الوشاح الأبيض
تسمّرت عيناها, حتى ليخال الناظر إليهما أنهما توقفتا عن الحركة أو عن الحياة, لولا ذلك الشعاع الخفي الذي ما لبث يرسل تموجاته الحادة.
كانت في لحظات عودة إلى ذلك الماضي البعيد القريب, أمام تلك الصورة التي مثلت أمامها, ذلك الوجه الذي بدا كالقناع, لا يهتز لمفاتن الدنيا إذ أقبلت، تمد له ذراعيها, ولا أغراه يوما أنه أصبح في عمر الشباب ليسعى كما يسعى البعض من جيله للهروب من مسؤولية واقع مرّ وجد نفسه فيه! ربما هي التربية التي تلقّاها, بل ربما هي الصورة التي علِّقت على الجدار ردهاً طويلا من الزمن!
من يدري؟ ما الذي جبل تلك النفس فأودع فيها ذلك القرار؟...
لحظات.. خالتها ساعات... استرجعت فيها أيّاماً طويلة كان قد طوى عليها الزمن ما أراد, حملت فيها من العبء ما يكفي ليثقل عليها بظلّه...
كانت الصور تأتيها من الذاكرة كشريط متسلسل سريع، وكأنه يدرك مداهمة الوقت لها فيفرغ جعبته بسرعة... وها هما تينك العينان البرّاقتان تشعّان نوراً من عليائهما بكلِّ ما تحملان من تحدٍّ للزمن!
سرقت حنانه من تاريخ عطفه عليها، واستعادت كلماته الرقيقة لتطرب أذنيها بحلاوة نغماتها كلما جاءت لحظة وداع "نحتاج إلى دعائك حبيبتي".. فتردِّد بصوتها الحاني :" لينصركم الله.. لينصركم الله.."
وانحدرت لؤلؤتان كبيرتان على خدَّيها، لتلتقيا بابتسامة ساخرة علت وجهها المتعب..
مسحتهما بهدوء، استدارت لتلتقي عيناها بذات العينين المتوقّدتين اللتين تضجّان عزيمة وثباتاً، حتى شعرت أن التاريخ عاد بها إلى لحظاته الأولى.. وأن الواقف أمامها لم يختلف عن أبيه بشيء حتى في صدى كلماته التي بدّدت الصمت الثقيل: "سامحيني يا أمي، لم استطع أن أختار غير هذا الطريق، فالدم لا يهدأ في عروقي وأنا أرى غاصب يحتلّ أرضي ويدنّس قدسي.. سامحيني أرجوك.. أعرف أنّك عانيت الكثير من أجلي، ولكنني لا أجد نفسي إلاّ في هذا الطريق".
تحرّك الوجه من جموده، وضاقت تينك العينان بتعبير ما لبث أن تُرجم بكلمات: "كنت أعرف ذلك يا ولدي، كنت أعرف أنك سترث تلك الروح الأبيّة، فليس غريباً أن يأتي شهيد للزمن من صلب شهيد".
فسألها بلهفة المُتشوِّق: "أنت راضية إذاً يا أمي؟"
تنهّدت بعمق، ضمّته إلى صدرها بحرارة الدمع المنسكب على ذينك الخدّين: "وهل تظنّني أصدّك عمّا ليس منه بدّ؟ معاذ الله أن أفعل ذلك يا ولدي".
وعاد الزمان ليتوقّف في محطّة أخرى، لم تتشابه مع سابقتها بشيء.. فالأولى زيّنها طفلاً صغيراً قتل وحشة السكون وملأ عتمة الفراغ وأغدقت عليه من فيض حنانها حتى اشتدّ عوده وغدا رجلا...
أما المحطّة الثانية، فلم يبقَ لها فيها سوى ذلك الوشاح الأبيض الطويل الذي طالما تدثّرت به لساعات طوال في ركن الصلاة...
وكان ركن تلك الغرفة الصغيرة المتواضعة يشهد لها بخشوع القلب وحضور الروح، فتقتل بهما وحشة السكون وألم الفراق.
ماجدة ريا
اترك تعليق