مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

أمينة*

"أمينة": مستوحاة من قصة استشهاد الشهيدة خديجة عطوي أثناء المواجهات مع قوات الاحتلال في بلدة جبشيت.

[إبان الاجتياح الاسرائيلي للبنان في عام 1982م، كانت جبشيت محور العمل المقاوم وموئل المجاهدين، يرتوون من معين القيادة الرشيدة المتمثلة في شخص الشيخ راغب حرب... وبعد استشهاد الشيخ، ازدادت وتيرة العمل المقاوم كماً ونوعاً، وبدأ العدو يتكبّد خسائر جسيمة. وفي عام 1984، كانت جبشيت على موعد مع مواجهات متكررة مع قوات الاحتلال الصهيوني الهمجية..]

في قلب الزمن المرّ، قد يكون من الصعب التوقف للحظة والتقاط الأنفاس، فكلّ ما هو موجود يدفعك للاستمرار في التحرك والمسير إلى ما لا نهاية... لكنّ الذين عشقوا التحدي لن يضيرهم جموح السفوح ولا تعالي القمم، بل على العكس من ذلك، فإنهم يواصلون اختراق العوائق واعتناق الصخور، واحتساب الريح عند كلّ مفترق...
هناك... عند انبلاج الفجر وتفجّر أنفاس الحياة على هضاب جبل عامل، وحيث تنسكب القرى العاملية، بسلام، حاملةً معها بيوتها العتيقة، فوق أعتاب الجبال، متجذّرةً في أعماق وجودها، تجذّر السنديان بين أضلاع الصخور.
هناك... حيث يخيّل إليك أنّك تشهد تفتّح عناصر الخليقة، لأوّل مرة، ولادةً بريئةً عن كلّ تعقيد وكرب، وكأنّها في زمنٍ غير زمانها، ومكانٍ انفرد عن بقاع الأرض، فاستهابتها أوهام المدنية لرفضها كلّ أنواع الزيف، فلم تجرؤ على اقتحام عرينها.
كان الضوء قد بدأ يتسلّل عبر الأفق، في يوم ربيعي، وفي أطراف بلدة جبشيت، مشت أمينة بين شجيرات السنديان والأعشاب البرية، تجمع بعضاً من "البلاّن" والأغصان اليابسة، تتنقل، بحذر على الصخور الملساء المغسّلة بقطرات الندى، مخافة الانزلاق، ثمّ تجلس للحظات تتأمل الأفق والقرى البعيدة، فيتلاعب الهواء ببعض خصيلات من شعرها تظهر، فتخفيها بسرعة تحت منديلها الأبيض.
لم تتجاوز الخامسة عشر من عمرها، وهي تبدو في لباسها القروي البسيط، ووجهها الصبوح، في ملامحها التي تحار بين اقتناص الصبا والحنين إلى أغاني الطفولة، تبدو أقرب إلى صورة الطبيعة الغضة، البكر، في أوج تخلّقها.
جمعت بعضاً من تلك الأغصان الشوكية، ثمّ حملتها وسلكت الطريق الترابي المؤدي إلى الحي [...]، ودخلت أحد الأزقة، صاعدةً بين البيوت الترابية القديمة. ورغم تلك الساعة المبكرة من النهار، ورغم القصف الاسرائيلي العنيف الذي طال أطراف القرية ومحيطها، إلاّ أنّ الأزقة كانت في تلك الساعة ممتلئة بالقرويين الذين يقصدون أعمالهم، بوجوههم الطيبة الوادعة، فتبتدئهم أمينة بالتحية، مبتسمة، وتشارك في حديث مقتضب مع بعض النسوة.
الجميع مشغول بموضوع الاقتحام الاسرائيلي المرتقب للبلدة، فتهديدات العدو لا تتوقف، والقصف الليلي لا ينذر بخير، الشباب تركوا منازلهم ليتحضروا للأسوأ، والعديد من الرجال يجتمعون بعد كلّ صلاة، يتباحثون مع الشيخ بما يجب عليهم فعله، فلقد ارتكب العدو إلى الآن مجازر في العديد من القرى الجنوبية، وقد تكون جبشيت التالية. أمّا النسوة، فلا يعتبرن أنفسهنّ بمنأى عن هذا الأمر، فالدفاع عن البلدة والوطن واجب ديني، كما لا يمكنهنّ أن يدَعن العدو الصهيوني يتعرّض لأبنائهنّ، بالقتل أو الاعتقال، دون أن يحرّكن ساكناً.
كانت أمينة تستمع إلى حديثهنّ، باهتمام بالغ، وهي برغم صغر سنّها، تستشعر قوةً جبارة، في كيانها، تدفعها للمواجهة، لرفض الاستسلام المرّ، أمام عدو الاسلام، عدوّ الدين والوطن. 
هذا ما كان يشغل بالها وهي تدخل إلى دار المنزل، اتجهت إلى زاوية في الدار، تظللها خيمة صغيرة، ووضعت الأغصان قرب الموقد، استقبلتها أمها بابتسامة ودعاء، دخلت البيت وخرجت تحمل كتابا في يدها، ثمّ انضمت إلى أمها، جلست بالقرب منها، لتشاركها في رقّ أقراص العجين... وبين الفينة والأخرى كانت تسترق النظر إلى الكتاب المفتوح أمامها، تردد بصوت خافت عبارات لتحفظها.
"هل ستمتحنون اليوم يا أمينة؟"، سألتها أمها وهي مشغولة بعملها.
" نعم، أماه، فاليوم لدينا امتحان في التاريخ".
ساد الصمت لفترة، قطعته أمينة بسؤالها: "أين أخي محمد يا أمي؟"
"هو ليس في المنزل!"
"هل انضمّ إلى الشباب؟"
نظرت أمها إليها مطوّلاً، ثمّ قالت: "لقد بدا قلقا جداً ليلة البارحة، قال أنّ هناك أمراً خطيراً سيحدث وأنّه يجب التحضير الجيد له. لقد خرج قبل طلوع الفجر!"
نظرت أمينة إلى أمها بحزن وقالت: "أرجو أن لا يصيبه مكروه!"
استمرت أم محمد بعملها، تحوقل حيناً، وتصلي على النبي وآله الأطهار عليهم السلام حينا آخر، ثمّ هتفت وهي ترفع بنظرها إلى السماء: "الله يحمي الشباب وينصرهم على عدوهم بجاه محمد وآل محمد!"
"هل خرج أحمد أيضا يا أمي؟ لم أره في الداخل".
"ما زال في البيت!"
في تلك اللحظة نزل أحمد عن سطح المنزل، وهو يرتدي سترته، فسألته أمه: "إلى أين يا بني؟".
"أنا ذاهب إلى المسجد، لقد دعا الشيخ عبد الكريم رجال القرية إلى اجتماع هام، خاصة بعد أحداث البارحة".
"الله يوفقك يا بني وينصركم على كل من يعاديكم!"
هتفت أمينة: "انتبه لنفسك يا أخي!".
ابتسم أحمد وأومأ بيده مودعاً ثمّ خرج، واستمرت أمينة بمساعدة أمها في إعداد الخبز. لم تذهب إلى الامتحان في ذلك اليوم، فالمدرسة أُغلقت تحسبّا لأي طارئ، لذا انضمت مع أمها إلى أخريات من البلدة، في منزل جارتهن أم علي، يتباحثن في ما سيفعلنه، في حال اقتحمت قوات الاحتلال البلدة، من تأمين للحجارة وتحضير الزيت المغلي، والبصل الذي يفيد عصيره في إبطال مفعول الغاز المسيّل للدموع!
وقمن بإخفاء الأسلحة، إن وجدت، في أماكن سرية، فهي في ذلك الحين، أثمن من الذهب!
في الليلة التالية، تعرضت أطراف البلدة لقصف همجي أشدّ من سابقه، لم ينم أحد من سكان القرية، كان الجميع في ترقب... وعند الفجر ساد صمت مهيب، لم يقطعه سوى صوت الآذان يتعالى في سماء جبشيت، فاجتمعت القلوب عندها للدعاء والابتهال لله، طالبين المدد والنصرة.

في الصباح الباكر بدأت قوات الاحتلال تتحرك باتجاه البلدة، ومن عدة جهات، فتعرض بعضها لهجوم مباغت من قبل المجاهدين الذين اختبأوا بين الأشجار في البساتين، فكان أن تكبد العدو خسائر جسيمة.
واستمرت مجموعات أخرى بالتقدم...
خرجت أمينة مع أمها من البيت واتجهتا إلى إحدى المنازل المشرفة على ساحة البلدة، كانت الطرقات تضجّ بالرجال والنساء والفتيان، الذين يقصدون وجهة واحدة، وقد خلت كثير من البيوت من أصحابها، كان الجميع يعرفون ما عليهم فعله.
دخلت أمينة المنزل، فوجدت قريباتها قد باشرن العمل، فانضمت إليهنّ تساعدهن في تحضير الزيت المغلي ونقله إلى السطح لكي يكون نارا تُصب على رؤوس الجنود الظالمين، كانت تساعدهن بنشاط بالغ، وكانت تلتفت من حين لآخر إلى بعض الأطفال في أسفل الدار يبكون، وآخرين يلعبون...
سألت إحدى النساء: "ألا يجب أن نجمع الأطفال في الحسينية، ماذا لو قاموا بقصف بعض المنازل؟"
أجابتها أم محمد: "لقد قصف الاحتلال سابقا العديد من الحسينيات والمساجد، إنهم لا يبالون بالمقدسات، يريدون أن يخنقوا حتى صوت الآذان يتعالى بالتوحيد، مخافة أن يصل صداه إليهم!".
ثمّ أكملت: "ليست فكرة صائبة، الأفضل أن يبقوا معنا".
بعد ساعات من الترقب، ظهرت الآليات الإسرائيلية بألوانها القاتمة المظلمة، كقلوب راكبيها، دبابات وجيبات عسكرية تقلّ العشرات من الجنود المدججين.
وقفت أمينة تتأمل منظر الآليات، مدهوشة، سابقا،ً كانت ترى العديد من آليات العدو تتنقل بين القرى، كذلك في النبطية، حيث تذهب من وقت لآخر مع أهلها للتسوق أو للمعاينة في المستشفى، لكن المشهد اليوم يختلف، ورؤيته تؤجج غضبها الذي كان قد بدأ ينمو في قلبها منذ سنتين.
هزتها جارتها بعنف هاتفة بها: "أمينة أخفضي رأسك، واستعدي، سنبدأ حين مرورهم قرب المنزل!"
وبعد قليل دخلت الآليات إلى الأزقة، وبدأت المعركة...
بدأت النسوة بصب الزيت ورمي الحجارة، وسمعت العديد من الطلقات النارية تتجه إلى الجنود، فتردي بعضهم قتلى، والفتيان كانوا يواجهون الجنود بالحجارة، ثم يختفون خلف المنازل.
كان أحمد من بينهم، رمى، مع رفاقه، الجنود، ثمّ بدأ يركض ليختبئ ويعاود المواجهة، لكنّ طلقة نارية أصابته في كتفه، فوقع على الأرض. واقترب الجنود منه، لكن بحذر، لاعتقاله.
كانت أمينة تنظر إليهم، وعند رؤيتها أخيها يقع على الأرض، نزلت بسرعة من فوق السطح، نادتها أمها: "إلى أين يا أمينة؟ ارجعي!"
"لقد أطلقوا النار على أحمد"
لحقتها أمها، اقتربتا من مكان الحادثة، فلم يجدا أحدا، كان الجنود قد تركوا المكان إلى زقاق آخر. خافت أم محمد وبدأت تبحث عن ولدها.
"أنا هنا يا أماه!"
نظرت الأم إلى ولدها الذي أطل من وراء جدار، فاندفعت إليه، وجلة، كذلك أمينة اقتربت من أخيها وحضنته.
"لا تخافي يا أمينة، أنا بخير"
جاء بعض الرجال للمساعدة ونقلوا أحمد إلى المنزل المجاور، وكانت أمينة تساعد أخيها ودموعها تغسل وجنتيها وهي لا تصدق أن أخيها على قيد الحياة.
بعد سماع صوت اطلاق نار كثيف، من الحي المجاور، وكانت الآليات ما تزال تخرق طرقات البلدة، خرجت أمينة مسرعة، ناداتها أمها فأجابتها: "يجب أن أقف في وجه هؤلاء المجرمين، الذين يقتلون أحباءنا، لقد نجا أخي، لكن كل الشباب إخوتي".
اتجهت نحو دبابة حاملة معها بعض الحجارة وبدأت ترميهم بها، تفاجأ الجنود فصوبوا نحوها السلاح، لم تتوقف أمينة بل وقفت بصلابة، وهي تنظر إليهم، ثمّ اقتربت منهم ورمتهم بما لديها، كان الجنود ينظرون إليها برهبة، وعند اقترابها أكثر، أطلقوا النار عليها.
"أمينة!" صرخت أمها وركضت نحوها مع أخيها أحمد، وحملتها بين يديها وهي مخضبة بدمائها.
"أمينة! أمينة!"، لم تجب أمينة لكنها نظرت إلى أمها بعينيها الساحرتين، وابتسمت، ثمّ أسلمت الروح...
في تلك اللحظة، كان بعض شباب القرية يدخلون الحسينية، ويصعدون إلى المئذنة، وقد أمسك أحدهم بمكبّر صوت، كانت ملامحه تدل على أنّه محمد، وقف على شرفة المئذنة، وأطلق صوته... "الله أكبر! الله أكبر!"
وتعالى الآذان مرة أخرى كما كل ظهيرة، في سماء جبشيت، وتردد صداه على التلال، حاملا معه صوت التوحيد، نداء الله...



* مستوحاة من قصة استشهاد الشهيدة خديجة عطوي أثناء المواجهات مع قوات الاحتلال في بلدة جبشيت. 
  
كتابة ميسون رضا. 

التعليقات (0)

اترك تعليق