دور الثورة الإسلاميّة في تنمية مسيرة الصحوة الإسلامية
الحديث عن الثورة الإسلامية الإيرانية ودورها في تنمية مسيرة الصحوة الإسلامية, هو حديث عن الإسلام الرسالي في حركته ونهجه وتطبيقه العملي, في حيوية أجوائه وغنى مفاهيمه وقيمه الروحية والمعنوية.
هو حديث عن المرجعية الفذّة والقيادة الصالحة التي انعكست فيها كل المقدمات العلمية والعملية للإنسان الرباني الذي لا يخشى في الله لومة لائم... وهو أيضاً حديث عن الثورة النموذجية التي لم ير المتطلعون والمتعطشون نظيراً لها إلا في ثورات الأنبياء والأئمة(ع).
وبديهي أن الثورة التي تملك مثل هذه المقومات، وتملك أن تكون أسوة ونموذجاً للمظلومين والمستضعفين على امتداد العالم.. لا يمكن أن تكون محصورة في ظرفها الزماني والمكاني، بل تتجاوز مع فعالية تأثيرها الغير مباشر الظروف الزمنية والمحلية تلقائياً.
شخصية قائد الثورة الإسلاميّة:
- وأنه بالالتفات إلى مقدمات أجواء ولادة هذه الثورة المباركة بعد فصول طويلة لأزمة الاستبداد والظلم والتحدي نجد أنه:
في آذار عام/1967 نشرت صحيفة التايمز كلاماً للمستشرق الإيطالي مونتغمري وات قال فيه "إذا وجد القائد المناسب الذي يتكلم الكلام المناسب عن الإسلام فإن من الممكن لهذا الدين أن يظهر كإحدى القوى السياسية العظيمة في العالم مرة أخرى".
- وفي العام /1979 كتبت صحيفة الصنداي تايمز تصف وقع شخص الإمام الخميني(رض) وحضوره على الساحة الدولية قائلة: "إنه يبدو كرصاصة انطلقت من القرن السابع واستقرت في القرن العشرين".
- وكتب الصحافي الشهير هيكل بعد أول لقاء مع الإمام(قده) قائلاً: "بدأ وقتها في باريس وكأنه فعلاً شخص من شخصيات صدر الإسلام، عادت إلى الحياة بمعجزة بعد ثلاثة عشر قرناً من الزمان".
وعليه، فإن هذه الشخصية الإلهية سرعان ما تبوأت مقاماً سامياً، إذ استطاعت بفضل الله سبحانه أن تأخذ على عاتقها حمل راية إحياء الدين في عصرنا، وأن تقود وتوجه أعظم ثورة شعبية عرفها التاريخ الحديث.
ثورة انتصرت بفضل تدبيره(رض) وبهمّة شعب رأى إيمانه وعدالته وآماله وآمانيه تتجلى في ذلك الوجه النوراني
ثورة أحدثت تأثيراً عظيماً، ليس في مصير الشعب الإيراني العظيم فحسب، بل في جغرافيا الفكر والسياسة المعاصرة إذ كانت بحق «كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا» (إبراهيم: 24).
قبس من حركة الأنبياء(ع):
رغم أن الثورة الإيرانية المباركة كانت حدثاً سياسياً حصل في المجتمع الإيراني، إلا إنها كانت ذات خصائص عامة وعالمية نابعة من عنصر الدين والصفة الدينية, وهذه الميزة أدت إلى أن لا يكون هذا التحول مقتصراً على حدود إيران، وحدها إنما امتدّ تأثيرها ليس إلى أقصى نقاط العالم الإسلامي فقط, وإنّما وصل إلى جميع المجتمعات حيث كانت لها تأثيرات عميقة وجادة عليها.
وعليه فإن هذه الثورة، وبناء على ماهيتها الدينية والإيديولوجية، لم تحدد نفسها من حيث البعد النظري برقعة جغرافية خاصة ومحددة، وإنما وضعت خططتها الإستراتجية والخطوط العامة لسياستها العملية والعينية بحيث تكون ذات أهداف عالمية، وإنسانية نابعة من العقائد الدينية التي تحدد المسؤولية الإيديولوجية لثورة دينية وإسلامية.
وقد كان من أقوال قائد الثورة(رض) الذي يمثل الإسلام، والإسلام وحده صلب اهتمامه واعتقاده: "إلهي إن كان أحداً غيرك لا يعلم فأنت تعلم بأننا نهضنا لرفع راية دينك، ووقفنا في وجه الشرق والغرب لإقامة العدل، والقسط اتباعاً لنهج رسولك، ولن نتوانى عن مواصلة الطريق لحظة واحدة".
"لقد انتفضنا من أجل الإسلام, لذلك فإن هذه الجمهورية هي جمهورية إسلامية، ولا يمكن لثورة قامت في سبيل الإسلام أن تحدد ببلد واحد، أو بالعالم الإسلامي وحده، إن الثورة من أجل الإسلام هي امتداد لثورات الأنبياء التي لم تكن محددة بحدود, فرسول الله(ص) كان من الحجاز إلا إن دعوته لم تقتصر على الحجاز والجزيرة العربية إنما كانت لكل العالم".
"يا مسلمي العالم ويا أيها المستضعفون الرازحون تحت نير الظلمة مدّوا يدَ الإتحاد بعضكم إلى بعض، وزودوا عن الإسلام وعن مقدراتكم ولا ترهبوا صخب السلطويين، إن هذا القرن بحول الله القادر, قرن غلبة المستضعفين على المستكبرين والحق على الباطل".
الصحوة الإسلامية وانتصار الثورة:
لقد تركت الثورة الإسلامية تأثيراً كبيراً على الشعوب الإسلامية بحيث أصبحت محط آمالهم وآمال المستضعفين في أنحاء العالم.
ومن هنا يأتي القول: بأنّ انتصار هذه الثورة شكل نقطة تحول هائلة على صعيد الصحوة الإسلامية ويقظة المسلمين حتى أن أحد الكتاب الغربيين قال: "لقد سعينا سنوات طويلة إلى ترويج العلمانية وبث الفرقة في العالم الإسلامي، ولكن الثورة الإسلامية قضت على كل أحلامنا"، وذلك لكونها جاءت على خلاف كل توقعات قوى الاستكبار.. كانت بمثابة مفاجئة وصدمة كبيرة أفقدتهم صوابهم إذ لم يعد بالإمكان إخماد فتيلها المتصاعد ولا محاصرة مؤثراتها البعيدة الغور.
فالثورة التي أحيت الآمال في العالمين العربي والإسلامي، شكلت عبر حضورها وفعاليتها قوة الدفع والمحرك الرئيسي لحركة الصحوة الإسلامية المعاصرة, بعد أن كانت المنطقة ككل تمرّ بفترة ركود وصمت ويأس شديد، ولذا كان اندلاعها كثورة شعبية دينية اجتماعية بمثابة الزلزال الذي هزّ بشكل عنيف جميع كيانات القوى والنماذج والقناعات المؤازرة للنظام العالمي.
فالصهاينة -على سبيل المثال- الذين أبحروا في غيهّم وطغيانهم, كانوا يظنون أنهم سيطروا على فلسطين وانتهى الأمر، وذلك بعد أن أخافوا كل من حولهم وارهبوهم. لم يكن هناك شعب يشعر بالأمل, لكن فجأة فتحت بوابة الفرج على مصراعيها، وكان أن استيقظت الشعوب على وقع الثورة التي منحت الناس الثقة بالذات والأمل بالنصر، أعطتهم شخصيتهم وأعادت لهم هويتهم, أعادت لهم إيمانهم المفقود وأخرجتهم من حالة فقدان الذات والاستتباع ودفعت بهم باتجاه حضور معنوي فاعل ومؤثر أدهش العالم، بيّنت لهم ولغيرهم بأنه لا سبيل للخلاص إلا بالإسلام, ناشرة بينهم ثقافة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، معرّفة الجميع بوظائفهم الدينية، ومبيّنةً منزلة الشهيد عند الله تبارك وتعالى, وبأن القتل في طريق الانتصار شهادة في سبيل الله.
الثورة وقوى الاستكبار:
- وأنّه في مقابل المدِّ الثوري الذي أوجدته الثورة المباركة, تحركت قوى الاستكبار بكل قوةٍ لمنع وصول إشعاعاتها إلى البلدان العربية والإسلامية، وراحت تجهد من خلال الدسائس والمؤامرات والمخططات الخبيثة؛ موعزة إلى عملائها في المنطقة بإشعال الحرب ونشر الأكاذيب، وتكثيف الضغوط وتسخير أجهزة الإعلام المأجورة من أجل تشويه الصورة الناصعة التي ارتسمت في الأذهان، وصولاً للإجهاز على الثورة بعد أن أدركت أنها ستكون مصدر إلهام الشعوب المنتفضة ضد الجور والظلم مستقبلاً.
الثورة الإسلامية ومجالات تنمية مسيرة الصحوة الإسلامية:
يعتقد الكثير من الخبراء والباحثين بأن الثورة الإسلامية في إيران هي الثورة الأم التي مهدت الطريق لغيرها من الثورات، بعد أن شكلت أحد العوامل والأسباب المهمة والمؤثرة في دفع عملية الصحوة الإسلامية، والوعي لدى المسلمين، وزيادة الفعاليات الإسلامية المؤثرة في المجتمعات الإسلامية.
فهذه التجربة الضخمة كان لها وهجها وتأثيرها على الجماهير في العالمين العربي والإسلامي، ووعيهم بقدرتهم على تحقيق الأهداف مهما بلغت قدرات المستبدين، وذلك لكونها قامت بمواجهة قوى الاستكبار وهي بأوج قوتها واندفاعها، ولكونها عملت بعد إسقاط نظام الطاغوت على مقارعة المستكبرين وتأديبهم، وذلك على مرأى ومشهد من شعوب المنطقة التي كانت تتابع مسار هذه الثورة لحظة بلحظة, والتي كان لا بد لها بعد سنيّ القهر والظلم والتعطش من أن تتخذ من الثورة الإسلامية ومن الشعب الإيراني المسلم قدوة لها، وذلك لأن هذه الشعوب كانت من جهة قدمت دماءً غالية في سبيل التحرر من الاستعمار الأجنبي خلال العصور الماضية, لكنها لم تحصل على استقلالها الحقيقي بسبب تسلط أنظمة فاسدة عليها, ومن جهة ثانية لأنه تجمعها مع
الثورة الإسلامية وشعبها مجالات كثيرة مشتركة ومنها:
1- العقيدة الموحدة: والتي تجلت في رفع راية الإسلام الذي يمثل العمق العقائدي والعاطفي لشعوب المنطقة ويقول قائد الثورة الإسلامية(رض) الذي كانت صرخته للإسلام ومن أجل الإسلام في هذا المجال: "لتكون كلمتكم موحدة في كلمة التوحيد المشترك بين الجميع، وفي المصالح الإسلامية المشتركة بين الجميع".
2- العدو المشترك: وحيث تواجه الثورة الإسلامية وشعوب المنطقة عدواً مشتركاً يتمثل بالاستكبار العالمي بقيادة أمريكا (الشيطان الأكبر)، وإسرائيل (الغدة السرطانية)، وفي هذا المجال قال قائد الثورة الإسلامية: "أن عدونا المشترك اليوم إسرائيل وأمريكا وأمثالهما ممن ينوون القضاء على كرامتنا، وإخضاعنا مرة ثانية لظلمهم فعليكم إزاحة هذا العدو المشترك".
3- الهدف المشترك: باعتبار أن الجميع ينشد إزاحة الظلم والهيمنة وقطع يد الناهبين لخيرات الأمة والمحافظة على الإسلام, ويقول قائد الثورة في هذا الجانب: "ليكن الجميع في الساحة إننا ننوي المحافظة على الإسلام إذ لا يمكن المحافظة على الإسلام والبقاء في الهامش. لا تظنوا بأن الواجب يسقط عنكم بانعزالكم".
4- الميل نحو الوحدة: وهذا يلتقي مع تأكيد الثورة الإسلامية وقيادتها على ضرورة تحقيق الوحدة بين كافة الفئات وبين كافة المذاهب الإسلامية فهذه الثورة بكونها تقتدي النهج المحمدي الأصيل لا تقبل أي تمييز بين المسلمين ولا تؤكد على الجوانب المثيرة للخلاف بين المسلمين بل أنها تخطو نحو اتحاد المسلمين وقد ظهر هذا الأمر جلياً عبر إقامتها ليوم القدس العالمي.. وأسبوع الوحدة الإسلامية.. ونشر ثقافة التقريب بين المذاهب الإسلامية وإرساء أسسها في ربوع العالم الإسلامي.
مؤثرات الثورة الإسلامية:
لقد كانت الثورة الإسلامية فعلاً استثنائياً في المنطقة لم يكن متوقعاً على الإطلاق في تلك الفترة، وبالتالي ترك أثره على كافة الحركات السياسية والإسلامية في العالم العربي، بحيث لا يمكن القول بأن هناك حركة سياسية لم تتأثر بشكل أو بآخر بهذا الدوّي الذي أحدثته الثورة وتعاليم قائدها(رض).
وأنه بقدر ما كانت أخبار وأصداء الثورة مجلجلة عالمياً، كان التأثر بها أيضاً ضخماً رغم كل المحاولات التي بذلتها القوى الدولية لامتصاص وهجها الثوري عبر إغراقها في حروب مفروضة وضغوط متعددة ومتنوعة، إلّا أن هذا الوهج الثوري استمر ومكنّ من الحفاظ على حالة النهوض بكل المنطقة التي ارتكزت على قوة دفع هذه التجربة بكل ثقلها.
وأنه من هنا نقول بأن الثورة الإسلامية النابعة عن الدين، ساهمت في إحياء الدين وتجديد حياة الإسلام في إيران وفي العالم, بحيث أنعشت الأمل في صدور الجميع وضخت دماء جديدة في سائر المجتمعات ضد الهيمنة الاستعمارية التي كانت على وشك السيطرة الكاملة على الأوضاع في المنطقة.
وفي الواقع أن هذه الثورة، لم تلهم الإسلاميين فقط, وإنما ألهمت كذلك التيارات السياسية اليسارية والقومية التي آثار إعجابها جماهيرية الثورة واهتمام قيادتها الاجتماعي وانحيازها للطبقات المستضعفة.
وأنه بالالتفات إلى المواقف التي كانت عليها غالبية الحركات الإسلامية، قبل انتصار الثورة الإسلامية، في مواجهة مظاهر الحياة العصرية والمدنية المذهلة في العالم الغربي، نجد أنها كانت تتسم بالانفعالية والتخبط، إذ كان هناك شك وتردد يساور معظمهم حول مدى فعالية الإسلام في إدارة المجتمعات الإسلامية بأسلوب معقول ومناسب. إلا أن ما حصل من تغييرات جذرية على جميع الأصعدة مع انتصار الثورة، كان دليلاً ناطقاً أثبت لتلك الحركات قدرة الإسلام كعقيدة، وإيديولوجيا سماوية على أحداث تحولات جذرية، ومهمة على مستوى العالم، وإعطاء حلول وطرق لإدارة المجتمعات العصرية في العصر الحديث، ويقول سماحة القائد الخامنئي(دام ظله) في هذا المجال: "اليوم شهد العالم حركة إسلامية عظيمة بات فيها الإسلام في أفريقيا وفي آسيا وحتى في قلب أوروبا ناشطاً, وقد اكتشف المسلمون شخصيتهم وهويتهم الحقيقية، وبعبارة أخرى لقد ولّى ذلك العهد الذي كانت الثقة بالنفس لدى المسلمين معدومة في الفئات المثقفة، حيث كان الكثير منهم يرغب في الذوبان في الهوية العالمية ونسيان ماضيهم, وإذا كانوا ينظرون إلى ماضيهم، كانت نظرتهم نظرة تغننية ومن أجل التسلية, وقد أحيت الثورة الإسلامية الثقة بالنفس التي كانت تشكل، حتى اليوم؛ الرصيد للحضارة الإسلامية الكبرى وعملت على تخصيبها".
وقد ترك تجديد حياة الإسلام هذا على الحركات الإسلامية، وحركات التحرر آثاراً مختلفة، وتمثّلَ أحد هذه الآثار في انتخاب الإسلام كأفضل وأكمل أسلوب للكفاح ومقارعة المعتدين والمستبدين.
انعكاس الثورة الإسلامية على الساحتين الفلسطينية واللبنانية:
أولاً: لقد كان لانتصار الثورة الإسلامية في إيران صدى كبير على الساحة الفلسطينية التي اجتاحتها فرحة عارمة يومذاك، وحيث استشعر الجميع أنّ أبواب الفرج انفتحت بعد طول حالة اليأس والقهر. وكان أن دخل الخط الإسلامي المقاوم ساحة الجهاد، بإستراتيجية جديدة، وحيث لا يجعل المجاهدون للطغاة عليهم من سبيل, وذلك بعد أن أيقن الواعون من أبناء فلسطين العزيزة أن تحرير فلسطين ليس عند الأمم المتحدة وليس عند الحكومات المتخاذلة، لكنه ممكن بسواعد أهلها المعتمدين على الله وحده والملتزمين بخط المقاومة والنهج الثوري الجديد.
ثانياً: لقد كان لانعكاس أجواء الثورة صدى قوي على الساحة اللبنانية، بمختلف توجهاتها، مما أوجد مناخاً معنوياً وزخماً ثورياً، وحالة من الصحوة بعثت روح الحماسة وإرادة المواجهة لدى الجميع. وذلك عبر عملية الاستنهاض التي عمّت المنطقة من أقصاها إلى أقصاها... وإنه من رحم هذه الثورة المباركة وإرشادات قيادتها الحكيمة كانت ولادة وانطلاقة المقاومة الإسلامية على أرض لبنان ومن ثم الانتفاضة على أرض فلسطين؛ تلك القيادة الفذّة التي ألهبت القلوب والعقول بوهج نداءاتها وتوجيهاتها "إن إسرائيل تعتبر بنظر الإسلام والمسلمين وبكل الموازين الدولية غاصبة ومعتدية ونحن نرى إن من غير الجائز التهاون والتساهل في الوقوف بوجه اعتداءاتها"، "على المسلمين عموماً والحكومات الإسلامية خصوصاً مواجهة جرثومة الفساد إسرائيل بأي نحو ممكن"، "إن تحرير القدس وكفَّ شر هذه الجرثومة الفاسدة عن البلاد الإسلامية هو في الأساس واجب على كل المسلمين".
وأنه من خلال هذه الخلفية، وهذا التكليف تحديداً، كانت ولادة حزب الله وإطاره الجهادي المقاومة الإسلامية, التي أسقطت من الوجدان العربي والإسلامي اليأس والإحباط والاستسلام، وثقافة الهزيمة أمام إسرائيل التي كانت مسيطرة سيطرةً مطلقة، واستبدلتها بثقافة الثقة بالنفس والأمل والعزة والإرادة والانتصار.
وإنه من هذه الروح المستمدة من روح، وهمّة تلك الثورة الإلهية، تواصلت المقاومة منذ انطلاقتها حتى انتصارها، وكان أن انتقلت في أدائها من إنجاز إلى إنجاز، ومن نصر إلى نصر، متجاوزة كل الصعوبات والتحديات والاستحقاقات التي واجهتها؛ لتخرج منها أكثر قوة ومنعة وعزماً وإصرارا على مواصلة الطريق الذي رسمته بجهودها وتضحياتها، وسلسلة انتصاراتها الميدانية، والسياسية، والتي كان أشدها قسوة على الكيان الصهيوني؛ التحرير عام 2000م، والانتصار المدوّي في تموز 2006م، مسجلة عبر حركة سيرها معالم الأنموذج الأبرز لانعكاسات الثورة الإسلامية وقيادتها المظفرة.
الصحوة الإسلامية المعاصرة والثورة الأم:
منذ انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية والعالم الإسلامي، يشهد حركة مضطردة للصحوة الإسلامية وعصراً جديداً من الوعي الإسلامي وحضوراً فعالاً لمقاومة الهيمنة الإستكبارية وتحديداً الأمريكية.
وقد كان من الطبيعي أن تستنهض الثورة الإسلامية الأمة بكل إمكاناتها وقواها, بعد أن جسدت قيادتها الحكيمة معالم صدر الإسلام في زمن أضحى فيه المسلمون حوالي -المليار ونصف- تتقاذفهم أمواج الإيديولوجيات الوضعية، والنزاعات الطائفية، والانقياد إلى هذه القوة الدولية تارة وإلى تلك تارة أخرى.
وبالتالي، كان لا بد أن يثير انتصار هذه الثورة القلق الشديد لدى الأجهزة الإستكبارية من حدوث ثورات مماثلة في بلدان تعيش نفس المشاكل والظروف.
كما لم يقتصر هذا الفزع على احتمال اندلاع ثورات أخرى، فقط، بل امتد ليشمل الخوف من الإيديولوجيات الدينية الإسلامية أيضاً لأنها كما تبيّن لهم، تفرز وعياً هائلاً للذات يستند إلى الإسلام وقد يسفر عن صحوة المسلمين، وحضّهم على الإنعتاق من هيمنة القوى الكبرى، وتحقيق الحرية والاستقلال لأنفسهم.
وبناء عليه، راحت الدوائر الإستكبارية تعمل على محاربة كل ما يمّت لهذا النهج والتوجه بصلة, موعزة لأدواتها من الحكام في البلدان الإسلامية وبالخصوص في الدول العربية على الحد من تأثير وهج الثورة وقيادتها المستنهضة للأمة، وخصوصاً بعد الإعلان عن أكبر مشروع استنهاضي يهدف إلى توحيد الأمة والتفافها حول قضاياها المحورية والأساسية، ألا وهو اعتبار آخر جمعة من شهر رمضان يوماً للقدس الشريف يتوحد فيه المسلمون من أجل قضية مركزية، ليعلنوا احتجاجهم على اغتصاب فلسطين ووجوب نصرتها وتحريرها من الصهاينة المغتصبين.
وعلى هذا الأساس عملوا على إثارة مواضيع متعددة لبلبلة الرأي العام كان من بينها -على سبيل المثال- موضوع تصدير الثورة, حيث فشلت قواميس الدول القمعية في فهم المعنى الجوهري لعبارة الإمام(رض) حين قال: "إن حركتنا آخذة بالتوسع وتتجه إلى داخل الشعوب"، وكان أن اعتبروا هذا الأمر تدخلاً للإطاحة بالأنظمة السياسية، ولكن بعد عام, جاء في كلام له(رض): "إن تصدير الثورة بالسلاح لا يعد تصديراً, ولكن التصدير الحقيقي يكون عندما تتنامى الحقائق الإسلامية والأخلاق الإسلامية والأخلاق الإنسانية".
وفي مجال آخر قال(رض) أيضاً: "إن معنى تصدير ثورتنا هو أن تستيقظ كافة الشعوب وتستيقظ كافة الحكومات لإنقاذ أنفسهم من هذه المحن التي يعانون منها".
وعليه، وبسبب المكائد والخطط الخبيثة التي وضعها الاستكبار بالتعاون مع الأنظمة المستبدة العميلة، تأخر تأثير الثورة الإسلامية في صحوة الشعوب ونهوضها، وبالتحديد العربية منها, وذلك بعد أن صار للإعلام الغربي الحقود, أو العربي الموالي للغرب، والمحلي التابع للسلطات المستبدة دوراً تخريبياً قاسياً لحرف مسار الحركات الشعبية عن مسارها، أو لتشويه صورة الثورة وأهدافها وتصويرها على إنها ليست سوى نوايا فارسية لغزو البلدان الإسلامية، والعربية منها تحديداً، وبسط النفوذ عليها وبالخصوص الدول الخليجية, وكان القصد، خلق أوهام لدى شعوب المنطقة وصولاً إلى ضرب حالة التفاعل بينها وبين الثورة.
غير إن ذلك كله، لم يلغي التأثير, بل صار أنموذج الثورة الإسلامية مشعلاً يستلهم منه المجاهدون الواعون والإسلاميون المخلصون، والذين اقتنعوا بصوابية الخط والنهج.
ولذا رأينا أن كل ما نادت به الثورة الإسلامية في إيران من تغيير الأنظمة الفاسدة، والانعطاف من ربقة الهيمنة، والارتهان للغرب، والدعوة لوحدة المسلمين ونصرة فلسطين وتحديد وجهة العداء نحو الكيان الصهيوني، وكل ذلك لم يعد قناعات في عقول النخب الواعية بل تحولت إلى قناعات شعبية جماهيرية ترجمتَ عملياً في الشعارات التغيرية التي رفعتها هذه الثورات سواء في تونس، أو مصر، أو ليبيا أو اليمن أو البحرين.
وإذا كانت هذه الثورات تحمل نفس شعارات الثورة الإسلامية المعادية بوضوح لأمريكا وللكيان الصهيوني لظروفها الخاصة بها, فإنها بالتأكيد اختزنت في وعيها هذا العداء المتجذّر للمستكبرين والطغاة الذين عملت ثورة الإمام(رض)، ولا زالت على مقارعتهم وتأديبهم بعد أن طرحت قيماً ثقافية جديدة شكل التوجه نحو الجهاد أحدها. وكان أن اتخذت الحركات الإسلامية، بعد الثورة الإسلامية الإيرانية، الجهاد والشهادة والتضحية بالنفس كمبادئ أساسية.
كما استجابت النخب الإسلامية لقيام ثقافة التقريب بين المذاهب الإسلامية وساهمت بإرساء أسسها في ربوع العالم الإسلامي، مما شكل خطوة إيجابية فاعلة في مسيرة الصحوة الإسلامية التي نشهدها حالياً، وحيث بات واضحاً لدى هذه النخب بأن من لا يؤمن بالتقريب كمن يفرّط في مستقبل هذه الأمة التي حققت من خلال العديد من المشاريع التقريبية والبرامج الوحدوية، الكثير من الفرص كي يجلس العلماء والمفكرون من كافة الأطياف والمذاهب الإسلامية على طاولة واحدة ليفكروا في مستقبلها، خاصة في ظل العولمة وثورة الاتصالات.
وإن ما يستدعي التوقف والالتفات، هو أنه من الصعوبة أن تتحقق الصحوة الإسلامية، أو تحقق أهدافها إلا من خلال تقارب واضح بين المسلمين والقفز فوق المشاكل الجانبية, ولذلك نجد أن النخب الواعية تضع نصب أعينها مسألة رأب الصدع، والبحث عن المشتركات، والتعاون حتى تتضافر القوى وتتجمع الطاقات وتوحد الجهود نحو الهدف الكبير والأساس.
ومن هنا نرى، أنّ رموز الصحوة الإسلامية في عالمنا المعاصر هم دعاة تقريب, ولذا رافق هذه الصحوة دعوة لتجاوز الخلافات المذهبية والطائفية، لأنهم يعلمون أكثر من غيرهم بأن المخططات الخبيثة تكمن في تلك التي عملت على زرع الخصومات، والعداوات، وبؤر التوتر، وحيث أفلحت حالة التشظي والفرقة بين الدول الإسلامية بأن تشغل شعوبها عن الهموم والقضايا الرئيسية والمحورية الكبيرة.
ومن هنا، نجد أن الصحوة الإسلامية التي تماهت مع الثورة الإسلامية المباركة في إيران، والتي كان لها هذه المعطيات الباهرة لجهة الانفتاح على الآخر المسلم دون حدود، ذلك لأنه كان على رأسها قائد رباني ملهم؛ هو الإمام الخميني(رض) الذي صان الثورة وأحكمها بإصراره، وشجاعته، ووضوح الرؤية لديه، ومن ثم استمرار هذه القيادة الرشيدة على يد السيد القائد الخامنئي(دام ظله).. وهذا ما فتح فصلاً جديداً في تنامي موجة الصحوة في العالم الإسلامي، وأثبت للجميع أنه بالإمكان إعادة العزة والقوة مرة أخرى إلى الناس كافّة، في ظل التعاليم الدينية والالتزام بالقيم الإسلامية الشامخة، والدفاع عن الكرامة الإنسانية بكل قوة. وحيث اعتبر في إحدى كلماته قبل فترة وجيزة: "أن الصحوة الإسلامية التي تشهدها المنطقة تبشر بانتصار الشعوب على الاستكبار، وسيادة الإسلام في المنطقة والعالم".
"وإن المؤامرات التي حاكها الغرب ضد المسلمين منذ عشرات السنين لن تجدي نفعاً وإن الانتصار النهائي للإسلام وهو قادم لا محالة".
كما يوصي السيد القائد دام حفظه:"وصيتي المهمة الحذر من الاختلافات المذهبية والقومية، والعنصرية، والقبلية، والحدودية. اعترفوا بالتفاوت ووجّهوه بإدارة حاذقة. التفاهم بين المذاهب مفتاح النجاة.
أولئك الذين يضربون نيران لتفرقة المذهبية أو يعمدون إلى تكفير هذا وذاك هم عملاء الشيطان وحده حتى لو لم يعلموا هم بذلك".
المعسكر الشرقي قد انهار والمعسكر الغربي يتوسل بالعنف والحرب والخدعة ليحافظ على بقائه وليس له عاقبة خير متصورة في الأفق.
ويبقى أخيراً: إنّ الصحوة الإسلامية المعاصرة التي يشهدها العالم اليوم، والتي باتت واقعاً قائماً في المجتمع العالمي، وتحدٍ كبير لقوى الاستكبار, والتي تمثل ظاهرة بارزة من ظواهر العالم الإسلامي، هي في الواقع، كما يقول العديد من الخبراء والباحثين، من ثمار انتصار الثورة الإسلامية الأم في إيران، والتي مهدت طوال ما يزيد على الثلاثين عاماً لصحوة ونهضة الشعوب الإسلامية والعربية.
فالجمهورية الإسلامية الإيرانية اليوم هي -كما هو معلوم للجميع- رائدة التحرر وحاملة لواء الحركات الإسلامية المناهضة للاستكبار في المنطقة وفي شتى أنحاء العالم.
كلمة الحاجة عفاف الحكيم، مسؤولة الجمعيات الثلاث (الرابطة اللبنانية الثقافية، الجمعية النسائية للتكافل الاجتماعي، جمعية الأمومة والطفولة)، التي ألقتها في مؤتمر التقريب بين المذاهب 6-1-2012
اترك تعليق