مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

مطر فوق جمر الرحيل

مطر فوق جمر الرحيل

مطر فوق جمر الرحيل


وابتسمت نوال، مسحت دمع كآبتها، ومضت تستريح.

في تلك اللّيلة(1) شنّ سريرها، على جسدها حرباً باردةً بكل ما في البرد من صقيع. شدّت لحافها تحت ذقنها مخبّئةً يديها المرتجفتين في طيَّته العليا، وثنت أسفله على قدميها. وحاولت أنْ تستكين. ولكن هيهات كانت كلّ جوارحها ترتعش، والتمعت أمام ناظِريْها ملامح عامر، فانقلب كيانها كلّه جمراً في موقد الحزن، استعذبت سماع صوته، متحدياً أستار الفراق، مقتحماً عليها بقامته المديدة، نافذتها الموصدة في وجه رياح اللّيلة الأولى لغيابه. 
تحت لحافها البارد، خبّأت دمعها ناسيةً، كلّ ما حولها من أمّ وأب وأخوة، بكت، كما لم تبكِ يوماً. ناجته كأنّه قربها، يلامس وجنتيها، يدفئ بحرارة كفيه، صقيع يديها: 
- منذ الآن يا عامر، سأمشي وحيدة... إلاَّ من طيفك الغالي... هل خلت منك حقاً دروب حياتي؟ هل غاب وجهك الحبيب عن دبين ومسجدها ومنعطفات دروبها؟ أخي.. يا حبيبي ورفيقي، يا رجائي وحماي... كيف سأعبر من دونك هذي الدروب؟ كيف سأجرؤ على السّير وحيدة تحت المطر بعد اليوم، من دون يديك "تردّان" عني بمظلّتك بلل المطر؟ والبيت، كم سيحن اليك، وأنا فيه؟ كيف سأستمر من دون صوتك؟ قامتك تملأ كل زاويةٍ فيه، هل سيكون لي منك فيها طيف وذكرى؟" 
عند وصولها إلى هذا السّؤال، رفعت الغطاء عن وجهها المحتقن، وحانت منها التفاتهٌ إلى الباب الذي تركته للتوّ مفتوحاً، فلمحت سريره فارغاً، قرب سرير رياض.

كان سريره محتفظاً حتى تلك اللّحظة بآخر لمساته، وقد رتّبه بعد استيقاظه أول أمس صباحاً. تأملته ملياً، رغبت أن تنام فيه، أن تعانق وسادته، لتشم أطيب عطر تركه أخوها الشهيد فوق نسيجها. ولكنّها عدلت عن فكرتها، وهي ترى رياضا، ينهض لبعض شؤونه؛ فغرقت في حزنها ثانيةً تحت غطائها. وعندما أثقل الوسن الخفيف جفنيها، تناهى إليها صوته، يرفع آذان الفجر، تنفيذاً لرجاء الشهيد، فتحاملت على نفسها، واقتربت من سرير عامر على رؤوس أصابع قدميها، محافظةً على سكون الليل السّائد في المنزل. إستبدلت وسادتها بوسادة عامر. وقبل أن تضعها مكانها، شمَّتها متنشقةً ملء رئتيها أنفاسه وعطره، قبَّلت ترويستيها(2)، فلمحت عليها شعيراتٍ قليلةً، لم ينفضها عامر، بعد أن توسَّدها للمرة الأخيرة، فجرَّدتها بحرصٍ شديد، من ترويستيها وبعناية أكثر شِدَّةً طوتها عليها، ثم غلّفتها بكيسٍ صغير شفَّافٍ وجدته، في دُرجها، وهناك خبأتها، تعويذةً مقدَّسةً، تواجه بها هبوب رياح الشوق... اليه.
 ثمّ اتجهت إلى وضوئها. وعندما وقفت فوق سجادة الصلاة التي كان يحتفظ بها عامر.. وهبت روحه ركعتين لله. وقبل أن تؤدي فريضتها الواجبة، إستغرقت بين آيات قرآن وهبته ثواب قراءتها. ولمّا أيقظها من استغراقها الوجداني رجوع رياض متعباً، باكياً إلى سريره، تبادلت معه بهمسٍ أمنية قبول الصلاة، لجأت إلى سريرها، "دافئة هذه المرة، مسلّمةً إلى سلطان الكرى أجفانها المتقرحة، فوق وسادة عامر بعد ان كانت قد وجدت فيها دفئاً من محبته وشجاعته وإيمانه، فتوسَّدتها موطنٍّةً نفسها على الثبات في مواجهات أيامٍ توقعتها حافلةً بكل صعب شديد، وغفت.  
لم يكن شأن أمّ عادل الاستغراق في النوم إلى ما بعد شروق الشمس. كانت تسبقها إلى صلاة الفجر، وتسابقها إلى ريّ مساكب البقدونس المزروعة في الحديقة خلف المنزل، لتلاقيها على الشرفة المواجهة للجبال القريبة، بقهوة الصباح. لذلك سرعان ما اتجه أبو عادل إلى المطبخ بعد أدائه صلاة الصبح، مغلقاً كتاب الله.. الذي كان يقرأه بانتظام، فأعدّ القهوة ثمّ عاد يوقظ شمسه التي غفت بعد صلاة الصبح هنيهات، نهضت بعدها متعبةً، وفتحت عينين غائمتين، وقد أحاطتهما دائرتان سوداوان بعد أرق ليلة  أمس وأول من أمس.
 تحاملت على أوجاع رهيبة، كانت تتحسسها في كل جسدها، تركت أبا عادل يسبقها إلى الشرفة مكان جلوسها الصباحي، وعندما رفعت رأسها تنظر إلى وجهها في المرآة، وهي تغسله فوق المغسلة، عكست تلك المرآة أمام عينيها المكدودتين سرير عامر، وقربه على المنضدة، بضعة كتب وأوراق ودفاتر، كانت تراه يقرأها منذ أسبوعين، تركت وجهها مبتلاً بالماء، لم تجفّفه بالمنشفة المعلّقة خلف الباب، مشت بخطى واهية إلى سريره، جلست على حافته، التفتت يميناً وشمالاً، وناداه قلبها:
- عامر... يا ولدي... يا مهجتي وحشاشة قلبي... عامر... يا مناي ومرتجاي هذا سريرك... وهذه كتبك! 
ومدّت إلى أحدها يداً ترتجف، وراحت تسكب فوق وجنتيها المبلّلتين دمعاً سخيناً وهي تلمح بقايا من أسطر كان قد كتبها. اسمه على الغلاف في ملصقٍ صغير، وعلى الصفحة الداخلية، خربشاتٍ لأشكالٍ هنّدسية، ربما كانت خارطة طريق، إلى مكان عبوة ما كان يعتزم تفجيرها، أو خطة أولية للعمليّة الاستشهاديّة التي ختم بها جهاده وحياته. وتراءت لها من خلال دموعها، يده تمسك بالقلم... تخط تلك الخربشات، وعيناه تغادران الصفحات، لتلاحقا درباً وعراً موحلاً... كان يعبره إلى انتصارٍ جديدٍ.. وباغتها صوت أبي عادل:
- أمّ عادل... أين أنت؟ لقد بردت القهوة!
فأجابت بصوت دوزنته على أوتار شجاعتها المسحوبة من بئر كتمانها العميق:
- ها أنذا... اني قادمة... أجفف وجهي... ابحث عن سترتي... 
ووجدتها بسرعة معلقةً في مشجبها. جفّفت وجهها بالمنشفة التي حملتها من دون انتباه، وألتفت بسترتها المنزلية، ومضت إليه بعد أن اطْمأنت إلى هدوء لون وجهها في المرآة... وعندما سحبت الكرسي المجاور له لتجلس "قبالته"؛ غرست في صينية القهوة نظراتها، وسكبت فنجانها... بعد أن حيّته ردّ أبو عادل تحيتها، سائلاً:
- ما قصة عامر؟ أويعقل ما قام به؟ ؟ كيف سمحت له بالسَّفر من دون أن يودِّعني؟ "ولو"؟ هل يضمن رؤيتي ثانيةً بعد عودته؟.. أتراه نسي أن الدّنيا فيها موتٌ وحياة؟؟ 
رفعت الفنجان إلى شفتيها مؤخرةً إجابتها، مانحةً نفسها فرصة التفكير في إجابةٍ تختصر جدلاً مفترضاً، وتحسم النقاش:
- أنت تعرف هذا الجيل، لقد توسَّلت اليه كي ينتظرك، ولم يستطع أن يؤجل خشيةً من الوضع الأمني وخوفاً من خسارة " الفيزا"، لا بأس يا أبا عادل، غداً عندما يعود، "حاسِبْه" كما تشاء، أما الآن، هو في غربةٍ، أمنحه رضاك، وادع الله أن يوفقه، ولننتظر بعد استقراره رسائله."  
- حسناً... وفَّقه الله أينما كان، " سأسهْمد"(3) هذه الجنينة، بعد إنهائي أحتساء القهوة، سأزرع بضع فسائل(4) من الورد الجوري، أعلم أنه النوع المفضَّل لديك، وقد نسيت أمس أن أخبرك عنها." وابتسمت أمّ عادل رغماً عنها، وتابعت احتساء القهوة معه... ولأنّها أحست بحاجتها إلى خلوة باكية بعيدة عنه، لم تسكب فنجانها الثاني، نهضت مستأذنةً متذرعةً بـ:
- إذاً سأبدِّل ملابسي وأمضي معك، لأساعدك.
وانتهت جلسة الصّباح تلك. ومضت إلى جانبه تساعده، تسابقه في تنظيف الحديقة، وتقليب التربة، وغرس الشتول، ثمّ طمر الجذور كأنّها تضع سرها فيها، دفيناً إلى أنّ ينشره ربيع آتٍ أو يأذن الله.
وعندما أيقظت طرقات المعولين نوالاً والباقين، بدأت نوال مع أمال إعداد الفطور، كي تنسى صقيع الليل الذي مرّ، وتوهج حزنها فيه بعد توقد جمر الحزن المشتعل تحت رماد الكتمان. 
بعد اجتماعهم جميعاً حول الطاولة، في أثناء تناولهم الفطور، لاحظ أبو عادل غياب نوال عن المائدة، فناداها:
- لمَ لم تأتي بعد؟ أسننتظرك طويلاً؟ 
فوافاه صوتها من بعيد: 
- أنا صائمة، لا تنتظروني أكثر يا أبي، ابدأوا فطوركم. 
فأجابها رياض:
- ما زال الوقت باكراً لقضاء صوم شهر رمضان، أمّا إذا كنت تصومين استحباباً، فسندعوك دعوة الإمام الصادق "ع".
 سمعته نوال فدخلت الغرفة، ووقفت قرب كرسي أبيها ثم أوضحت وهي تربُت بحنوها المشتاق اليه على كتفيه: 
- ابدأوا فطوركم، "صحتين"، أصوم قضاء عمَّا في الذِّمة، لا أحب التأجيل للشّهر الآتي بعد سنة، دعوني أستفِد من النّهارات القصيرة. 
وأضافت مخصِّصةً رياضاً:
- عندما أنهي ما عليَّ، سأصوم في محرّم الآتي قريباً، وسأهديه للحسين وآل بيته(ع)، وللشهداء الذين يتابعون السير على خطه، معه أو بعده لا فرق. 
فهم رياض إشارتها، وأدرك أنّها تعني عامراً، فأوضح مغطيّاً أمام أبيهما مرادها:
- إذاً، عليك إعداد برنامج صومٍ، عمراً بكامله يا نوال.
فأجابته مستجيبةً لما أراده:
- لا... إنها بضعة أشهرٍ عاهدت ربي بصومها متفرِّقةً، لن أتعب نفسي كثيراً، ثلاثة أو أربعة أيّام من كلّ أسبوع. 
ثم أضافت مغادرةً الغرفة منهيةً الحوار:
- سأبدأ منذ اليوم، ولا مانع لديّ من أن يشاركني من يرغب في أدائها معي، سأنهي تنظيف سجّادات غرف النّوم في أثناء تناولكم الفطور.
ومضت إلى غرفتها تُخرج المكنسة الكهربائية، غارقةً في حديثٍ ذاتي حزين:
-  لأجل عينيك، أصوم قربة إلى الله تعالى يا عامر... أصوم نيابةً عنك، كما وعدتك، يوماً مستحباً مني وآخر منك. كي لا ينقطع عملك العبادي في الدنيا، لن أنكث وعداً لك مهما عانيت لأجلك كلّ صعب يهون يا شقيق عمري ودربي.
بعد تناولهم الفطور جميعاً من دون نوال، وبعد انشغال كلّ منهم في شأن من شؤونه في ظلّ صمتٍ لم يكن معتاداً من قبل، ارتفع مع نداء المسجد الخالد الذي حرص رياض على رفعه صوت بكاء وعويل فاجع، ازداد وضوحاً مع انتهاء الآذان. وأوقف كل منهم، أمام حدّة هذا الصوت الصارخ، عمله، وراح يصغي إليه محاولاً تحديد مصدره... خصوصاً نوال التي دفعها هذا الصوت لترك مقبض مكنسة السجاد الكهربائيّة على الأرض قربها من دون إيقافها... وَعَدَت خارج المنزل... وعندما واجهها رياض عائداً، تواجها معاً بسؤال واحد:
- ماذا حدث؟ من أين هذا الصّوت؟
- ماذا حدث؟ من أين هذا الصّوت؟
وغيّبا بسرعة ابتسامةً خفيفةً، واهتمّا معاً بتحديد المصدر. كان الصوت من جهة مدخل البلدة الغربي، من قرب أصدقائهم بيت آل الضاهر. دخلا معاً إلى المنزل مكتئبين، واعلنا للوالدين اللذين كانا يتساءلان وهما يغسلان يديهما من تراب الحديقة عن مصدر الصراخ، فأسرعوا جميعهم لتأدية صلاة الظهرين كي يقوموا بواجب العزاء... وما إن وقف رياض فوق مصلاّه ليهب روح عامر ركعتين، وقد انشغلت حواسُّه بالموقف المستجدّ، حتى طرق أحدهم الباب، وفتحته نوال، وأصغى رياض لفتى في الحادية عشرة من سنيه تقريباً:
- والدي يطلب من رياض، أن يذيع في الجامع، الوارد في هذه الورقة، لطفاً.
وقرأت نوال الورقة، ثم قدمتها الى رياض الذي لم يكن، قد دخل بعد في طاعة الصلاة، فقرأ لوالديه أيضاً وبصوت مرتفع:
"إنّا لله... وإنّا إليه راجعون".
إنتقل إلى رحمته تعالى، فقيد الشباب الغالي الحاج أيمن، وسيصلّى على جثمانه الطاهر، بعد ظهر الغدّ في بلدته دبّين، وسيوارى الثرى في جبانة البلدة. تغمّد الله... الفقيد بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جنّاته، الفاتحة... 
 الآسفون آل الخليل وآل الضاهر وعموم أهالي دبّين...
بكت نوال وأمّ عادل، فالفقيد شاب يعزّ عليهما، ووالدته صديقتهما منذ زمن بعيد وزوجه شابةٌ، وأطفاله صغارٌ قاصرون لم يتجاوز عمر أكبرهم الرابعة من سنيه. رافقت أم عادل زوجها وأولادها إلى منزل الفقيد.. وهناك وأمام صورته، وقرب والدته المفجوعة، وزوجه الوالهة، وأيتامه الباكين ذرفت أمّ عامر دموعاً حقيقية... فرّغت حزنها المشحون منذ أول من أمس... ومثلها فعلت نوال، بكت قرب والدتها بحرارة حزنها الصّامت الذي غفا ليلاً بين وسادة عامر وغطائها. فالفقيد كان في ريعان شبابه وكان وسيماً.. وحيد والدته بين بناتٍ أربعة. ومع ذلك استغربت الكثيرات من الحاضرات بكاء نوال وأمها... وقد عزاه بعضهم إلى علاقة حسن الجوار والصداقة بين نوال وأخت الفقيد، وأمّه وأمها، وبعضهم الآخر طرح أسئلة ضاعت في خضمّ لا إجابة فيه، فقد همست أم أحد العملاء " أم شوقي" لجارتها أم حسين، وهما تراقبان أم عادل ونوالاً تحيطان أم أحمد ببكائهما: 
- ما بها أم عادل؟ لِمَ لا تخفف عن أم أحمد حزنها؟ لمَ تذرف كل هذه الدموع؟ الأمر مريبٌ حقاً!!
  فسمعتهما أم علي جارة أم عامر القديمة فتصدّت لهما معاً: 
- رُدّي عليها يا ام حسين ! وحذّريها! لا شأن لها بدموع الآخرين. 
ثمّ واجهَتْ ام شوقي:
- فليبْكِ من يشاء وليصمت من يريد، إنه حر بدمعه، إتقي الله يا أم شوقي واعتبري من موت الشاب أمامك، أن أم عادل وأم أحمد جارتان، كشقيقتين.
 غادرت أم علي، غاضبة فيما لاذت الأثنتان بالصمت العاجز عن الرد. ووصل الهمس إلى أسماع نوال التي شاهدت أختها فريال تقترب من أمها... وتقول لها:
- أمي، لا أدري ما بي، أجهل سرَّ النار التي هبَّت في قلبي، إثر سماعي بعد صلاة ظهر أمس صوت الانفجار؟ إني خائفة يا أماه. 
فأجابتها الأمّ بعد أن مسحت دموعها:
- لا داعي للخوف يا ابنتي.
 وأضافت مبتعدةً عن الموضوع الأساسي في داخلها، بعد أن فاجأها صوت انفجار الأمس في حديث ابنتها:
- واآسفاه... إن هذا الشاب وحيدٌ لأمه، أعانها الله مع زوجه وأيتامه وأشقائه. 
فردّت فريال بإصرار:
- إني خائفة يا أماه على إخوتي، على عامر ورياض وعادل...
لم تستطع أمّ عامر إخفاء شيء من العصبية في ردّها الباكي الذي استورد من كتمانها المضغوط في أعماق نفسها ثورته:
- قلت لكِ لا مسوِّغ لخوفك، عامر في الكويت وعادل في ليبيريا.. وها هو رياض هنا يقوم بشؤون المأتم، كفى، الوقت ليس مناسباً لهذا الحديث، قد يسمعك الآن أحدٌ من أهل الفقيد.  
وابتعدت ببطء أمّ هدّها ألم الفقد المبكر الذي كان يعرّش بصمت في أعماق كيانها المفجوع، داعيةً نوالاً إلى اللحاق بها بعد قليل بإشارات لم يلاحظها أحدٌ. وعندما التقتا بعد برهةٍ، خارج غرفة المأتم، ارتمت نوال في حضن أمها  فبادلتها امّها العناق الباكي هامسةً لها:
-  إّياك يا نوال أن تقولي شيئاً لفريال، انها تحسُّ أمراً ما. أرجوك يا ابنتي، قد يقتلون كلَّ أشقائك.
-  لا! لن اخطِىء أبداً يا أمي، لا عليكِ، هيا بنا نعدْ الى جيراننا ، إنهم مفجوعون، هيَّا لنحضّر القهوة ونكسب الأجر، علَّنا ننشغل بحزن سوانا، عن حزننا. يقال في الأمثال " اللي بشوف مصيبة غيرو، بتهون عليه مصيبتو"، ناهيك عن وجودنا، بكل هذا الحزن، كأننا أهل الفقيد، سيلفت الأنظار إلينا، خصوصاً أنظار العملاء، لقد سمعت أم شوقي تسِرُّ لأم حسين عنكِ شيئاً، وقد تصدَّت أم علي لهما معاً. 
وعندما أنهت اختصار ما سمعت، ضمتها أمّ عامر إلى قلبها وقد سمعت في صوتها صوت عامر، ورأت فيها نضجه وعمق تفكيره وإحساسه المبكر بالمسؤوليات مهما كانت جساماً وأضافت وهي تفك عناقها اللاهف.
-  حبيبتي يا نوال.. معك حق... سأسأل أم أحمد. لأنها صديقتي أن تسمح لي بصنع قهوة المأتم، عندنا في المنزل. كي نبتعد عن عيون العملاء، أعماها الله تلك العيون الخائنة. ماذا تريد منا أم شوقي؟... وضعت "نقرا من نقرنا(5)" خلص، حطت حطاطنا.
وسمحت أمّ الفقيد... لأمّ الشّهيد أن تقوم بما تراه مناسباً. وفي مثل هذه الظّروف.
ومضت أمّ عامر إلى منزلها تقيم في حديقته لوازم العزاء، يعاونها رياض ونوال، أمّا فريال وامال فقد أبقتهما في المأتم نيابةً عنها في الحضور الواجب، واستغرقت أمّ عامر مع نوال بإعداد قهوة المأتم التقليدية، وراح رياض يهتم بإرسالها إلى منزل جيرانهم الحزانى في هذا اليوم الكئيب من آذار، رتب بنفسه فوق المناضد علب السجائر، ووزع فناجين القهوة مع دلائها على المتحمسين للقيام بمثل هذه الأعمال، في مثل هذه المناسبات من أعمار الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من الفتيان... كان يتحرك بذهنية عامر ودقته. فالفقيد الشاب كان معروفاً قبل مرضه بمبادئه الشريفة المتعاطفة مع المقاومة. وهو يستحق، بعد مماته كما قبله، كلّ وفاءٍ واهتمام ولو كان عامر هنا، لقاد دفة الخدمة في هذا الحدث الجلل.. بكل صدق وحماس ولأراحه قليلاً. وعند وصوله إلى هذه الفكرة؛ ضغط في نفسه، إحساسه المستجدّ بأنّ عامراً مضى من دون مأتم مهيب يليق بشبابه، وأنّه صار ضوءاً تشظى وعطراً تشذّى وقطر صبحٍ فوق الورد تندّى، فلا ضريح يضمّ رفاته أو أشلاءه المتناثرة فيزوره.انتحى رياض بهذه الصورة جانباً، وأسند على حائط جانبي، حزنه المنهار دمعاً غزيراً، ومنعته من الاستغراق فيه يد أحد الصغار الذين كانوا يتعاونون معه سائلاً أياه:

- ما هي صلة القرابة بينك وبين المرحوم ايمن يا عم حتى تبكيه بهذا الحزن كله؟
 فالتفت رياض إليه قائلاً، وهو يخبّئ ثلاثة أرباع الحقيقة.

-  إنه جارنا، أخ كبير عزيز، يا صغيري، هيّا أسرع يا بني، خذ علب السجائر إلى الرجال في هذه الغرفة، وهذه، إلى النساء من المدخل الثاني، استدعِ أختي أمال، واطلب منها أن توزعها على الزوايا، ولتضع قليلاً منها، على الطاولة التي تتوسط الغرفة. وقل لرفيقك حسين، أن يقوم بالأمر نفسه عند الرجال. 
- أريد أن أخبرك أمراً، عدني بألّا تخبره أحداً يا عماه، أنا أحبك وأحب كثيراً أخاك عامراً. 
 وفاجأه الإسم الغالي في حديث الفتى البريء، فسأله كابحاً جماح المفاجأة: 
- ما هو يا صغيري؟
- منذ قليل، جاء الإسرائيلي "ياكي"، إلى المأتم، وسمعته يجالس واحداً من بيت (آل العبدالله)، ويتحدثان عن انفجار الأمس، وقد طلب ياكي رؤية جثة أيمن رحمه الله. بعد أن أتوا بها من مستشفى مرجعيون، وعندما رآها، خفض رأسه وتظاهر بالحزن. 
وأحنى الفتى رأسه، ثمّ ضمّ يديه إلى صدره مقلداً "ياكي" الإسرائيلي فاستحثّه رياض:

- نعم، وماذا أيضاً؟
- لا شيء يذكر، فقط سمعت ياكي محدِّثاً إبن العبد الله:
- يجب أن تتأكدوا من وجود جثةٍ كاملة في كلِّ مأتمٍ في القرية، وإذا وجدتم جثةً مجروحةً أو متناثرة، يجب أن تبلّغونا فوراً. أيمكن أن يكون هذا الطلب يا عمّ، لأنهم لا يُجيزون دفن جثةٍ ناقصةٍ في شريعتهم؟
- لا يا حبيبي. 
أجابه رياض مستغرقاً في فكرة واحدة، هي أنّ الإسرائيليين، يبحثون عن أشلاء شهيد انفجار الأمس أو جثته أو عن جريحٍ قضى بعد وجوده مشاركاً في مكان العملية ولم ينتبه أن الفتى قد مضى بحمله من علب السجائر متخفٍّفاً من سرّ كان يتعبه.

مسح رياض ألمه ومضى يعدُّ أباريق المياه.. وبعد أن أحرق على مجمرة الفقد المفاجئ لشاب قريب من قريته حزنه الكبير على أشلاء أخيه الشهيد، أيقظ إحساسه بأنّ الإسرائيليين بدأوا البحث من مآتم البلدة، وأنّ عليه، أنّ يشد مع نوال أحزمة الحذر جيداً، كي لا يسقطا بين براثن مطبات العمالة الهوائية، التي ستنشط الآن باحثةً عن ضحية تقدمها للإسرائيلين، مرضاة لهم، وتسويغاً لعجزهم عن حفظ أمن الشريط الشائك المحتل الذي تحسبه إسرائيل حزاماً أُمّنا لشمالها. 
عند وصوله في حديثه الفردي الذاتي مع نفسه إلى هذه الفكرة، هزّ رأسه ساخراً منهم وأرضاه اكتشافه أن أخاه عامر قد وصل إلى عمقهم المزعوم أمّنا فتوعدهم، قائلاً لنفسه:
- يتجسَّسون على مآتمنا؟ وهذا أول الغيث، وهم فوق أرضنا نحن، وأرضنا أمنا، تكتم أسرارنا إلى أن يأذن الله...
أمّا نوال ووالدتها، فقد خلا لهما الجو في المنزل، بين المطبخ والحديقة فجّرت كلُّ واحدةٍ منهما ينابيع حزنها على عامر، بعد انشغال أبي عادل بمأتم الجار... وأشعلت أمّ عامر في منزلها بخوراً، وأرسلت منه إلى منزل أهل الفقيد الشاب، وحرصت مع نوال بعد التشييع، كما قبله على الحضور في المأتم، وفي جبّانة البلدة.

وهناك ومن بين الدخان المتراقص حاملاً رائحة البخور النّافذ، الذي وزّعته نوال حول الضريح، بكت وأمها علناً الشباب الذاوي باكراً داخله، وبكى قلباهما سراً، شاباً تشظَّى على بوابة المطلة، فوق سهل الخيام. لقد وجدتا في مأتم الفقيد، ما فقدتاه في عرس الشهيد الذي اقتصر حضوره على شمس الظهيرة، وسمائها، والمطر، وتراب الأرض التي حضنت أشلاءه ...  
 

 

_____________________________
(1): ليلة الحادي عشر من آذار بعد غياب شمس يوم العاشر منه، يوم العملية الاستشهادية في سهل الخيام قرب مستعمرة المطلة 1985.
(2) الترويسة: غطاء الوسادة الخارجي من الجانبين.
(3) سهمد: كلمة عامية تعني تسوية التربة وتنظيفها قبل الغرس فيها.
(4)مفردها فسيلة،النبتة الصغيرة في اوّل نشوئها من بذرة ونواة قبل زراعتها.
(5): تعبير عامي يعني، وضعتنا نصب عينيها، هدفاً له.

التعليقات (0)

اترك تعليق