مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

آخر هدية

آخر هدية: انتظرته وذهب من أجل أن يعيد إليها وإلى كل فرد كرامته ووطنه السليب

كانت تعيش في قلق وانتظار، فماذا كانت تنتظر يا ترى؟ بعد أن رحل عنها الحبيب وفارقها القرين؟ لقد كانت تنتظر هدية! نعم هدية أرسلها إليها قبل أن يرحل وقبل أن يغلق عينيه الغاليتين عن هذه الحياة ليفتحها من جديد في عالم النور والخلود وهدايا الحبيب حبيبة مهما كانت لأنها التعبير المجسّد للعواطف والمثال الناطق عن التجاوب والتقارب، ولكن هذه الهدية فريدة في بابها لأنها هدية زوج راحل أعدها لكي تصل إلى يد زوجته في وقت يكون هو فيه قد فارق الحياة... إنها ذخيرة واحدة من مجموع ما أمدها به من ذخائر ثمينة خلال أيام اللقاء... ولهذا كانت تنتظرها بفارغ صبر ولهذا أيضاً كانت تتساءل عمّن عساه يعرف من أمرها شيئاً... لقد أخبرها بذلك قبل أن يرحل عندما كان يتدرب على خوض معركة الانتصار معركة الكرامة وأكاليل الغار ولكنه رحل قبل أن يسلمها إياها. نعم إنه رحل وتركها تنتظر عودته سالماً يحمل إليها معه هديته المنتقاة... ولكنه لم يعد، نعم إنه لم يعد وأنّى له أن يعود؟ إنّ من يذهب إلى ساحة الحرب وهو مؤمن بقضيته التي يدافع عنها من العسير عليه أن يعود دون أن ينال إحدى الحسنيين: (فأما حياة تسر الصديق * وأما ممات يغيظ العدا).

كثيرون أولئك الذين ذهبوا وعادوا للحياة... ولكن أتراها حياة هذه التي اشتروها بثمن باهظ من الانهزامية والتخاذل والاستسلام؟ كلا إنها الموت بعينه والله... وزوجها الراحل، هذا الشهيد الذي سقط في (معركة الكرامة) وهو يدافع عن أرضه المغتصبة، ودياره المباحة نعم زوجها الذي فارقها قبل أن تطفأ شمعة عرسه وودعها وزهرة زواجهما لم تتفتح بعد، هذا الحبيب الذي غرس في نفسها من قبل أن الروح الغالية حقاً هي التي ترخص أمام الواجب ولهذا خلفها وهي ما زالت ترفل في ملابس عرسها. وذهب إلى ساحة الجهاد، هذا الحبيب كان قد وعدها بهدية فما ألهفها على استلام تلك الهدية الحبيبة لقد انتظرته طويلاً وهو في مكانه البعيد تتسقط أخباره وتتابع آثاره وتبتهل إلى الله أن يشدّ أزره ويضاعف صبره وثباته في مجابهة العدو... ثم ها هي الآن تنتظر هديته بعد أن خاب انتظارها لشخصه الحبيب بعد أن سقط شهيداً في معركة البطولة وملحمة الحق والكرامة، أفتراها تنسى أنه كان قد وعدها بهدية وأنّى لها أن تنسى؟
وقد نقشت صورته على صفحات قلبها بخطوط من نور زادها الموت بهاء ورداء... أنه فارس أحلامها حياً وميّتاً. أنها ما زالت تعيش معه وتعيش من أجله وهي فخورة به سعيدة لذكراه، إذن فمن حقها أن تنتظر الهدية وتترقبها في شوق وحنين... ثم وصلتها الهدية بعد فترة من الزمن قصيرة في حساب الأيام طويلة في حساب العواطف والأحداث... نعم لقد وصلتها الهدية فتطلعت نحوها وهي ما زالت في اليد التي حملتها إليها من بعيد... تطلعت إليها كما تطلعت إليه من قبل شهور وهي تراه لأول مرة كطيف ملائكي مشرق بالنور، وعادت بأفكارها إلى تلك اللحظات حيث كانت تتطلع إليه كأمل لحياة زوجية سعيدة وحيث كادت تهتف لولا رادع من حياء -أنه أمل حياتي وفارس أحلامي المنتظرـ نعم إنه كان ولا يزال فارس أحلامها وأمل حياتها حتى ولو أنه ذهب ولن يعود. لأنه ذهب من أجلها هي، من أجل كل زوجة مظلومة. من أجل كل طفل بائس، من أجل كل شاب تائه؛ نعم إنه ذهب من أجل أن يعيد إليها وإلى كل فرد كرامته ووطنه السليب، ذلك الوطن المقدس الحبيب الذي أصبح نهباً للدخلاء والعملاء والمستعمرين، أفلا يحق لها أن تبقى تعيش معه ومن أجله كما كانت تعيش من قبل؟ وامتدت يدها تستلم الهدية وكل ذرة في كيانها تنطلق بالفرحة والحسرة وفتحتها أمامها وأطرقت ملياً تتطلع إليها ببلسم من بلاسمه التي طالما مسح بها على جراح قلبها من قبل فماذا كانت الهدية يا ترى؟ كانت لوحة خضراء كتب عليها بحروف بارزة هذه الآية الكريمة:
«الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعون * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ».
وعلقتها حيث يمكنها أن تفتح عليها عينيها في كل صباح وحيث تكون آخر ما تبصره عيناها في كل مساء تماماً كما كان هو من قبل... ثم وقفت أمامها لكي تعاهد الله وتعاهده من جديد بأنها سوف تبقى سائرة على الطريق الذي سار به من قبل حتى تجد أمامها راية الحق وهي ترفرف فوق الأرض المحتلة في فلسطين، ومتى عصف بها الشوق أو ضجّ بها الحنين تذكرت الآية المباركة لكي تكتسب منها مزيداً من الاطمئنان...

المصدر: "مقتبس من كتاب "ليتني كنت أعلم" للشهيدة آمنة الصدر (بنت الهدى).

التعليقات (0)

اترك تعليق