطلاق فى المظاهرة، وهكذا كان، فقد خرجت أنا وصاحبى من بيت ثالثنا؛ لنبلّغ المؤمنين بهذا القرار، فمررنا بأكثر المدارس العلميّة فى النجف، وبلّغنا من وجدنا فيها من الطلاّب والمؤمنين، والتقينا بمن التقينا من المؤمنين ـأيضاًـ فى الطرق والشوارع، وبلّغناهم بالأمر، ولمّا قرب الموعد ذهبت إلى الحرم الشريف، وانتظرت هناك إلى أن حان الوقت، واجتمع عدد من المؤمنين، ولم أجد صاحبى الذي كنت أتعاون معه في القضيّة، ولا ذاك الثالث الذي انطلق القرار من بيته، فصمّمت على أن أبدأ بالأمر، فشرعت بقراءة دعاء الفرج، وكان الجميع يردّدون معي جملة جملة، إلى أن بلغنا اسم الإمام الحجّة عجّل الله تعالى فرجه، فقمنا جميعاً إجلالاً لهعليه السلام، ثُمّ بدأت الشعارات: الله أكبر، الله أكبر، نصر من الله وفتح قريب، عاش عاش عاش الصدر... وانطلقت المظاهرة بركضة سريعة.
وهنا لابدّ لي من الإشارة إلى مشاركة المرأة المسلمة العراقيّة في هذه الانتفاضة، حيث تواجد عدد من المؤمنات الرساليّات في الحرم الشريف، واشتركن في بداية المظاهرة، إلاّ أنّ سرعة حركة المظاهرة منعتهنّ عن إمكان الالتحاق بالرجال عند الخروج من الحرم الشريف، فتفرّقن بطبيعة الحال، وتعرّض بعضهنّ إلى المراقبة والملاحقة من قبل أعضاء جهاز الأمن الإرهابيّ في العراق.
ولمّا انطلقت المظاهرة التحق بنا جمع غفير من المؤمنين من خارج الحرم الشريف، وسرعان ما اتّسع العدد ـأيضاًـ عند ما دخلت المظاهرة شارع الإمام الصادقعليه السلام. وحاولت أجهزة الأمن الإرهابيّة بشتّى الأساليب أن تفرّق المتظاهرين منذ خروجهم من الصحن الشريف فلم تستطع، حتّى اقتحمت سيارة الأمن جموع المتظاهرين وهم في شارع الإمام الصادقعليه السلام، فلم تحصل إلاّ على ضربات قاسية على زجاجها من قبل المتظاهرين.
ثُمّ واصلت المظاهرة طريقها في شارع الإمام الصادقعليه السلام إلى أن واجهت قوىً أمنيّة مكثّفة من جهة الأمام، فحرفت مسيرها إلى جهة السوق الكبير من أحد الأزقّة المؤدّية إليه، ولمّا دخلنا السوق وجدنا المحلاّت كلَّها معطّلة، فواصلنا السير في داخل السوق إلى أواخر السوق حيث وقع الاشتباك بين المتظاهرين وجهاز الأمن الإرهابيّ، رغم تجرّد المتظاهرين من كلّ سلاح. وتعالت أصوات إطلاق الرصاص من قبل الجلاوزة، ثُمّ رجع المتظاهرون في داخل السوق باتّجاه الحرم الشريف حيث كان الجلاوزة ينتظروننا على مدخل السوق، فاضطررنا الرجوع مرّةً اُخرى من إحدى الأزقّة إلى شارع الإمام الصادقعليه السلام. وبدأ التفرّق من هناك حيث هرب من هرب، واُلقي القبض على من اُلقي.
ثُمّ بدأت عملية إلقاء القبض على الناس بصورة عشوائيّة في أكثر شوارع النجف الأشرف، ممّا يدلّ على مدى الرعب والوحشة التي ابتلت بها الجلاوزة على أثر هذه المظاهرة.
المصدر: من كتاب "الشهيد الصدر سموّ الذات وسموّ الموقف"، آية الله العلامة كاظم الحسينيّ الحائريّ.
اترك تعليق